تتعالى أصوات العالم من أجل أن تنفتح أبواب المجتمعات وثقافاتها على بعضها البعض، وفي مختلف اتجاهات التفكير والوعي، وبسرعة مباغتة، عبر موجات خفية لم تقتصر على ما أنتجته مستحدثات الثورة التكنولوجية في القرن العشرين، نعيش مرحلة ما بعد التكنولوجيا الحاسوبية، وبدء ثورة المعلومات، و العالم كله يتغّير تغييرا جذريا. أمر علينا أن نحسب حساباته نحن في مجتمعاتنا كلها مع معرفتنا بأوضاعنا المعاصرة، ورؤيتنا لمستقبلنا وأجيالنا من بعدنا. وثمة من يندد بالمخاطر الجديدة هنا، والمنتظرة هناك، سياسيا وثقافيا. مجتمعاتنا قاطبة تعج بمجموعات من النخب المثقفة المتنوعة بأفكارها واتجاهاتها وتياراتها، ناهيكم عن أساليبها المختلفة. ولعل أخطر تلك الأساليب والمساهمات في منطقة الشرق الأوسط، هي التي تتلبسها الأقنعة الديماغوجية بكل ما تتمثّله من الازدواجيات والتناقضات. هناك من يقف ناظراً في أعالي الشرفات المؤدلجة بكل الشحنات السياسية، وهناك من يثوى في أعماق الأدغال، ودروبها المعتمة المغلقة، وهناك المرتبكون المحتارون الذين يكررون النصوص عند الحواجز بين الأسوار المتهاوية وبين الجدران المنهدمة، ناهيكم عن ركام المتحصنين في الأقبية والحصون القديمة التي لم يعد هذا العصر يلتفت إليهم! والمشكلة أن الجميع يتحدث باسم الثقافة والتقاليد والهوية والأصالة والتراث، وأن اخطر الأمور في الحياة الاجتماعية المعاصرة هي التي تمثلها مجاميع من المتخلفين عن ركب العصر الذين لم يلاحقوا الزمن في غياب الوعي التاريخي لديهم، وقد تجاوزهم العصر بمراحل، فأصابهم التحجر مع يوتوبياتهم ونصوصهم التي يجترونها ليل نهار، بل غدوا معضلة في الحياة المعاصرة لما يثيرونه من أزمات خانقة، ومشكلات مفتعلة في الحياة الجامدة، وبمسميات شتى.
لقد صدق وليم ماركيز في فكرته الرائعة عندما قال: إن ما حققته البشرية في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين يفوق بكثير ما أنجزته على امتداد آلاف السنين! ولا يمكن توصيف ما قد حصل فعلا في العالم في ذلك العقد الأخير، نظرا لضخامته، وركامات مكتشفاته، ومعلوماته، وقوة مؤثراته الصاعقة على مختلف المستويات في العالم كله، ليس سياسيا، وإنما معرفيا في الدرجة الأساس! وان افجع ما يمكن التفكير فيه تصور مجتمعاتنا في مجاميعها التي تتحدث باسم تلك المجتمعات، بأن كل الذي حصل هو تحصيل حاصل لدور الآباء والأجداد لحضارتنا العربية- الإسلامية، وان مستحدثات العصر تقاس من خلال ثوابتهم سياسيا, كونها موجهة ضدهم، وضد القيم والأخلاق والتقاليد والدين! ولعل الذي يصعق حقا ما حدث من تيبّس وتكلّس عند أولئك الذين تهمشوا نتيجة متغيرات العالم الإسلامي اثر انهيار مجموعة القيم الحديثة خلال ثلاثين سنة مضت، فازدادت عزلتهم، بل انكمشوا على أنفسهم محاولين التوفيق هذه المرة مع من كانوا يسمونهم بالرجعيين نتيجة هشاشتهم الفكرية عندما سقطت المنظومة الاشتراكية بعدما كانوا يتنطعون قبل خمسين سنة بالثورية والتقدمية والتحرر من أغلال الرجعية كما كانوا يسمونها! فغدوا يحملون أقصى درجات الازدواجية، بل وصلوا اليوم الى أعلى ذروة من الديماغوجية، باستثناء ندرة من أصحاب العقل والبصيرة في متغيرات العصر. ما الذي تحتاجه مجتمعاتنا للخروج من نفق العتمة ؟ إنها في حاجة إلى ثورة للأنوار، والوعي بالزمن، وتنمية للتفكير. فمتى تبدأ خطواتنا الأولى لاستعادة القيم الحديثة؟
مجلة الاسبوعية ، 24/05/2009 ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …