الاستنارة والتغيير والتأسيس التاريخي
مقدمة
نتواصل معا في الحلقة التاسعة من حوارنا ، والتي انشرها اليوم ، وهي ما قبل الاخيرة في مناقشة ردود الاخ الاستاذ الدكتور كاظم حبيب ومعالجته واياي موضوعات مختلفة ، وساتطرق في هذه الحلقة الى جوانب متعددة من الموضوعات المطروحة على جادة الحوار .. وسواء اقتربنا من بعضنا البعض ام تباعدنا ، فنحن الاثنان ليسا بخطين متوازيين لا يلتقبان ابدا .. وان التقينا فهو دليل مقاربة مثيرة ، وان تباعدنا فهو مثار بحث واستقصاء للاخرين وهو دليل بناء وانتاج خدمة للمعرفة والتاريخ .
1. تجربة التغيير : تطور اوروبا التاريخي
انتقل الان الى الاخ الدكتور كاظم حبيب الذي يكتب قائلا : ” إن تجربة التغيير في أوروبا خلال القرون الأربعة المنصرمة مهمة جداً لكل شعوب العالم, وكذلك التغيير في الولايات المتحدة أو عموم الغرب, ولا بد من الاستفادة من خبرتهم النظرية والعملية في عملية التغيير. ولكن هذا إن بلداننا ستسير في ذات الأنساق التي سارع عليها الدول الغربية, أي لا يعني بأي حال استنساخ تلك التجارب, إذ أن لنا واقعنا الخاص وثقافتنا وتراثنا وتركتنا الثقيلة, إضافة إلى الدين الإسلامي الذي هو دين الأكثرية في مجتمعات الدول العربية ودور المؤسسة الدينية في الحياة العامة والدولة حتى الآن “.
صحيح ان الغرب قد بدأ قبل ستة ـ خمسة قرون نهضويته وظواهرة الحديثة الكبرى المتوالية ، والتي اوضحتها تفصيليا في كتاباتي عن ” فلسفة التكوين التاريخي ” ، ففي القرن الخامس عشر انطلقت ظاهرة الاستكشافات الجغرافية والنهضة الايطالية وفي القرن السادس عشر انطلقت ظاهرة الاصلاح الديني لدى مارتن لوثر وكالفن وثورة الفلاحين .. وفي القرن السابع عشر انطلقت الثورة الماركنتالية العالمية وجمهوريات المدن التجارية .. وفي القرن الثامن عشر انطلقت ظاهرة الثورة الفكرية والقانونية والليبرالية والثورة الفرنسية .. وفي القرن التاسع عشر انطلقت الثورة الفلسفية في المانيا والصناعية في انكلترا .. وفي القرن العشرين انطلقت الثورة التكنولوجية والعلمية والفضائية وفي القرن الواحد العشرين تنطلق اليوم ظاهرة العولمة وثورة المعلومات والاتصالات والارقام الديجاتلية ..
2. شعارات يضحكون فيها على الجماهير
ولم تزل السذاجة راسخة وتكرر نفسها بنفسها عندما يقرنوا مصر باليابان ، فاليابان لا يمكن مقارنتها ابدا بأي تجربة شرق اوسطية .. ان مجتمعات آسيوية عديدة انطلقت ليس في بنيتها التحتية ، بل في بناء بنيتها الفوقية ، واعتقد ان ما قيل عن حرق المراحل لدى الماركسيين كان خطأ ، وما قيل عن اختزال الزمن لدى الليبراليين كان خطأ ، وما قيل عن الطفرة لدى القوميين كان خطأ ، وما قيل عن الصحوة الدينية لدى الاسلاميين كان خطأ .. ان ثمة خلل في الانسان نفسه وقدرته على الانتاج والابداع والعطاء في بيئاتنا .. ان الانسان ينبغي ان يتغير ولا يمكن ان يتغير من تلقاء ذاته ، او ان يتغير من خلال سماع قصيدة ، او سماع اغنية ، او كتابة مقال انشائي ، او ترديد شعار سياسي ، او المساهمة في صندوق انتخابي ، او علك مواعظ دينية على المنابر .. الخ .. كلها اساليب للتخدير وللتسويف وللتراجع في أزقة مظلمة .. ان الطريق واحد لا غير سواء كان على نهج اوروبا او امريكا او اليابان او جنوب شرق آسيا ..
3. عناصر التقدم التي أؤمن بها
انني اؤمن ايمانا كبيرا بأن مجتمعاتنا الشرق اوسطية بحاجة ماسة الى اربعة عناصر اساسية من اجل ان تنطلق كبقية بني البشر : القانون والالتزام بالنظام العام اولا ، التربية على منهج التمدن وحسن السلوك الحضاري ثانيا ، الكفاءة والمعرفة وتنمية التفكير ثالثا ، مهارة الادارة وروعة التنظيم رابعا .. نعم ، والتأكيد ينبغي ان يرسّخ في البداية على القانون والنظام .. ان وضع الانسان في اطار قانوني مدني محكم واطلاق حرية التعبير عنده ضمن مسافات وجعل القانون يربيه على النظام .. القانون هو الذي يصنع المعجزات .. والقانون هو الذي يغير المناهج سواء بمستحدثات اي جديد او باستعارة اي اخلاق .. القانون المدني هو الذي يطّوع الاهواء وهو الذي يجعل من الرعاع بشرا سويا .. وهو الذي يجعل الاذكياء في مواقعهم الحقيقية ويجعل الاغبياء في مواقعهم الطبيعية .. ان القانون هو الذي يخلق الاسس الحقيقية ويبني بناء تحتيا .. وهو الذي يحافظ على الحقوق والواجبات .. خذ اي قانون للمرور في اي مجتمع كي تقيس من خلاله مدى نجاح المجتمع او اخفاقه ثم تحكم عليه ! ان مقياس قوة الدولة وتمدن المجتمع لا يتم من خلال استعراضات القوة العسكرية وحاملات الصواريخ وهياج الاعلام بقدر ما يتم اكتشافه بسهولة من التزام سائق السيارة والحافلة في الشارع والتزام المارة بقانون السير .. عند ذاك تحكم من يكون ذلك المجتمع .
4. مراجعة نقدية : شكرا للدكتور حبيب
وشكرا للدكتور حبيب الذي يكتب مشاركا اياي افكاري قائلا : ” لقد ارتكبت الأحزاب الماركسية والأحزاب اللبرالية في الدول العربية أخطاءً فادحة حين تصورت إمكانية استنساخ تجارب الدول الاشتراكية أو تجارب الدول الرأسمالية وتطبيقها في الدول العربية, ويخطئ من يفكر بهذا الشكل في الوقت الحاضر أيضاً. لا بد من أخذ الواقع الملموس وما تحدثت به بنظر الاعتبار في بناء المجتمع الديمقراطي في الدول العربية , رغم كونه لا يزال بعيداً ” .
هذا جواب واضح وصريح لكل اولئك الذين يقفون حجر عثرة في طريق التغيير .. انه جواب مفكّر متمرس يشاركني افكاري اذ يجد الرجل بأن احزابا ماركسية وليبرالية في منظومة الدول العربية قد ارتكبت اخطاء فادحة .. نعم ، كانت على خطأ كبير عندما تصوّرت ان العملية مجرد استنساخ لتجربة اوربية هنا او هناك اشتراكية كانت ام رأسمالية يمكن تطبيقها وممارستها في اي مجتمع عربي .. والمشكلة ـ كما يقول الاخ حبيب ـ انها لم تزل على نفس منوالها واستعراضاتها ، لأنها لا تعرف طريقا غير الاستنساخ ..
5. المشكلة القومية وحتمية تطورها الى شوفينية عمياء
ويمكنني ان اضيف هنا ايضا ما قامت به الاحزاب القومية في منطقتنا سواء كانت في تركيا ام ايران ام المنطقة العربية وما ولد من احزاب قومية لشعوب وقوميات اخرى في المنطقة سواء للاكراد ام للطاشناق ام للشيشان ام للبلوش .. وغيرهم كلهم استلهموا من تجارب قومية اوربية مكرسين اياها في انظمتهم الداخلية ، وخلطوا بين الاوهام والمثاليات والمواريث والافكار الاشتراكية .. ولم يحقق اي حزب قومي في الشرق الاوسط اي نتائج باهرة ولا اي انتصارات قاهرة .. فاذا كانت التجارب القومية قد نجحت في اوربا ابان القرن التاسع عشر والتي قادت في النهاية الى كارثتي الحربين العظميين ابان القرن العشرين ، فان الاوربيين انتبهوا الى مأساة العوامل القومية التي قادتهم الى كل من النازية الالمانية والفاشية الايطالية ، فقد اخذوا طريقا آخر غيرها . فهل سيبقى الوازع القومي مهيمنا على التفكير السياسي حتى يقود الى دروب مسدودة كما حدث في تجارب اخفقت جميعها كما في مصر وسوريا والعراق .. ام ان المجتمعات ستنتبه الى ان مصيرها تحدده سياقات من نوع آخر ؟
6. سياقات من نوع آخر
لقد نجح الاخ الدكتور كاظم حبيب في طرح سياقات جديدة اشاركه فيها .. دعونا نقرأها معا ، فهو يكتب قائلا وهو يخاطبني : ” نحن بحاجة إلى تغيير جذري لمجتمعاتنا الريعية الاستهلاكية, زراعية كانت أم نفطية, وتحويلها إلى مجتمعات منتجة, زراعية وصناعية, ومجتمعات مفكرة وواعية. وهذا التغيير لا يتم عفوياً بل عبر عملية نضال طويلة ضد العوائق التي تضعها قوى كثيرة أمام التغيير المنشود, سواء أكانت داخلية أم خارجية. ولست بحاجة إلى أن أشير إلى كل ذلك بالتفصيل, فأنت يا صديقي الكريم أدرى مني بذلك. كما أن هذا التغيير لا يعني عفوياً تغييراً في الفكر والوعي والممارسة, بل يخلق الأرضية الصالحة لتغيير طريقة التفكير والوعي الاجتماعي والموقف من الدين والإنسان والمرأة … الخ. وهنا تتوفر مساحة مناسبة أمام المثقفين ليلعبوا دوراً أفضل. إن عملية التصنيع وتحديث وتصنيع الزراعة تستوجب بالضرورة نشوء طبقة عاملة واسعة ومتنوعة ابتداءً من عمال اليد إلى عمال الفكر والثقافة الذين يبيعون قوة عملهم, وهم أحرار في ذلك وليسوا مجبرين على العمل, رغم أنهم إن لم يعملوا يموتوا جوعاً … هذا جانب واحد. ولكن الجوانب الأخرى تبرز في تغيير في الخدمات الصحية والتربوية والتعليمية والثقافية وفي الاحتكاك مع العالم الخارجي ” .
انني اعتقد بأن هذه ” السياقات ” كافية في البداية من اجل التغيير ، ولكن ببدائل وطنية وسياسية غير التي تعارف عليها الناس في اي مكان من منطقة الشرق الاوسط الذي تأكله المشكلات السياسية والازمات الحضارية ..
7. المؤسسة الدينية : من التحالفات الى ركوب السلطة
اشار الدكتور حبيب القول اذ انه كتب : ” دعوني في هذا الصدد أن أذكر بحالة معينة نشأت في أعقاب احتلال بريطانيا للعراق في أعقاب الحرب العالمية الأولى حين بدأت بريطانيا, شاءت ذلك أم أبت, تفتح نوافذ مهمة جداً على العالم الأوروبي, على الحضارة الغربية حينذاك أمام المجتمع العراقي, هذا المجتمع الذي عاش منغلقاً مع الدولة العثمانية على نفسه وكان غارقاً في ظلمات التخلف والجهل والمرض. فماذا حصل؟ لا شك في أنه كان هناك اتجاه وطني يريد التحرر من السيطرة الأجنبية, ولكن لم يكن هذا هو جوهر القضية, بل كان جوهر القضية هو انطلاق الحركة من القوى الدينية في النجف وفي مناطق أخرى خشية دخول النور الحضاري الجديد إلى العراق, خشية التغيير في مواقعها الاجتماعية في المجتمع, خشيتها على مؤسساتها ومصالحها, خشيتها من التغيير الاقتصادي والحكومي وما يمكن أن يأتي به من جديد ومن هواء عذب يكتسح تلك القوى المتخلفة, وهو ما يواجهنا اليوم أيضاً من الكثير بل والكثير جداً من أصحاب العمائم والأحزاب الإسلامية السياسية في العراق, سنية كانت أم شيعية, أيضاً ” .
وليدعني محاوري ان اضيف قائلا : كلامك عن المؤسسة الدينية والقائمين عليها من رجال دين في العراق صحيحة مئة بالمئة ، وكانت ولم تزل حجر عثرة امام كل التطورات والقوانين المدنية وازاء التعليم المدني وضد الثقافات المتنوعة .. انها بالفعل قوى متخلفة ، واذا كنا سابقا ندين العصر العثماني انه عصر تخلف وبؤس ومرض وجهل واحتلال .. بماذا نفسر خروج المجتمع العراقي من اطار تلك السيطرة قبل اكثر من تسعين سنة ولم تزل هذه المؤسسة تسيطر على المجتمع سيطرة عمياء ؟ علينا مرة اخرى ان نحاول تفكيك النظام الاجتماعي العراقي ، قبل ان ندين التاريخ والانظمة السياسية فمثل تلك الادانات لا يرتاح لها الا رجال الدين من الملالي الكبار والصغار .. علما بأن علماء الدين ورجاله يصفقون لكل عهد ، بل ويتحالفون مع اي عهد سياسي سواء كان عثمانيا ام بريطانيا ام ملكيا ام جمهوريا عسكريا كان حزبيا ام دكتاتوريا ما دامت مصالحها فوق الجميع .. بل وبمقدور المؤسسة الدينية ان تقف مع قوى سياسية معينة ضد قوى سياسية اخرى ما دامت ترى ان مصالحها مهتزة وقابلة للانفجار والاهتراء ، فالمواطنة لا تعنيها ما دام المجتمع يركع تحت اقدامها . وان المجتمع لا يعنيها امره ما دامت قد تحالفت مع اي سلطة واي نظام .. ولقد وجدت في تضاعيف القرن العشرين انها لا تريد ان تكتفي بسيطرتها على المجتمع او البازار (= السوق ) ، فبدأت تسعى كي تمتلك الدولة هي نفسها وان تستحوذ على السلطة ، وهذا ما حصل لها من خلال احزابها وتشكيلاتها الدينية .
8. اياك اعني : لغة الرموز والاشارات
يتابع الدكتور حبيب قائلا : ” علينا أن نتابع التحولات التي حصلت في أوروبا لا لنسير خلفها أو مثلها, ولكن دور العلاقات الرأسمالية, سواء أكانت تجارية, أم صناعية في تحريك عملية التنوير الديني والفصل بين السلطات وكذلك الفصل التدريجي والطويل بين الدين والدولة. ولكن علينا أن نعترف من تتبع تاريخ الشعوب أن النقلة النوعية الفعلية قد حصلت مع الثورة الصناعية في أوروبا. من المهم هنا أن نتابع صديقي الراحل الأستاذ إبراهيم كبة حين دّرس وكتب في التاريخ الاقتصادي وتاريخ الفكر الاقتصادي. كاشفني يوماً حين زارني في غرفتي في الجامعة المستنصرية, وكان معي صديقي الراحل والشهيد الدكتور صباح الدرة, إذ قال: حين أدرس الصراع في أوروبا وأبحث في دور الدين المسيحي ودور هذا الدين المسيحي في أوروبا, فأنا لا أقصده وحده, بل أعني به بشكل غير مباشر أيضا الدين الإسلامي وبقية الأديان, ولكن ليس في المقدور في هذا البلد البحث بصراحة في هذا المجال ” .
وطبيعي يا صديقي الدكتور حبيب ان يقوم المفكر الراحل ابراهيم كبه بتوصيل افكاره باسلوب غير مباشر الى طلبته ، وكنت اعرف ان اساتذة لا يحصى عددهم يوصلون افكارهم عبر رسائل غير مباشرة الى طلبتهم ، واعرف ان هناك من دفع ثمنا غاليا من زملائنا العراقيين في جامعات بغداد والموصل والبصرة عندما كان يستخدم الاسلوب المباشر ليس في نقد المؤسسة الدينية حسب ، بل في نقد السلطة .. ولقد تميز عدد من اساتذة العلوم الاجتماعية والانسانية والاقتصادية والفلسفية في ان ينتقدوا المؤسسة الدينية باسلوب غير مباشر على طريقة ” اياك اعني .. ” واعتقد ان كثيرين قد فعلوا ذلك ، ليس في العراق وحده ، بل في جامعات عربية عدة عندما يجد احدهم ان مخاطر كبيرة ستلحق به وبرزقه وبمستقبله الوظيفي فانه يستخدم الوسائل غير المباشرة ويضغط عليها لمرات عدة حتى تصل الفكرة الى العقول الذكية ، اذ لا تنفعه ابدا العقول المتكلسة التي لا خير فيها .. والمشكلة ليست في الدول وقادتها بقدر ما تكمن في من يشاركك ويزاملك من المنافقين والادعياء والماكرين والمحّرفين والمزيفين والمخبرين والمشاغبين وما اكثرهم .. المشكلة ان معك بعض المنافقين ، فهم يشتمون الدول التي يأوون اليها ولكنهم معززين مكرمين كونهم بلا مبادئ ولا اخلاق .. فهم يبطنون عكس ما يتظاهرون به .
9. الاحزاب بين النضالات والانهيارات
يقول الدكتور كاظم حبيب : : ” أحد أخطاء الأحزاب العلمانية في أعقاب الحرب العالمية الثانية, وليس الجماعات الديمقراطية والتقدمية في العشرينات والثلاثينات التي خاضت صراعاً ضد الفكر المتخلف والديني المشوه ومن أجل حرية المرأة وقضايا السفور …الخ, حين ابتعدت الأحزاب السياسية العلمانية والديمقراطية عن خوض الصراع الفكري مع القوى والمؤسسة الدينية التي كانت تسيطر بحدود غير قليلة على عقل وتفكير الناس وعلى وعيه. ولو كنا قد بدأنا بهذه العملية المعقدة والصعبة في تلك الفترة مقترنة بالنضال في سبيل تغيير علاقات الإنتاج, لكنا اليوم في موقع أخر غير الموقع الذي نحن فيه الآن. ولكن علينا أن لا ننسى بأن وعي الأحزاب هو من وعي المجتمع, رغم أن بعضها يسعى للارتقاء بوعيه عن وعي المجتمع ويسعى إلى دفعها إلى مواقعه” ( انتهى النص ).
انني اشارك الرجل هذا الرأي ، مشاركة فكرية مئة بالمئة لكن لماذا نسميها بجماعات ديمقراطية وتقدمية في العشرينات والثلاثينيات .. انها احزاب ليبرالية علمانية متوازنة كانت اقوى من اية مؤسسة دينية او غير دينية .. سواء كانت في العراق ام مصر ام لبنان وسوريا .. احزاب فرضت قوتها وهيمنتها على الساحة السياسية ، بل ودخلت في صراعات سياسية ضد المحتلين ونجحت في تحقيق نتائج تاريخية لصالح اوطانها .. واستطاعت ان تحيّد التخلف ، وليس الفكر المتخلف ، فالفكر ان يكن فكرا حقيقيا فانه لن يكون متخلفا .. وعولجت اخطر القضايا الاجتماعية لا السياسية مثل السفور وتحرير المرأة والاسلام ونظام الحكم والصحافة الحرة .. كانت الامور طبيعية لأن المؤسسة الدينية اصلا كانت محجّمة ولا تستطيع فرض قوتها على الواقع حتى في العهد العثماني .. وانني اتحدى تلك المؤسسة بقسميها الشيعي والسني ان تعطيني مبررا واحدا عن سكوتها على وجود بيوت الدعارة في قلب بغداد وعلى الخمارات القديمة .. بل كان هناك معامل خمور عراقية معروفة للملأ من دون ان نسمع اي استنكار او فتاوى من تلك المؤسسة .. كان هناك معملا قديما قبالة مدينة الموصل على تل قوينجق عمره اكثر من مائتي سنة اسمه معمل العرق وكان يعرفه القاصي والداني .. ولا ادري ما حل به اليوم . المهم ، بقي اكثر من قرنين كاملين من دون ان يفجره احد او يؤذي من كان يعمل فيه احد ..
انني اتفق مع الدكتور كاظم حبيب ان الاحزاب التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية انشغلت بقضايا الفكر الاخر لم يعد يهمها من الواقع شيئا .. انشغلت بالقضايا الاممية والقومية والتنظيرات التي لا جدوى فيها .. انشغلت بالانشاءات وفضفاض الكلام والجدليات العقيمة .. انشغلت بشعارات العمال والفلاحين وجعلت منها قضايا والواقع لا يقول بذلك ابدا .. تاهت بخطابات الرؤساء التي لا معنى لها .. سكتت على ارتباطات تلك الاحزاب بهذه الطرف او ذاك ، وبهذه الدولة او تلك ، وقضت زمنها بالنضال الخطابي ضد الاستعمار .. كانت تؤدي ادوارا مرسومة لها وقد دفعت اثمان باهضة ازاء ذلك ! لقد فشلت تلك الاحزاب كلها اصلاحية كانت ام تقدمية ام قومية في معالجة الواقع وتحجيم دور قوى التخلف التي بدأت تكسب الجولة من خلال بعض الاحزاب الدينية على الساحة .. ولكن استغلت من قوى خارجية ودولية في ان يكون لها شأن في السياسية المحلية ومع سنة 1979 انقلب السحر على الساحر .. وتفشت القوى الدينية في كل مكان . ان من اكبر مشاكلنا السياسية يتمثّل بالاندفاع في التصفيق لهذا الطرف او ذاك من المحاور الكبرى .. ان الدول الكبرى والصغرى لا يهمها ان تسحق كل الاحزاب والقوى السياسية مهما كانت تقدمية اذا وجدت مصالحها مع هذه الدولة لكي تتحالف معها او ذاك النظام يتطلب ذلك فتوثّق علاقتها به ! وكثيرة هي التجارب القاسية التي مرت باحزابنا السياسية التي ذهب اصحابها وقياديوها ضحايا تحالفات ومعاهدات .. وقيام جبهات ورابطات .. الخ
10. مرة اخرى : هل المشكلة في حكامنا أم في مجتمعاتنا؟
لا ادري لماذا اتفق الدكتور حبيب معي جزئيا حول توصيفي للحياة الديمقراطية ، اي لماذا اختلف مع الفكرتين اللتين كنت ولم ازل مؤمنا بهما ، وما طرحه في النقطتين او الفكرتين لا ادري اين وجه الخلاف في ما قاله مقارنة بما قلته .. اللهم الا اذا اختلف معي حول ما اطالب به من ادوات تغيير قانونية ودستورية وما يطالب به من تبديل في العلاقات الانتاجية .. وهنا ، علينا ان نتأمل المتغيرات التي جرت في تجارب اخرى في العالم ، لنرى ان المجتمعات لا تتغير او تتبدل من تلقاء نفسها ، ولكن الدول والانظمة التي تحكم مؤسساتها هي التي تغير المجتمعات .. وليس للدول المتقدمة الا كم هائل قد اصدرته لها من القوانين واساليب الالتزام بها ..
11. اتفاق حول المبدأ مع توضيح للقديم والجديد
يقول الدكتور حبيب : أتفق جزئياً مع الأستاذ الجميل في قوله: “إن الحياة الديمقراطية لا كما يصفها حكامنا ومثقفونا إنها مجرد عملية سياسية وصناديق اقتراع يطلقون عليها بـ ( إجراءات دمقرطة الحياة السياسية في حياة المجتمع اليومية ) ، بل هي نظام حياة وتربية وأسلوب تفكير وتعامل لا يمكن أن يؤسس إلا بوسائل تربوية تؤهلها النخب المثقفة لا أن تشّرع بقوانين وتعليمات من أية سلطات .. انها أعراف وتقاليد في كل مرافق الحياة وكل مفاصل المجتمع”. (مقتطف من الحلقة الثانية).
ويتابع قوله بالنص : أرى بأن الفكرة الأولى صحيحة تماماً, في حين أختلف مع الفكرتين التاليتين, أي أني أرى:
1 . الديمقراطية ليست مجرد عملية سياسية وانتخابات ..الخ, بل هي عملية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحقوقية في آن واحد, إنها عملية سيرورة وصيرورة جديدة ومعقدة وطويلة الأم في آن واحد.
2 . إن نظام حياة وتربية وأسلوب تفكير وتعامل لا يأتي كل ذلك وغيره إلا عبر تغيير القديم, تماماً كما حصل في أوروبا, إذ أن القرون الوسطى كان لها نظام حياة وتربية وسلوك وتعامل يختلف تماماً عما جاء بعد ذلك وتشكل تدريجاً عبر العلاقات الإنتاجية الجديدة وعبر دور التنوير والمثقفين وغير ذلك.
3 . وأن الجديد لا يمكن أن يكرس ويتعزز إلا عبر الدستور والقوانين والحياة المؤسسية الدستورية.
12. ماذا اقول ؟
شكرا جزيلا للرجل الذي يشاركني الافكار التي طرحتها وتطويره للرؤية المستقبلية بتأكيده على بعض الركائز الحقيقية التي ليس لنا من طريق آخر دونها .. ولا ادري لماذا يختلف مع الفكرتين اللتين ذكرتهما ولم يضف عليهما أي شيئ ! فالديمقراطية فعلا ليست مجرد انتخابات وصناديق اقتراع .. انها فعلا كما وصفتها ، وان اي نظام جديد لحياة وتربية واسلوب تفكير لا يمكن ان يبنى على القديم ما لم تتغير كل العلاقات القديمة الى علاقات جديدة . وان الجديد لا يمكن ان يترسخ الا من خلال دستور ( مدني ) واشدد هنا على كلمة ( مدني ) وقانون عام يكفل الحياة المؤسسية على اسس حديثة ومراجع حديثة من دون اية مرجعيات قديمة ومن دون اي مؤسسات عتيقة .. فكل قديم سيخلق الانقسامات شئنا ام ابينا كونه يستمدها من رواسب الماضي التي تشرذم منها المجتمع .. في حين ان كل حديث يخلق الارادة الجمعية لبناء المستقبل .
12. التجربة العراقية ورجالات التأسيس :
ويتابع الدكتور كاظم حبيب قوله : : ” لقد أنجز العراقيون مع الإنجليز القانون الأساسي (الدستور العراقي) في العام 1925, وكان دستوراً في جوهره ديمقراطياً ينظم الحياة البرلمانية والانتخابات ودور السلطات الثلاث والحياة السياسية والتعددية والعلاقة بين الدولة والمجتمع. ولكن هذا القانون الأساسي وجد في ظل مجتمع نعرف طبيعته البدوية والعشائرية والريفية ونعرف طبيعة النخبة الحاكمة القادمة من ثقافة تركية متخلفة, في حين كان القانون الأساسي أكثر تقدماً من المجتمع. ولم يكن وعي الحكام من جهة ووعي المجتمع من جهة أخرى, عدا نخبة من المثقفين, يرتقي إلى مستوى تنفيذ القانون الأساسي. فشوه هذا القانون من قبل الحكام ومن قبل المجتمع وأسيء استخدامه وصدرت قوانين مخالفة لنصوصه. وهنا أرى أن قول الأستاذ الجميل سليماً, إذ لم ترتبط العملية القانونية بعملية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية مترابطة عضوياً يمكنها أن تقود إلى تغيير طبيعة السلطة والمجتمع في آن واحد. وقد تسببت سياسات الحكام حينذاك إلى حصول انتفاضات وثورات وما أعقبها من تغيرات دراماتيكية فقدنا الكثير مما كان إيجابياً في حينها. ولكن السبب الأساس يبقى في الواقع الذي كان قائماً وفي الوعي الاجتماعي المتخلف وبدور الدين في ذلك. ومن هنا يمكن القول بأن المشكلة تكمن في الحكام وفي الواقع الاجتماعي القائم , إذ أن الحكام من هذا المجتمع ” ( انتهى نص الدكتور حبيب ).
انتهى الدكتور حبيب في نصه الى ان المشكلة تكمن في الحكام وفي الواقع الاجتماعي القائم ، اذ ان الحكام من هذا المجتمع .. اي ان معنى ذلك وجود شراكة في المشكلة بين حكامنا ومجتمعاتنا .. دعوني اقف متسائلا ومعلقا وموضحا بعض ما اراه ـ وليعذرني الاخ الدكتور حبيب ـ ربما يختلف مع التوصيف الذي اطلقه الدكتور حبيب وهو يلقي باحكامه على تاريخ معاصر للعراق بشكل مطلق من دون التدّقق لما كان هناك من جزئيات وتفاصيل :
1/ ان الدستور والقانون الاساسي للعراق كان مدني الطابع والمضمون ، وهو متطور جدا لأخذه باسباب الجديد من دون ان يلتفت للقديم ، وكان للعديد من الساسة العراقيين ورجال القانون الاذكياء دورهم في صناعته .
2/ اننا ندرك بأن القانون الأساسي العراقي كان انجازا متقدما في زمنه ، وانجز من قبل عراقيين وكان لابد ان يخلق في ” ظل مجتمع نعرف طبيعته البدوية والعشائرية والريفية ونعرف طبيعة النخبة الحاكمة القادمة من ثقافة تركية متخلفة, في حين كان القانون الأساسي أكثر تقدماً من المجتمع. ولكن هذا ليس سببا او مبررا لعدم تقبّل الدستور من قبل المجتمع الذي من الطبيعي ان يكون متنوعا بين بدويته وريفيته وحضريته ، ولكن كان لابد من هكذا دستور لبناء مؤسسات ترعى المجتمع وتقوّمه من تخلفه .
3/ لا ادري هل يصح قول الصديق الدكتور حبيب : ” فشوه هذا القانون من قبل الحكام ومن قبل المجتمع وأسيء استخدامه وصدرت قوانين مخالفة لنصوصه ” . هنا اختلف مع الاخ حبيب ، فالقانون لم يشّوه ابدا ، ولكن الواقع قد يكون عنيدا بدرجة يصعب عندها تطبيق اي قانون بسهولة .. علما بأن القضاء العراقي كان من افضل ما مورس في الشرق الاوسط على مدى خمسين سنة ، ولكن تدلنا الاحداث السياسية ان هناك من اساء استخدام القانون الاساسي في البلاد بدرجة او باخرى ، ولكن لم يضرب القانون والدستور عرض الحائط كما حدث في عهود تالية .
14. هل حمل رجال العراق الاوائل ثقافة تركية متخلفة ؟
ان اطلاق صفة ” ونعرف طبيعة النخبة الحاكمة القادمة من ثقافة تركية متخلفة ” فيه من التجني الكبير على رجال العراق الاوائل الذين عرفناهم واحدا واحدا ، وعرفنا خصائص وامكانات كل واحد منهم .. باستثناء الملك فيصل الاول وهو قائد سياسي محنك اثبت التاريخ كفاءته في حكم العراق وتأسيسه للعراق الحديث ومعرفته للمجتمع العراقي .. اما الضباط من العراقيين القدامي فلا يمكن ان نصفهم باصحاب ثقافة تركية متخلفة اذا ما علمنا مكانتهم وقدراتهم اللامعة ومنجزاتهم واغلبهم قد درسوا على ايدي اشهر القادة الالمان .. كان كل من جعفر العسكري ـ بطل الحرب الطرابلسية ضد الطليان ـ وياسين الهاشمي اكبر رتبة من اتاتورك وكانا من امهر الضباط حرفية في العالم كونهم تدربوا في المانيا ونالوا اوسمة وميداليات من دول مختلفة .. وكان طه الهاشمي من ابرع من كتب في جغرافية العراق .. وكان ناجي السويدي من اكفأ رجال القانون وكان الدكاترة حنا خياط وداود الجلبي و فائق شاكر وصائب شوكت واستراجيان وغيرهم من خيرة واشهر اطباء العراق ، وكان ساسون حزقيل عقلا عراقيا صرفا مدبرا للمال وزيرا للمالية ( والذي خدم العراق ومستقبله خدمات وطنية بفرض الايرادات بالذهب الخالص ) ، وكان رستم حيدر ( الشيعي اللبناني ) من اكفأ الناس التكنوقراط نزاهة وعلما في رسم الخطط الاقتصادية ، وكان رشيد عالي وعبد العزيز القصاب وعبد المحسن السعدون وحمدي الباجه جي وناجي شوكت من اكفأ الاداريين العراقيين وكان الدكتور عبد الله الدملوجي من اكفأ رجال العراق في العلاقات السياسية وكان كل من محمد علي فاضل والسيد احمد الفخري وحكمت سليمان ومنير القاضي وداود سمرة وعارف حكمت وناجي الاصيل ونشأت السنوي وسليمان فيضي وعبد الله فائق وغيرهم من امهر رجال القضاء والقانون .. وكان الشيخ محمد حسن ابو المحاسن من خيرة ادباء العراق وكان وزيرا للمعارف وكان فهمي المدرس من ابرع المثقفين والمختصين العراقيين المتأثرين بالنهج الفرنسي ، وكان صبيح نشأت ضابطا مهندسا بارعا وتخرج من مدرسة الهندسة : عبد القادر رشيد/ ارشد العمري/ جميل المدفعي وغيرهم.
لم يحمل هؤلاء ثقافة تركية متخلفة ، بل اعتقد انهم كانوا من افضل ابناء العراق عصر ذاك ، بل ومن افضل من قاد العراق ابان التأسيس مقارنة بمن جاء من بعدهم من قادة ومتسلطين وعسكريين غير سياسيين وشباب فاشلين ووزراء أميين ولم يكونوا الا من الطبول الفارغين ..
15. النخبة المستنيرة العراقية الاولى
تكاد تطغى الاختصاصات القانونية (= الحقوق ) كحقول أولى في المعرفة العراقية الحديثة، ذلك أن مدرسة حقوق بغداد كانت أول كلية مدنية تأسست ببغداد عام 1908م، فكان أن تخرج فيها، العدد الكبير من المثقفين والمهنيين ورجال القانون العراقيين الذين شاركوا بشكل حيوي في إغناء الجوانب السياسية والإدارية والعدلية، كما وساهم بعضهم في الحياة النيابية، وبعضهم الآخر في إثراء الثقافة العراقية كتابة وصحافة وتأليفاً في الشعر واللغة والتاريخ والمذكرات وبناء المؤسسات الادارية .
وبالرغم من ان المجتمع العراقي كان يرزح تحت خط التقدم ، بل وتبلغ نسبة الجهل والامية درجة كبرى ، بحيث لم يكن يعرف القراءة والكتابة الا نفر قليل ، لكن كانت هناك نخبة متقدمة ومستنيرة ومثقفة متبلورة شغلت ادوارها المتنوعة في تأسيس العراق الحديث الذي عرفناه وعشنا فيه حياتنا ، ومنهم : عبد الحسين الازري وسليم حسون وتوفيق السمعاني وعلي الجميل وعلي الشرقي وداود صليوا وعبد الحسين الجلبي وخير الدين العمري وعباس العزاوي وعباس مهدي وعبد العزيز الخياط وعبد الجبار الأمين وأحمد زكي الخياط ، واغناطيوس برصوم والسيد عبد المهدي وكاظم الدجيلي وانستاس ماري الكرملي ويونان عبو اليونان وأحمد حامد الصراف ومحمد امين زكي وثابت عبد النور وإبراهيم الواعظ ومحمد رضا الشبيبي ومحمد الصدر وبولينا حسون وضياء الدين يونس وحسن سامي التاتار وعبد الله عبد السلام وعبد الرحمن خضر وأحمد الرامي وعلاء الدين النائب وعلي محمود الشيخ علي وجورج جورجي وأمجد الزهاوي وجميل الجميل وإنطوان شماس وأنور شاؤول وإبراهيم الكبير وتحسين قدري وخليل إسماعيل وجعفر حمندي وصديق الدملوجي وميخائيل تيسي وجلال خالد وجمال بابان وروفائيل بطي و صالح جبر وطه الراوي ويحي قاف العبد الواحد ( وكان من اوائل شيوعيي العراق ) وصديق البسام وتوفيق السويدي ورؤوف البحراني وعمر نظمي وحسين الظريفي وجعفر ابو التمن ومحمد طاهر العمري ومحمود رامز وغيرهم . واتمنى لو كنت يا صديقي الدكتور كاظم قد قرأت بعض مقالات يونان عبو اليونان في الفكر السياسي لوجدت ان بعضا من رجالات العراق النهضويين قد سبقوا عصرهم بازمان ( التفصيلات في كتابي : انتلجينسيا العراق : النخب المثقفة في القرن العشرين ) .
16. هل هي صحوة دينية أم انتكاسة حضارية أم ماذا؟
ننتقل الى الحلقة الثالثة من حلقات حوار الدكتور كاظم حبيب .. ونتوقف سويا عند النص التالي ، فقد قال : ” شاركت الصديق الدكتور الجميل نقده للثورة الإيرانية دون أن نكون قد التقينا أو تعارفنا قبل ذاك, وسلطت, كما سلط, الضوء على سرقة هذه الثورة من قبل المؤسسة الدينية في قم بشكل خاص والتي دفعت بالبلاد إلى المتاهات الدينية الراهنة لا في إيران فحسب , بل وتسببت في ما أطلق عليه بمحاولة تصدير الثورة الإسلامية الشيعية الصفوية إلى دول أخرى ذات أكثرية سكانية مسلمة, وسيادة الفوضى والإرهاب الديني الإسلامي السياسي في بلدان كثيرة بسبب تلك الصحوة المشوهة ” ( انتهى النص ) .
يسهب الدكتور حبيب في التطورات السياسية التي حدثت في ايران وافغانستان والاحتلال السوفييتي لافغانستان ودخول الولايات المتحدة الى قوة الصراع ، ولقد نجح في تحليل تطور الاصولية الاسلاموية بتبني القوى الدينية نهجا متشددا ، شاركت فيه دول عديدة وصرفت عليه الملايين ليغدو بالحالة التي هي عليه اليوم . انني اشارك الدكتور حبيب كل تحليلاته التي سجلها عن تطور حالة الفاقة الذهنية وخراب الوعي في مجتمعاتنا التي انتكست انتكاسات مريرة من خلال اتجاهين سلفيين سني وشيعي كان من ورائهما سياسات وتمويلات وخطط ماكرة من اجل الوصول الى السلطة .
17. السبيل الى التقدم
واعود كرة اخرى الى النقطة المهمة التي ركّز عليها الدكتور حبيب ، اذ يكتب قائلا : ” يشير الأستاذ الجميل إلى فكرة مهمة ترد في المقتطف التالي من نهاية الحلقة الثانية في معرض حديثه عن حاجتنا للمنهج النقدي: “.. إنني أرى أن هناك جملة هائلة من الأسباب والمسببات التي تقف حائلا وعائقا أمام التحول الديمقراطي في منطقتنا كلها والعالم الإسلامي برمته .. ولكنني كنت قد ركّزت تماما في العديد من دراساتي وكتبي على إشكاليات الوعي وزحمة التناقضات .. وكنت ولم أزل أطالب بمناهج تربوية جديدة تنسف كل التفكير السائد منذ مئة سنة .. ( راجع كتابي : التحولات العربية : إشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل ، 1997 )”.
ويستطرد الدكتور حبيب كاتبا : جميل جداً ما يذكره الدكتور هنا وأؤيد وجهته. ولكن لا بد من تسجيل الملاحظة التالية, بعد أن استميح الزميل العزيز عذراً: أننا سنبقى نطالب بذلك دون فائدة وسنبقى ندور في حلقة مفرغة, إذ أن من يضع المناهج الجديدة ليس بأفضل ممن وضع المناهج السابقة ما لم يجر تغيير العقلية والوعي وطريقة التفكير لدى الذين يضعون تلك المناهج, وهذا لا يتم في الحاضنة الاجتماعية الراهنة في الدول العربية, الحاضنة الدينية والعشائرية, الحاضنة الريفية الأمية المتخلفة, وليست الحاضنة البرجوازية حاملة التحول الاجتماعي في المجتمع العراقي أو الطبقة الوسطى وجمهرة المثقفين الديمقراطيين. ليس تغيير المناهج مسألة إرادية نقول “كوني فتكون”, ولا هي مجرد دعوة مهما كانت نبيلة ومخلصة كدعوة الصديق الجميل, بل هي عملية طويلة ومعقدة ومركبة في آن, وهي مقترنة بالتحولات الاجتماعية التي يفترض النضال في سبيلها, والتي هي متعددة الجوانب, أي أنها عملية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية في آن. أتفق تماماً حين يؤكد بأن علينا أن لا نلج غرفة مغلقة واحدة ونفتح شبابيكها وندع الرياح تغير الهواء الفاسد فيها, بل علينا فتح جميع الغرف وفتح أبوابها الموصدة ونوافذها المغلقة والولوج إلى أعماقها والتحري عن الروابط في ما بين جميع تلك الغرف ” .
18. ماذا اقول ؟
يخاطبني الاخ حبيب بأن المطالبة لا تنفع عندما اقول بالمناهج الجديدة ، وهي ليست بافضل من وضع المناهج القديمة وطبيعي يا عزيزي الدكتور كاظم ان من يضع المناهج الجديدة لابد ان يتمتع بالوعي والنضوج وقوة التفكير .. المشكلة انني مثلما اطالب فانت ايضا تطالب ، ولكن هل كانت لدينا ثمة برامج للتغيير ؟ هل ان اطلاق التعابير هو الذي سيحسم الامور ؟ وهل ان كل من ذكرتهم لا يستحقون ان يؤسسوا تغييرا ؟ لقد خلطت الحواضن بعضها بالبعض الاخر ، فلم نفهم هل تستوي الحاضنة الطائفية والدينية والريفية بالحاضنة البرجوازية والطبقة الوسطى وجمهرة المثقفين الديمقراطيين ؟ ما علاقة هذه بتلك ؟ وما علاقة تأسيس مناهج بالطبقات ؟ هناك خلط على الاخ الكتور حبيب ان يوضحه لكي نفهم ما يريد التوصل اليه ..
اما اذا كان يسألني عن اية مقترحات لما طالبت به ، فكنت قد نشرت عدة دراسات ومشروعات يمكنها ان تساهم في تأسيس مناهج .. وليس غيري بقاصر ايضا عن تقديم اساليب ووسائل عدة في تغيير المناهج .. ولكن قبل ما يقترح الاخ حبيب علينا من نضال كونها عملية معقدة وما يطالب به من مطالب من دون ان اسمع منه اي فكرة بديلة اقول بأن النضال السياسي لا ينفع ابدا من دون اي ارادة تشريعية للسلطة الحاكمة في ان توافق على تأسيس برامج محددة وادوات حقيقية ذلك ان صناعة القوى البشرية لدى كل الامم تعتمد في ما تعتمده السلطات في اية مؤسسة في الدولة من خطط .. اذن العملية جدلية بين القاعدة الاجتماعية والرأس فوق هرم من تشكيلات الدولة .. ان المجتمع لا يمكن ان يتحرك من دون رؤوس والرؤوس هي التي تصنع القرارات .. ولكن من سيكون في السلطة ؟ هل هم اناس اذكياء وتكنوقراط يمكنهم الحركة والتغيير في اعادة التأسييس ام تسلط اناس جهلة واغبياء ومتكلسين لا يدركون شيئا لا من واقعهم ولا من واقع الغير .. اذن ، ليقف على رأس السلطة اناس اكفاء ضمن برامج وخطط وسترى كيف تتم التحولات .. فلست لا ادرك طبيعة التحولات حتى اكتفي بالمطالبة ؟ ولست من السذاجة بمكان حتى اقول كن فيكون ؟؟ ولست احادي التفكير حتى اكتفي بالنضال والشعارات الوهمية ..
19. علمانية تركيا الكمالية
لا اريد ان ادخل معك يا صديقي العزيز في جدال عقيم حول تركيا وما تحدثت عنها بصدد اتاتورك وعلمنته ليس لأنني اخالفك فيها تماما ، بل لأنني لا اريد ان نتحول بحوارنا الفكري الى سفسطة سياسية نحن في غنى عنها ، علما بأنني نشرت كتابا عن تركيا المعاصرة منذ العام 1997 عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت عنوانه ( العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث من العثمنة الى العلمنة ) ، كما نشرت العشرات من الدراسات والبحوث في اكثر من لغة ، اتمنى ان تطلّع عليها فقط ، وانا ادرك ما اقوله عن تركيا العثمانية او الكمالية .. ان الاحكام التي نطلقها عن تركيا بحاجة الى اعادة نظر بشكل كامل ، وكنت اتمنى ان تحضر معي العدد الكبير من المؤتمرات التي انعقدت حول تركيا الحديثة وتجاربها في القرن العشرين ..
ان اهم ما يمكن التحّلي به في دراسة موضوعات تركيا وايران وغيرهما من دول مهمة ومؤثرة في الشرق الاوسط هي الحيادية ، وان لا نسقط ارائنا السياسية على تواريخ تركيا وايران سواء كنا عراقيين ام غير عراقيين .. وسواء كنت ضد اتاتورك او صفقت له ، فهو مؤسس دولة وجمهورية وكان ولم يزل يعد رمزا للاتراك ، وقد اثارت تجربته بايجابياتها وسلبياتها عددا كبيرا من الاقلام في الشرق والغرب وسواء اتفقت مع علمنته ام لم تتفق فان من المهم والمثير ان احزابا دينية تركية لم تزل تجد توافقاتها مع تجربته .. فليس من الموضوعية في شيئ ان تقول يا صديقي ان اتاتورك فرض العلمانية على تركيا ولكن لم يقتنع بها الشعب التركي .. فاذا كان الشعب غير مقتنع فهل من المعقول ان تبقى تعمر لأكثر من خمس وسبعين عاما ؟ وهل من المعقول القول ان فرضها اصبح يتم عبر العسكر لا غير ؟ وهل من الصواب القول : كلما حاول البعض التجاوز على العلمانية الشكلية ، قام العسكر بانقلاب او هددوا به ؟ هل من الصواب ان نقول ان تركيا علمانية بالاسم وببعض الممارسات ؟ نعم ، انني معك ، فربما لا تعرف الديمقراطية في العديد من السنوات طاردت الشيوعيين والماركسيين الاتراك مطاردة لا هوادة فيها ، وحاربت الاحزاب الكردية المعارضة ..
20. العلمنة بمعزل عن المواقف السياسية
كنت اتمنى على الاخ حبيب ان يقرأ مليا كتبا ودراسات منشورة عن تاريخ تركيا المعاصر وباقلام اجنبية محايدة ويتأمل في تفاصيلها قبل ان يطلق احكامه السريعة ، واشير الى كتب ستانفورد شو وزوجته ايزل كورال شو ، ورودريك ديفسن والين سميث وباتريك بالفور ودنكوارت رستو ( وهو من ابرز المنظرين العالميين في شؤون الحداثة ) وريتشارد روبنسون وكمال كاربات وجورج هاريس ( الذي بحث جذور الشيوعية في تركيا ) ومحمد اركون .. وغيرهم .
علينا ان نتدارس التجربة التركية في الحداثة والعلمنة بعيدا عن مناصرتها او معارضتها سياسيا سواء فاذا ادنت تركيا برفضها الاعتراف بحقوق الشعب الكردي ، فليس باستطاعتك تجريدها من العلمانية ؟ والشيئ بالشيئ يذكر ، اذ نتساءل : هل العلمانية قد اخفقت في بريطانيا لأنها لم تعترف هي الاخرى بحقوق الايرلنديين ؟ وكذلك حقوق الشعوب القومية في ظل سياسات الاتحاد السوفييتي الذي لا يمكن ان يكون الا علمانيا ؟ وما علاقتنا نحن ان كانت تركيا قد دخلت الاتحاد الاوربي ام لا ؟ ان تسعين بالمائة من اراضيها اسيوية وليست اوربية .. انني عندما ادرس تركيا وايران اكتفي بما هو واقع اصلا فهل من الصواب ان انفي كل ما جرى في تركيا ؟ .. فاذا كان كل العالم يقول بأن تركيا بلد علماني ، وان الشعب ( وبضمنها الاحزاب الاسلامية التركية ) مصر على علمانيته وان الجيش قد تدّخل بانقلاباته ليحمي ارث اتاتورك كله ويبقيه رمزا لتركيا الحديثة ، فلا يمكننا ان ننفي التجربة بما لها وما عليها .
21. تركيا وايران : طريقان مختلفان في التاريخ
صحيح ان العلمانية دون الديمقراطية لا تعني شيئا .. ولكن كنا قد اتفقنا في الحلقات الاولى من الحوار بأن الديمقراطية لا يمكن تطبيقها ببساطة .. ان الربط بين الاثنين قائم ، من الذي يسبق الاخر .. بطبيعة الحال لا يمكن تطبيق اي ممارسة ديمقراطية من دون علمانية .. ان تجربة تركيا افضل من غيرها في العلمنة كما يؤكد على ذلك العديد من الدارسين والباحثين والمؤرخين الغربيين . ومع كل احترامي للاصدقاء الدكتور عزيز العظمة وبرهان غليون وجلال العظم .. فهم ليسوا بمختصين في الشؤون التركية ، ولكن ثلاثتهم يؤكدون على ان تجربة اتاتورك العلمانية لم تكن ساذجة ولا هزيلة .. اما بشأن ايران ووصفك للنظام السائد فيها ، فانني اتفق معك تماما ، واشاركك قولك ان ” فالنظام السائد ثيوقراطي شمولي متخلف حيث يفتقد فيه الفرد حريته والمجتمع قدرته على التعبير عن إرادته … كلنا يعرف بأن قوى الإسلام السياسي الشيعية الصفوية في إيران منذ سنوات “الثورة الإيرانية والصحوة الدينية!” صادرت بإرهاب منقطع النظير المظاهر القليلة للحرية الفردية ومظاهر من الديمقراطية الشكلية للنظام الشاهنشاهي, صادرت حقوق الإنسان وحقوق القوميات وزجت بالآلاف المؤلفة في السجون ومارست اشد أنواع التعذيب ضدهم
الحضارة والوعي الديمقراطي لا ينزلان علينا من السماء ولا يخرجان إلينا من تحت الأرض ولا يجلبهما لنا الوحي, ولا النداءات الإنسانية الطيبة والسليمة التي نطلقها ولا المطالبة وحدها بتغيير المناهج, بل هما نتاج تاريخي ينشآن بفعل عملية تغيير طويلة في واقع المجتمع الاقتصادي والاجتماعي والبنية الاجتماعية والثقافية للإنسان الفرد والمجتمع. وكم هو سليم وصادق رأي الدكتور الجميل حين يقول: إن الوعي الاجتماعي الحديث لا ينشأ ويتبلور إلا بوعي علمي وفكر مستنير .. ولا يمكن لذلك الوعي أن يقترن بوعي ديني جديد أكثر تنورا ووعيا بدور الدين ودور الدولة والفاصل بينهما”.
22. ندرة النخبة الذكية
يطرح الدكتور حبيب سؤالا مهما ، فيقول : ” كيف يمكننا إقناع دعاة الدين أن يساهموا في إبعاد الدين عن السياسة؟ لا يمكن ذلك بشكل واسع, بل يمكن كسب البعض القليل لهذه الدعوة. ولكن يمكن كسب الكثيرين حين تتوفر مستلزمات معينة وموازين قوى أخرى قادرة على تحقيق ما يدعو إليه الأستاذ الجميل. يقول الأستاذ الجميل “المثقفون لا يستطيعون أن يكونوا وعاة الدين , كما لا يمكن أن يكونوا دعاته”, هذا صحيح, ولكن في مقدورهم أن يكونوا وعاة ثقافة حرة وديمقراطية تتصدى للثقافة الدينية الصفراء التي أغرقت بلادنا بالصراع الديني والطائفي المقيت وكلفت المجتمع الكثير والكثير جداً من الضحايا والخسائر المادية. وستكون مهمتهم أسهل لو توفرت الأرضية الخصبة والمناسبة لقبول هذا الفكر الديمقراطي الحر ” .
طبعا يا صديقي ، وهذا ما نفعله منذ زمن طويل ، وهذا ما نطالب به منذ زمن طويل .. ولكن من هو الاقوى في كل من المجتمع والدولة ؟ انهم ادعياء الدين وليس رجالات المعرفة .. من هم الذين يتكهرب منهم الساسة وينقادون اليهم ؟ انهم رجال الدين .. ليس للتبرك بهم ، بل لأخذ المشورة والنصيحة .. انني لا اقلل من شأن رجال الدين ، ولكنهم ليسوا اهلا للتشريع والفصل .. انهم قد قضوا اعمارهم في قراءة الدين وليس في قراءة الدنيا .. انهم اوهى من ان يكونوا ساسة متحذلقين ودهاة في دهاليز الخنادق السياسية .. اما النخبة التي لم يزل صديقي الاخ حبيب يعّول عليها في ان يكونوا وعاة ثقافة حرة وديمقراطية .. فاننا قد شهدنا من تجارب ايران والعراق وغيرهما كيف يتراكض بعض التقدميين والمثقفين والمختصين والديمقراطيين ليتمسحوا باذيال رجال الدين . فليس كل من وصل السلطة يحافظ على مناسكه التقدمية وافكارة الديمقراطية التي كان يعلنها .. واذا ما انتقدته ، فانه يتبجح بانه لم يزل ديمقراطيا حتى في تمسحه باصحاب العمائم !! فالمشكلة يا عزيزي مركّبة ومعقدة في آن واحد .. ولن يكون حلها سهلا ابدا . لقد قلت لك وللقراء الكرام بأنني قد غسلت يدّي من اصناف هؤلاء ادعياء الثقافة والمعرفة .
23. البطل في التاريخ : ضرورة مؤقتة
يقول الدكتور حبيب مختتما الحلقة الثالثة : ” أدرك دور البطل في التاريخ, ولكن التحولات الاجتماعية لا تبنى على أساس المغامرة والشجاعة الفردية, رغم أهمية دور البطل في التاريخ. ولكن هذا البطل التاريخي أو المغامر الشجاع لا يمكن أن يُخلق ما لم تتوفر له مستلزمات ظهوره وتأثيره ودوره, وإلا ستكون ولادته سابقة لأوانها. التاريخ لا يبنى على الإرادات الفردية رغم أهميتها, والقوانين الموضوعية لا تعمل وفق إرادتنا ورغباتنا الذاتية, بل يفترض فينا أن نفهمها ونعي فعلها ونستفيد منها لتحقيق التحولات المنشودة ” .
وليدعني اقول : انني ادرك بأن السماء لا تنزل علينا الديمقراطية ، فالحركة كلها على الارض .. وانا ارفض تماما ان يكون المثقف اداة طيعة بيد الساسة او رقما معينا على رقعة شطرنج .. البطل في التاريخ لا اؤمن بوجوده في المجتمعات التي باستطاعتها الحركة والتغيير ، ولكنه يغدو ضرورة في الازمان الحرجة عندما يتكلس المجتمع ولم يعد باستطاعته ان يتحرك .. البطل هو الذي يغدو مهمة تاريخية تأتي وتذهب في زمن معين .. صحيح يا دكتور ان التاريخ لا يبنى على الارادات الفردية ولكن اللحظة التاريخية المعينة بحاجة الى من يوّلدها .. البطل التاريخي ليس شرطا ان يكون مبارزا او مقاتلا او دكتاتورا .. ربما كان نبيا ، وربما كان فيلسوفا ، وربما كان زعيما ، وربما كان مناضلا ، وربما كان مفكرا مثيرا ..
24. ما الذي يعلمنا درس هذه الحلقة التاسعة اياه ؟
نعم ، انه يعلمنا الكثير بين مباعدتنا ومقاربتنا نحن الاثنين الدكتور كاظم حبيب وانا سيار الجميل .. انه يعلمنا بان عملية التغيير التاريخي من اصعب ما يمكن ليس في باب السياسة فقط ، بل ان يتم الدخول اليه من ابواب مختلفة .. ومن الصعب جدا ان يحدث التغيير في الزمن المعاصر الذي تتفاقم فيه خطورة الاعلاميات المضادة وهزال النخب وهيمنة اللاوعي وانغلاق التفكير .. يعلمنا ايضا كم كان تأسيس العراق صعبا بعيد الحرب العالمية الاولى ، وكم هو تغيير العراق اصعب عند فاتحة القرن الحادي والعشرين .. ويمكنني القول ان فرقا كبيرا بين التجربة البريطانية وقت ذاك عن التجربة الامريكية هذا اليوم .. فاولئك اعتمدوا على ساسة وقادة واداريين ورجال قانون ومثقفين في التأسيس .. وهؤلاء اعتمدوا على نقيض اولئك هذه الايام .. لقد تعلمنا ايضا بأن عناصر التقدم كالتي اراها موضحة بشكل مبسّط بعد ان تساءل الاخ الدكتور كاظم حبيب عنها .. تعلمنا ايضا بأن الاحزاب كانت تعيش ازمة تناقضات بين ما تؤمن به وبين مصالح الدول ! تعلمنا ان ليس كل ما يعلم يقال ، وبالرغم من عدم ايماني بهذه الحكمة العربية القديمة التي تقف بالضد من الشفافية والصراحة ، الا ان ثمة من يستخدم اية وسيلة لتوصيل مجرد رسالة تحتوي على مضمون كامل الى جيل جديد .. فالمكاشفة قد تطال حياة الانسان ورزقه وسمعته في كثير من الاحيان في مجتمعاتنا الصعبة .. تعلمنا ان كيف نتبادل الرأي حول دور النخبة وخصوصا في خضم سلطة رجال الدين .. تعلمنا ان تجربة العلمنة في تركيا لابد ان تقرأ بموضوعية وحيادية بعيدا عن اي موقف سياسي بالتصفيق الحار لها او بالغائها تماما .. تعلمنا ان دور النخبة هو من اصعب الادوار وان دور البطل قد يكون ضرورة في لحظة تاريخية معينة والكاريزما قد تشخص فجأة او قد تغيب تماما ..
25. كلمة اخيرة لابد منها
انني احيّ صبر الاخ الدكتور كاظم حبيب والقراء الاعزاء .. واقول في نهاية مطاف هذه الحلقة : ربما سيجد كل منّا من يناصره ويتفق معه ، او سيجد من يخالفه ويختلف عنه .. ولعل من اصعب المواقف ان يبقى اي قارئ او كاتب عراقي على حياديته وسط تيارات عارمة من العواطف السياسية وتيه التطّرف الايديولوجي وغلو التعّصب الديني من قبل البعض ممن ام يعتد ابدا على اساليب حيادية وموضوعية ، او تلك الاسطوانات المشروخة التي لم يزل يعزفها الغلاة والمتطرفون الذين لم يكتفوا بمشكلاتهم السايكلوجية وخبلهم وخبالاتهم ، بل انهم لم يفقهوا اي منهج في الحوار ، ولا اي قراءة متجددة للمعرفة ، ولم يتابعوا تطور الفكر الانساني وما زخرت به الحياة الفلسفية من نظريات وآراء ومعالجات .. كما ولم نجد عندهم اي حسن تعامل وأدب عندما يتدخلون في شؤون لا يدركون اي شيئ فيها .. بل ويدخلون انوفهم في ما لا يعنيهم . والفرق شاسع بين جيل الامس واليوم ، ان جيل الامس يخالفك ولكنه يعرف كيف يخالفك لأنه قارئ ومطلع ، ولكن جيل اليوم يخالفك بلا اي معرفة ولا اي قراءة ولا اي خزين من المعلومات .. بل ويتعمد تشويه الرأي والمعلومة ، ويقوّلك ما لم تقل .. انها ازمة اخلاق قبل ان تكون مشكلة تفكير ، وانها مأزق حضاري قبل ان تكون معارضة سياسية .. مساكين يريدون الدفاع عن شيئ لم يعد موجودا ، او انهم يلجّون في ان يجعلوا من انفسهم شيئا يذكر بلا اي مصادر وخزين معلومات ! انهم نتاج هذا الزمان البائس الذي تركته عهود الدعارة السياسية والحزبية التي عشناها على امتداد خمسين سنة ! وعلاجهم الا يلتفت اليهم احد . انه امر طبيعي ان تكثر في مجتمعاتنا المتخلفة مثل هذه ” الظاهرة ” التي لم تكن موجوده في ازمان مضت .. فعندما يتكلم الناس في اي مجلس او ندوة او محاضرة يستمع الاخرون اليهم ، ويمكن للاخر ان يسأل بعد ان ينتهي صاحب الكلام من كلامه .. فمن المعيب مقاطعته ، فكيف اذا كانت المقاطعة خارجة عن اللياقة والادب ؟ وانهي كلامي بمقطع من رسالة كريمة وردتني يوم امس من الاخ الاستاذ الدكتور كاظم حبيب وهو يعّلق على احدهم ، اذ يقول : ” فمثل هذا الأسلوب يثير عندي الشفقة على أناس لا يعون الفباء احترام الرأي الآخر وحق الاختلاف والعلاقات الإنسانية والنقاش العلمي والحوار الحضاري. المطلوب أن الحجة تقرع بالحجة وليس الحجة بالإساءة لمن قدمها ويطالب بحجة قادرة على نفي السابقة أو يتطابق معها ويؤيدها أو يقدم ملاحظات عليها. ولكن ماذا يفعل … وهو لا يمتلك وعياً للمناقشة بل يمتلك وعي الهجوم والإساءة , وهو وعي مزيف ومشوه ” .
نشرت هذه الحلقة لأول مرة في موقع الدكتور سيّار الجميل
14 يناير / كانون الثاني 2008
انتظروا الحلقة العاشرة والاخيرة قريبا جدا
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الثامنة)
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة السابعة)
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة السادسة)
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الخامسة)
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الرابعة)
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب.. الحلقة الثالثة
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الثانية)
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الأولى)
الرئيسية / حوارات / جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب.. الحلقة التاسعة
شاهد أيضاً
ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية
مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …