يتباعد ما يسود اليوم في الثقافة العربية والاسلامية معا عن كل مضامين الفكر السياسي المعاصر ، ويتم تشويه كل المفاهيم الفكرية السائدة بين الشرق والغرب ، علما بأن الفكر العالمي متجدد ومتمدن ويستند الى مفاهيم وفلسفات وآليات متطورة ، ربما تكون متباينة في الاساليب ، ولكنها تجتمع في الاسس والقواعد .. فلا يمكن للاحزاب السياسية في عالم اليوم ان تعمل في غير اطارها الوطني المؤمن بالفصل التام بين الدين والدولة ، ومن ثمّ الفصل بين السلطات وجعل الدولة في خدمة المجتمع بدستور مدني يستمد شرعيته من الشعب ليحدد الحقوق والواجبات ، وتكوين حياة مؤسسية مدنية لا يتدخل فيها رجال دين ولا شيوخ قبائل ولا سدنة طوائف .. اولئك الذين لهم واجباتهم المحدودة .. وللعلم ، فان تاريخنا لم يخل من مؤسسات اهلية وبلدية وسياسية في نظم اميرية وملكية وسلطنية وشاهانية وخانية ورئاسية .. كانت بعيدة عن المرجعيات الدينية التي باتت اليوم تفرض نفسها في الميدان بديلا عن المؤسسات السياسية واحتكارها وقيادتها وخلق تناقضات متفاقمة في الحياة .
اللعب بالالفاظ وقتل المعاني
السؤال : ما القصد من الفصل بين الانتخاب والمبايعة ؟ ثمة قطيعة بين الشورى والديمقراطية ، اذ ان بونا كبيرا يكمن بين احزاب دينية واخرى سياسية ، والمفارقة ان الاولى تسمى نفسها بـ ” سياسية” في حين الثانية لا يمكنها ان تكون دينية بأي شكل من الاشكال .. وفي حياتنا عالمينا العربي والاسلامي ، غدت المفاهيم متداخلة والمصطلحات مستلبة الى درجة لم يعد تدرك ما لهذا وما لذاك .. تجد البرلمانات العربية- مثلا – يزيّنها النص القرآني ( وشاورهم في الامر ، وامرهم شورى بينهم ) ولكن الاليات المستخدمة لا تمت للشريعة بصلة ، ذلك ان الشورى هي غير الديمقراطية ، والمبايعة احدى آليات الشورى لما يقرره أهل الحل والعقد ـ كما وصفت في الاحكام السلطانية ومصادر اخرى ـ ضمن شروط لا يمكن لها ان تستقيم اليوم مع الاليات الحديثة التي تستخدمها النظم الديمقراطية في العالم وخصوصا في الفكر السياسي الليبرالي بشقيه الاوربي القادم الينا من تضاعيف ما بعد الثورة الفرنسية ، او الامريكي المستحدث لما بعد الثورة الامريكية في التاريخ الحديث . ليست المشكلة منحصرة لدى من يمارس هذه اللعبة المفضوحة ، بل انها تمتد الى اولئك الذين يتشدقون بالتقدمية والطليعية ولكنهم يصفقون لهؤلاء اللاعبين الجدد باسم الدين .. بل لا يمكن فهم المعادلات الجديدة في ساحاتنا الفكرية والسياسية عندما يلتقي اللاعبون من الجدد بكل خوائهم السياسي ونفاقهم الديني مع اولئك الذين حملوا الفكر القومي العربي على امتداد القرن العشرين وكانوا يبشرون بالعلمانية والطليعية ! لقد قتلت المعاني على ايدي كل هذه الاتجاهات ، وخصوصا عندما ينأى الجميع عن افكارهم ومبادئهم وقيمهم الفكرية ، كي يكونوا مهرجين من الطراز الاول تحت مسميات ودعاوى شتى !
الديمقراطية ظاهرة تاريخية صعبة
في عالمينا العربي والاسلامي اختلطت الاوراق بشكل بات التمييز صعبا جدا بتداخل المفاهيم السياسية واختلاطها في الثلاثين سنة الاخيرة ، وخصوصا بعد عام 1979 ، وباتت التيارات الدينية بمجمل جماعاتها واحزابها وتشكيلاتها منقسمة على نفسها بل ومتصارعة في ما بينها ، وكلها تسعى الى السلطة بأي ثمن ، او انها تطمح للبقاء في السلطة بأية وسيلة .. ولما كانت آليات الديمقراطية طيعة جدا ومباشرة ، فلقد استغلت اسوأ استغلال من اجل فرص الحكم بالـتأثير على الجماهير ومن خلال صناديق الانتخابات .. ولم يلتفت احد الى ما يطرحه المفكرون منذ ربع قرن قائلين ان ” الانتخابات” هي غير ” المبايعة” وان ” الديمقراطية” هي غير “الشورى” .. ولا علاقة بين الاثنين أبدا ، اذ لكل اداة حاضنتها، ولكل فكر مرجعيته .. وهذا ما ادى الى تشويه الصورة السياسية واختلاط الامور اليوم عشوائيا .. ومما زاد الامر خطورة ان كل من يتحدث بمثل هذه ” القطيعة ” يتهم من قبل المناوئين بشتى التهم الجاهزة .. وغدت تتكوّن في حياتنا منظومة من التناقضات بعد ان زحفت على حزمة من الشعارات التي ازدحمت بها حياتنا لما بعد الحرب العالمية الثانية وتعاظم المد القومي الثوري الذي كانت له مؤدلجاته وافكاره اثر زحفه على جيل الليبراليين الاوائل في ما بين الحربين العالميتين الاولى والثانية !
نحن ازاء مأزق حقيقي ، والمستغرب له ان الغرب يتعامل مع واقعنا بكل تناقضاته من دون ان يدرك الفرق في المرجعيات وما تنتجه التناقضات المختلفة .. والانكى من ذلك ان الاحزاب الدينية لا تستطيع ابدا تقديم اي برامج حديثة ولا رؤى . سؤال يثير الانتباه حقا : اذا كان العديد من المفكرين والكتّاب الغربيين قد ادرك عمق الهوة بين تناقضاتنا ، فلماذا تبارك السياسات الغربية نتائج حصلت عليها الاحزاب الدينية ، بل ودعمتها في الوصول الى السلطة ، او حتى في وجودها في السلطة وهي تعلم علم اليقين انها استخدمت ” الديمقراطية” غطاء لذلك ، فهي لا تسمح حتى بالشراكة ، بل وتحارب الاحزاب السياسية حربا لا هوادة فيها !
هناك من يتعّجب قائلا : كيف لليابان وكوريا قد نجحتا في استيراد الديمقراطية ونحن نحّرم استيرادها وان اخذنا بها فشلنا ؟؟ هنا لابد للمرء ان يدرك بأن اختلاف الواقع وتباينه بين بيئات الشرق الاقصى عن بيئات الشرق الاوسط جعلت المفاهيم الغربية تتطور هناك في اقصى الشرق اسوة بكل من المعرفة والنظم والمعلومات وآليات التفكير .. في حين ان الاخفاقات في الشرق الاوسط قد سببتها منظومة التناقضات التي خلقتها ازدواجيات التفكير والذهنية المركبة والاخذ بوسائط ضمن مرجعيات قديمة .. فالاحزاب الدينية في الشرق الاوسط لا تؤمن بالمجتمعات المدنية بل تؤمن بالجماعات او الطوائف الدينية ، وهي تستغل الانتخابات وسيلة ، ولكنها لا تؤمن بالحريات ولا بالمساواة .. وهي تتمتع بمنتجات العصر التكنولوجية ولكنها لا تؤمن بالحداثة ولا الفكر المعاصر .. وهي تروج لشعارات ومطلقات مثالية ولكنها لا تؤمن بالنسبية والنظريات العلمية .. وهي لا ترى طريقها الّا من خلال الماضي ، ولكنها لا تبصر اي رؤية عملية للمستقبل .. وهي تفاقم من تناقضاتها بانقساماتها الطائفية والمذهبية والجماعاتية ولكنها لا تؤمن حقيقة بالاوطان والمشروعات الوطنية ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة ، ولا بالحقوق المدنية ، ولا بازالة الفوارق الاجتماعية ، اي انها باختصار لا تؤمن بالعلمنة ، ومن لا يؤمن بها فلا يمكن ان يؤمن بالديمقراطية ..
وعليه ، فانها مولدة للمشكلات المزمنة ، وانها مثيرة ومسببة لأزمة الواقع بكل معضلاته ، فتتبلور تناقضات بمنتهى الشراسة ! فهل سيتغيّر الواقع ؟ نعم ، انها القطائع وتغيير كل النظم الداخلية للاحزاب وتنمية التفكير السياسي ؟ ان الخلاص لا يحصل الا بخلق نقيض النقيض في كل واقعنا ، وهذا لا يحدث الا بتغيير جذري في المفاهيم والرؤى والانظمة الداخلية والايمان بالحريات ومتغيرات العصر .. وسيأخذ ذلك زمنا طويلا !
التغيير مسألة حضارية قبل ان تكون سياسية
دعوني أسأل واجيب : كيف نعيد التفكير ببناء العراق مستقبلا ؟ اذ لا يمكن ابدا ان يبقى هكذا على حاله لخمس سنوات اخرى .. ولا يمكن لكل القوى السياسية ان تبقي اجندتها من دون اي تغيير ، وبلا فرز للمبادئ عن المصالح ؟ لا يمكن ان تبقى الاوراق مخلوطة وبمشيئة امريكية صرفة .. او كما يصفق لها المهرجون والاغبياء .. وينبغي للوعي بالمستقبل ان يستفيق من غيبوبته .. فالتغيير مسألة حضارية ولا يمكنها ان تبقى سياسية ، والسياسة العراقية ترمومتر للمجتمع بيد قوى لا يمكنها ان تبقى مهترئة لمرحلة زمنية قادمة .. ان العام 2011 سيحمل اثقالا اخرى وسط دوامة الاعصار الذي شل حياة المجتمع وحركته . فالتغيير لابد ان يجد البدائل الحقيقية لاعادة البناء .. لقد اعتمد على بدائل هشة لم تصلح له ابدا ، وقد عولجت ضمن اجندة عدم الاستقرار وتبلور الاهواء المتصارعة والارادات الجديدة التي لم يصلح بعضها للحكم أبدا كما لم يصلح بعضها الاخر للمعارضة ابدا ..
ان الاستقرار السياسي والامن الاجتماعي لا يمكنهما ان يسودا بالحديد والنار والدم ، وكذلك لا يمكن شرائهما بالمال والسلاح من ميليشيات حزبيين ، او اناس قبليين ، او مرتزقة طفيليين ، او تهريج طفيليين .. ان اي دولة تحترم نفسها لا يمكنها ان تعيش بلا قانون يحمي حدود وطنها ، ويؤمن على مؤسساتها ويدافع عن مجتمعها .. والقانون لا يسود بلا قوة عسكرية او قوة بوليسية .. ان مجرد وجود مليشيات وقوى مسلحة ، يعد مدعاة للصراع والتمزق بين القوى السياسية ، فكيف اذا اصبحت بين القوميات والعشائر ؟ انه احياء للاهواء والعصبيات وما تنتجه من امراض طائفية وعرقية وفئوية وتحزبات دينية ومحليات .
هل من هندسة سياسية واجتماعية في العراق ؟
ان هندسة العراق الاجتماعية ان لم يكن من ورائها عقل عراقي مدبر وارادة وذهنية متوقدة وانفتاح فكري .. فسوف تبقى فاشلة في اداء مهامها . ان العراقيين بأمس الحاجة الى الايمان بمبدأ الشراكة ، وابعاد كل من يستغل الاحقاد من دون وطنية صرفة .. هنا ، ستبقى الحالة غير مستقرة وغير آمنة وسيبقى العراق يزدحم بالصراعات وتهديدات الجيران .. ان الانطلاق من الاسلوب الذي رسمه الامريكيون اعتمادا على محاصصة المكونات الطائفية والعرقية هو اسلوب خاطئ في عملية التغيير والبناء .. ونحن نرى منذ قرابة خمس سنوات ، كيف طفحت المكبوتات وانفضحت المخفيات . ان الامور لا يمكنها ان تتصّفى من تلقائها من دون اي حساب للتفكك الداخلي وللتدخل الاقليمي وخروقات العالم الخفية .
ان التعايش السلمي لا يؤسس سريعا ، فالعراقيون بأمس الحاجة اليوم الى نسق تفكير جديد يلتزمه مسؤولون اكفاء يبتعدون تماما عن اي نزعة طائفية ، وعن اي اثارة انقسامية ، وعن اية عواطف قبلية او عشائرية .. اذكياء يدركون وسائل التعامل والخطاب مع المحتل .. ويترجمون عوامل التجانس والالتقاء بديلا عن هوس الاختلافات والتباينات .. ويتدرجون في معالجة المشكلات خطوة خطوة ، ولا يمكنهم ممالئة الحزب والطائفة والاثنية على حساب الجميع .. ولا يفرقون بين اغلبية واقليات .. ولا يخلطون الاوراق هروبا ، ونريدهم يبتعدون عن الفساد والاختلاسات وسرقة المال والارض والانسان ..
ان ادراك المشكلات الاجتماعية يساعد ادوات الحكم .. وتطال المسؤولية ايضا كل الاعلاميين العراقيين وقدرتهم في ترجمة ضرورات المستقبل باستراتيجية متفق عليها لمعالجة الجراح لا التنكؤ لها .. اعلام له وطنيته وموضوعيته وحياديته وشفافيته ومساحاته غير المحدودة في كشف كل الاخطاء وادانة كل الفاسدين ، وعدم استخدام الماضي للاخذ بالثارات او التنطع بالمفاخرات أو الرقص على اشلاء العراقيين او التعتيم على كل الجرائم او التهريج مع الفاسدين او تزييف الحقائق والتكتم على المسيئين .. لقد غدت الاعلاميات اليوم آلية مدمرة للعراق سواء كان منطلقة من الداخل او من الخارج ..
واخيرا : هل يمكننا ان نجد تغييرا عراقيا حقيقيا نحو الافضل ؟
من الصعب التكهن بما سيحدث في الافق ، ولكن هذا ما ستجيب عنه الايام القادمة !
نشرت في الصباح البغدادية ضمن عمود ( مكاشفات عراقية ) ، الخميس 21 نيسان / ابريل 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …