لماذا العملة الصعبة ؟
يزداد اللغط هذه الأيام عن ماهية ” المثقف ” إزاء مصطلح ” السياسي ” .. ولما كانت هناك فوضى في المفاهيم ، وبعثرة في المعاني .. ومواقف متنوعة حيال هذه ” الظاهرة ” في مجتمعاتنا هذه الأيام ، فاسمحوا لي أن أقول كلمتي في هذا المجال ، بالرغم من أنني قد قلت ذلك في مناسبات سابقة .. ولكنني احرص من خلال هذا التأكيد على أكرّس ما أقول ، أمانة وواجبا مني تجاه المثقفين أجمعين ، وهم المبدعون للكلمة ، والمنتجين للمعاني ، والخلاقين للتشيؤات ، والمخصبين للحياة وكل منهم قد تمّيز عن الآخرين .. ويبدو لي أن ثمة فواصل سميكة تفصلهم عن كل (السياسيين) الذين لا يمكنهم أن يستمعوا ويصغوا تماما للمثقفين .. إن هناك مواقف سلبية تجاه المثقفين الذين مهما كانت درجتهم من القوة ، فهم أصحاب موقف .. في حين يلهث السياسي نحو السلطة بأي ثمن كان ! ويبدو لي أيضا ، أن المثقفين هم الخصوم الألداء لكل أصحاب السلطة .. وقلما نحظى في بلداننا بحكام نجحوا بتجسير الفجوة بينهم وبين المثقفين .. وانتصروا للمثقفين ، إلا ما ندر ، إذ يبقى المثقف الحقيقي ” سكينة بخاصرة ” أي سلطة سيئة كانت ، سياسية ، أم إدارية ، أم اجتماعية ، أم اقتصادية .. نظرا للموقف الذي يتخذه من مجمل الاوضاع . إن أقسى حالات الانفصام عندما يهمّش كل المثقفين الحقيقيين ، ويشعرون أنهم خارج نطاق قضاياهم الوطنية والإنسانية ، وأنهم قد ابعدوا بالرغم من أنوفهم ، كما يحدث لمثقفين عرب من بلدان عربية حكمها شوفينيون .. إن أسعد ما يعّبر عنه المثقف الحقيقي الذي لا يطمح لا إلى سلطة ، ولا إلى جاه ، أو شهرة .. عندما يقترب منه الناس ، ويبتعد عنهم المتسلطون .. وأن أتعس ما يمكن توصيفه ، هو أن يقول المثقف شيئا ، فتسرق السلطة هذا ” الشيء ” ، وتسوقه لنفسها ، أو تعّتم عليه من دون ذكر صاحبه الحقيقي . لقد أنجبت مجتمعاتنا على امتداد تاريخ طويل نخبا حية من مثقفين حقيقيين ملتزمين بقضايا وطنية ونهضوية وإنسانية ، ولكنهم لم يأخذوا من حقوقهم الطبيعية شيئا يذكر .. لم يتبق إلا اسمهم ، ولكن حتى هذا الاسم ستغفله الأجيال الجديدة .
معنى المثقف الحقيقي
كلمة ” مثقف ” كبيرة جدا عندي ، واتحّرج عندما أطلقها على أي شخص ، لا يتمتع بمؤهلات ليست عادية تؤهله حقا لحمل هذه ” الصفة ” .. إن معناها لا يحدد بتعريف عادي هزيل ! بل يمتد كي يجد نفسه في إنسان تعب كثيرا على نفسه ، من اجل أن يغدو واعيا بالحياة وطبيعتها وتكويناتها وتجددها ليس من خلال ميراثه الذي اكتسبه في بيئته المعينة حسب ، بل من خلال تكوينه التربوي والسلوكي والحضاري عالي المستوى .. المثقف ينبغي أن يكون مبدعا في حرفته ، وبقدر ما يكون ماهرا في حرفيته وصنعته وخزين معلوماته ، فان درجته كمثقف ستكون بالضرورة واضحة تمام الوضوح .. إن المثقف ليس شرطا أن يكون حامل صولجان ، ولا حامل شهادات ، ولا جوائز دولة .. والمثقف لا يمكنه أن يكون مخادعا ، كي يجيد التعبير ، وإلقاء المواعظ والهذيان على الناس.. انه مثقف حقيقي له القدرة على الخلق والابداع ، وهو فنان في أسلوب التعامل مع الآخرين .. المثقف الحقيقي لابد أن ينفتح على ثقافات العالم ، وان يعّبر عن واقعه على أروع ما يكون التعبير .. وان يكون مؤمنا بالحريات والمنطق والإنسان . المثقف الحقيقي يدرك كم هو حجم من يقابله أو يتعاطى معه .. المثقف أنواع ، كما افرزه لنا إياه القرن العشرون : مثقف حر ، ومثقف ملتزم ، ومثقف مختص ، ومثقف عضوي ، ومثقف مبدع ، ومثقف سياسي ، وطبعا مثقف سلطة .. الخ وبطبيعة الحال هناك الآلاف المؤلفة من أنصاف المثقفين ، أو من المحسوبين عليهم !
باختصار : المثقف هو من يدرك كم هو حجمه لدى الآخرين ، ويعرف كم هي خطوات الآخرين إزاء خطواته ، وهو من يعمل ليل نهار على أن يقّدم شيئا ينفع المجتمع باعتراف الآخرين بذلك .
المثقفون الحقيقيون في مجتمعاتنا نادرون هذه الأيام ، وهم الذين باستطاعتهم تحرير ” ثقافتنا ” المسجونة ، وفك عقدها وقيودها ، وتطبيبها من الأمراض .. فأمراضها اليوم قاتلة ، بعد أن كبّلت بالتعصبات ، وقيّدت بالسياسات ، وصبغت بالمؤدلجات ، وحبست بالأفكار المطلقة .. إنها ثقافة المطلق وليست ثقافة التفكير النسبي .. وعليه ، فهي ليست لها القدرة للتعامل مع عصر المتغيرات الصعبة .. ثقافتنا جريحة من خلال مثقفينا في أدواتها المتنوعة ، لغوية كانت ، أم فكرية ومنهجية وأخلاقية سلوكية .. ولقد وصفتها قبل سنتين كونها لم تعرف الاستحمام منذ أزمان طوال ، وهي تجلس بكل ملابسها الرثة في قفص حديدي مغلق !!
المثقف الحقيقي هو المثقف الحر
اما المثقف الحر ، فلا يمكنه أن يمارس دوره الحقيقي بملء إرادته ، وإلا فان الهجمة عليه تكاد تجتثه من جذوره وترميه أسفل سافلين .. ثقافتنا ببغاوية تردد ما يقوله هذا ، وتستلب ما يقوله ذاك .. ولقد فجعت اليوم بالآليات الجديدة ، وبوسائل العصر التكنولوجية وثورة الانترنيت التي اخذت تضرها بواسطة جيل جديد غير متمكن حتى من أدوات الكلام ، ووسائل الخطاب ، وقواعد النحو البسيطة .. وغدت تعيش فوضى القيم بلا أية محددات ولا تشريعات ! ثقافتنا في أزمة أخلاقية على أيدي من يمثّلها ، إنها مليئة بالأكاذيب والدجل والمراوغة والهذيان وقد دمرتها التباينات من بلد لآخر .. نعم ، ذبحتها تباينات سياسية ومعيشية واجتماعية .. ثقافتنا دمرتها السياسات المتضاربة ، والصراعات الإيديولوجية ، والثروات البترولية ، والموجات الاصولية .. لا يمكن للثقافة أن تعيش إلا إذا كانت معّبرة عن الواقع تعبيرا حقيقيا ، فإذا كان الواقع مزريا وآثما ومنقسما ومتصارعا ومتخلفا ومنهزما ومتداعيا إزاء تيارات ماضوية كئيبة وفوضوية ساذجة ، وبدائية بليدة .. تيارات تستخدم الإعلاميات المتنوعة لغسل أدمغة ملايين الشباب .. وهل هناك من بقية كي نجيب على أسئلة ندرك مسبقا بأن حياتنا العربية ـ مثلا ـ باتت بلا ثقافة حقيقية ، وغدت بلا إبداع متأصل ، وأصبحت فوضوية مهترئة إلى الدرجة القاتلة ! وفي كل مرافقها الأكاديمية والإبداعية والاجتماعية والمؤسساتية .. لم نعد نجد السياسي مثقفا ، ولا الأكاديمي ، ولا النقابي ، ولا طلبة الجامعات ، ولا الكتّاب ، أو الإعلاميين بأناس مثقفّين حقيقيين .. إنهم ، عموما ، متخلفون ، وهم مجموعة أدعياء لا تستطيع أن تفتح معهم موضوعا معمقا وتتوغل فيه معهم .. إنهم مثقفون بلا ثقافة .. إنهم مثقفون بلا قراءة .. الثقافة العربية ـ مثلا ـ لا يمكنها أن تنحصر في أزمة كتاب ومجلة ومحطة تلفزيونية او موقع الكتروني ، وأناس لا يهمّها من الكتاب إلا منظره وشكله على رفوف الخزائن الخشبية من دون قراءة صفحة واحدة منه !!! ولا يمكن أن نجد مثقفا حقيقيا ، قد قرأ وتعب على تكوين عقله وفهمه ومداركه ووعيه واتساع أفق تفكيره إلا من خلال القراءة لأنواع من المنشورات والكتب والمطبوعات وتخزينه كم هائل من المعلومات .. وعرف كيف يكّون له فلسفته ، وكيفية التعامل مع الحياة بأسلوب لبق وراق .. وحتى عملية القراءة ، فهي تتطور مع منتجات العصر ، فأي منتجات عصرية ينتجها العرب يسابقون فيها العالم ؟ أي موضوعات مهمة ينشرها العرب ويتلقفها العالم ؟ أي تفكير نسبي يؤمن به العرب بين شظايا المطلقات ؟ هل زرت احد معارض الكتب التي تقام في عواصم عربية من حين لآخر .. ابحث عن الجديد فلا تجده الا نادرا .. واسأل عن المضامين الجديدة فلا تجدها .. اذ لم تجد الا إعادة طبع كتب تراثية ملونة ومذهبة ومقصّبة ، ولكن أكل الدهر على مضامينها وشرب ! وان ما ينتج من جديد مبدع ومتميز لا يستوي وحجم منظومتنا السكانية التي ترّدت ثقافيا منذ ثلاثين سنة !
دعاة كاذبون ومدعيات كاذبات
اصبح كل الدعاة من الساسة والمهرجين والمؤدلجين والمتعصبين والكاذبين والأفاقين والدجالين والمتكلسين والمهلوسين أصحاب مكانة ونفوذ في مجتمعات لا تعرف إلا التأييد المطلق ، والتصفيق الدائم ، والتطبيل الأجوف ، ولا تعرف إلا المجون المستتر .. وثمة كاتبات يكتبن روايات سخيفة عن تجاربهن العاطفية ويظهرن بمظهر المثقفات المتحررات !! تجد الازدواجية مفضوحة أمام كل العالم .. تجد فنانات لا يعرفن أي معنى للثقافة ، يتحجبن فجأة ويقدمن محاضرات في جامعات خليجية كونهن ” أستاذات ” ! تجد رجل دين بسيط أصبح يطلق عليه بالمثقف وتجد كتّاب الدرجة العاشرة ، وقد غدوا من رعيل المثقفين .. وأصبحت حتى الإعلاميات اللواتي عرفن بكل سيرهن السيئة وموبقاتهن في محطات الإذاعة والتلفزيون مثقفات عاليات المستوى !
للحديث صلة
نشرت في مجلة روز اليوسف القاهرية ، 30 مايو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …