إن كل المجتمعات الحية، تطمح للتغيير من أجل تلبية حاجاتها الإنسانية وضروراتها في الحياة، التي تتقدم دوما نحو الأمام من دون الالتفات إلى الوراء، إلا بقدر استفادتها من تجاربها التاريخية. زاملت قبل سنين خلت أحد أساتذة الفلسفة الأوروبيين، وكنّا نتبادل أطراف الحديث في يوم مشمس. قال: إن روسيني الموسيقار الإيطالي الشهير، قد بشّر بالتغيير في أوبرا كوميدية شهيرة ألفها بعنوان «حلاق اشبيلية» عند مطلع القرن 19، فلم ينفع وقت ذاك مبدأ «إرجاع القديم إلى قدمه» في مؤتمر فيينا عام 1816 على لسان مترنيخ، إذ انطلقت الحياة في أوروبا في مسالك أخرى، وانتفى عصر السلطات الإمبراطورية القديمة.
عدت أبحث اليوم عن عوامل تغيير أوروبا قبل قرنين من الزمن، اكتشف أن جيلا جديدا ولد مع الثورة الفرنسية عند تسعينيات القرن 18. وقد هبّ هبّة واحدة بعد قرابة عشرين سنة، لكي يطّور الحياة إلى الأمام، لا أن يبقي القديم على قدمه.
كان «حلاق إشبيلية» يتطلع إلى تغيير جذري وشامل، لتفكير الأوروبيين وأساليب حياتهم السياسية والاجتماعية. لقد انطلقت ثورة فلسفية كبرى قوامها العقل في ألمانيا، وانطلقت حركات أدبية وفنية وموسيقية أوبرالية رومانسية في روسيا والنمسا وإيطاليا وهنغاريا.. وانطلقت حركات اجتماعية وفكرية واشتراكية تعاونية في فرنسا.. ثم بدأت الثورة الصناعية في انكلترا منتقلة إلى الأراضي المنخفضة.. فتحققت نبوءة «حلاق إشبيلية».. وعندما انطلقت تلك المجتمعات، كان روسيني قد رحل عام 1862، بعد أن بشر بالتغيير الذي رسم خارطة طريق لأوروبا.
جيلنا العربي الجديد، وهو من ولادات نهايات القرن العشرين.. يبرز اليوم على الساحة متطلعا نحو حياة أفضل، وإلى تغييرات واسعة تنقله إلى الحداثة، ومن المطلقات إلى النسبية، ومن احتكار السلطات إلى انتقالاتها السلمية.. ومن الظلم إلى العدالة، ومن الجوع إلى الرخاء، ومن النهب إلى النزاهة، من الحيتان السوداء الكبيرة إلى الأسماك الملونة الجميلة، وإيقاف ما تبتلعه من موارد البلاد والعباد..
التغيير عندنا اليوم بحاجة إلى فكر جديد ينقله إلى كل المسارب، ولا يوقفه عند هدف معين.. لا يكفي أن تطيح بنظام سياسي معين كي تؤسس على قاعدته، بل التغيير بمثابة موجات قوية، باستطاعتها غسل كل الأدران، وتبديل كل الموجودات من أجل بناء جديد.. التغيير لا يمكن أن يعبّر عنه في شعار، أو هتاف، أو تصريح، أو بيان.. إنه فكر يحيي كل الأجزاء الميتة.. وفلسفة توقظ الخلايا النائمة.. وحركات قوية تسري في كل المفاصل.
كان التغيير في أوروبا كما وجدناه تاريخيا قبل قرنين من الزمن، يتحرك على أرضية صلبة، تهيأت منذ أزمان بعيدة، كي يتحرك فوقها كل الناس.. فهل يمكننا أن نكتشف كم هو حجم الإخفاقات، ليس في منطلق التغيير، بل في أساليب سريانه هنا أو هناك؟
إن تجاربنا التي وجدناها عربيا حتى اليوم مع انطلاقة 2011، تنبئنا بأن الممكن السياسي يطغى كثيرا على الطموح الحضاري، كون الأول مفتاحا لبلوغ الثاني، ولكن ما نشهده من عثرات وإخفاقات هنا أو هناك، تتحمل مسؤوليته كل النخب التي تصفق للمنجز من دون تقديم أي منهج عمل له، وأيضا تلك الأنظمة السياسية التي لا يمكنها أن ترى مصالحها تضرب أمامها كي تشجع على التغيير.. ثمة عامل آخر يكمن في الإعلام الذي يدير نقل الأحداث بما يناسب هذا أو يلتقي مع توجهات ذاك.. التغيير عندنا مصاب بتلوث سياسي عقيم، ناهيكم عما يعبر عنه انقساميا، أو طائفيا، أو مذهبيا، أو عرقيا.. الخ، من طفيليات هذا العصر.
إن التغيير مهما كان نوعه، سيقدم حلولا جديدة، وسيعلّم الآخرين دروسا حقيقية تحدث اليوم على وجه الأرض، وسيخطو إلى الأمام، ولكن بخطوات وئيدة وثقيلة، إن لم يصاحبها منهج وتفكير وأساليب ذكية للوصول إلى الأهداف.. إن الجيل الجديد أراه يحمل من طموحات التغيير الكثير الذي لا يمكن تخيله في بعض الأحيان، ولكنه ضائع التوجّه بين تجارب يعيشها، أو أفكار يلتصق بها، أو إعلاميات تضخ له كل يوم أجندات متباينة.. إنه لا يعرف أي طريق يسلك! يرى نفسه محاصرا بعدة حلول منذ أن خرج إلى الحياة، وهو يسمع: الإسلام هو الحل؛ وأمامه تجارب مريرة! الديمقراطية والفوضى الخلاقة؛ وأمامه ما صنعته الأوهام الأميركية في الصومال وأفغانستان والعراق! المستبد العادل؛ وما أخفق فيه الحكام الأحاديون! العسكريون؛ وأين أصبحت مصائر أمم على أيديهم!
إن الجيل الجديد في حياتنا العربية، بحاجة إلى ما يشابه «حلاق اشبيلية» يومئ له بالإشارات الخضراء، أي طريق يسلكه، وأتمنى عليه أن يسلك الطرق العقلانية للوصول إلى تحقيق طموحاته وأحلامه.. نحن بحاجة إلى فكر وعقل جديدين، يخلصاننا من تبعات الماضي العقيم.. نحن بحاجة إلى منهج جديد ينقذنا من أوهام الطوباويين.. نحن بحاجة إلى بناة حقيقيين يصنعون المستقبل بنزاهة وعقل وحكمة.. نحن بحاجة إلى نخب مخلصة تؤمن بالمصالح العامة والإنسان والحريات والقانون، وتعددية الفكر ورؤية المستقبل.. نحن بحاجة إلى التغيير، ولكن ليس على حساب أجندة مغايرة تمزقنا وتشرذمنا طائفيا وعرقيا واجتماعيا.. نحن بحاجة إلى التغيير، ليس السياسي وحده، بل الحضاري الذي يتمفصل في كل مرافق الحياة، إذ ينطلق من تغيير التفكير أولا، والوعي بذلك ثانيا، والإدراك بقيمته ثالثا، والعمل به رابعا..
فهل ستنجح أجيالنا الجديدة في بلوغ أهدافها؟ نتمنى ذلك من صميم القلب.
نشرت في البيان الاماراتية ، 24 مارس / آذار 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …