بعد أن طويت صفحات القرن العشرين بكل ما حفلت به عربيا من الأحداث والوقائع والانقلابات والحروب والانتصارات والهزائم .. ضمن ما أطلق عليه بـ ” نظام عربي ” ولد في الحقيقة بعد انبثاق مؤسسة منظمة أسموها بـ ” جامعة الدول العربية ” .. هل سيتبلور نظام عربي جديد في إطار عربي سواء ضمن هذه المؤسسة المترهلة ، أم من خلال منظمة من نوع آخر ؟ هل ستبقى المنظومة العربية متأرجحة بين الفشل والحياة على زمن جديد .. ام سيصبح لا وجود لها في ظل المتغيرات التاريخية الجديدة ؟ وهل ستبقى هذه ” المنظومة ” غير متجانسة من الناحية الاقتصادية ولا من الناحية السياسية والحضارية معا ؟ هل ستصطدم المجتمعات العربية بتحديات جديدة لم تصادف مثلها في القرن العشرين ؟ وإذا كانت الإجابة ب ” نعم ” ، فهل باستطاعة العرب الاستجابة لتلك التحديات الصعبة ؟
اهتراء مؤسسة الجامعة العربية !!
إن الدول العربية ، تعيش اليوم ، مرحلة التفكك السياسي بعد أن ذبحتها مرحلة الانقسامات الايديولوجية .. لقد أثبتت الأحداث التاريخية منذ أن دخل العالم القرن الواحد والعشرين ، أن ما يسمى بمنظومة ( أو : جامعة ) الدول العربية هي ظاهرة خطابية سياحية ومسرحية مهرجانية ليس إلا ، وان المبادئ التي جمعت هذه الدول العربية سواء المؤسسة للجامعة ، أو التابعة لها بعد نيل الاستقلالات الوطنية ، قد انتهت من دون رجعة .. تلك ” المبادئ ” التي تضمنها النظام الداخلي لهذه ” الجامعة ” ، والتي اتفق على أن يكون أهم مبدأ فيها يقول بدفاع الدول الأعضاء عن أي دولة منها تتعرض لأي خطر خارجي ! ولقد كان هذا ” المبدأ ” أكذوبة حقيقية منذ أن نشأت هذه ” المنظومة ” الهشة التي لم تستطع أبدا الاستجابة لتحديات الأعضاء ، ونزق بعضهم للبعض الآخر ، وهشاشة الآخرين مع أجندة ما يسمى بدول عربية كبيرة تريد فرض شعاراتها وأفكارها سواء ابتعدت أو اقتربت من مبادئ العضوية .. مقارنة بما تقوله دول صغرى تدور في فلك هذا الطرف او ذاك ..
متغيرات تصنعها الجماهير
أن الأحداث التاريخية التي تجتاح بلادنا العربية اليوم ، لا تختلف عما سبقها من أحداث مريرة في تاريخ المنطقة ، ولكن يبدو واضحا انها متغيرات تصنعها الجماهير التي تعّبر عن إرادة مجتمعات ضد انظمة حكم متنازع عليها من قبل أبناء المجتمع جراء فشل الأنظمة في تحقيق مطالب الناس والوفاء بالتزامات الحياة السياسية .. وستبقى قضايا أساسية تخص المجتمع مطالب بتحقيقها بالرغم من أن الجدلية الساخنة ستبقى قوية بين الدولة والمجتمع العربيين ، فما يطمح اليه الأخير ، لا يمكن أن يتحقق بسهولة على يد أي نظام سياسي !
اليوم ، اجد الطريق الذي بدأه الجيل الجديد ، وبعد ان انفتح على مصراعيه بحاجة ماسة الى معالم وخطوط محددة للمضي فيه بمعزل عن تدخل أي طرف من الاطراف .. بل هي واحدة في سلسلة الصراع الدائم في المنطقة التي لم تأتلف ولا لمرة واحدة على ” ستراتيجية موحدة ” أبدا ، بل أن الصراعات السياسية الداخلية التي كانت منذ خمسين سنة محتدمة أيديولوجيا ، غدت اليوم متهرئة قيميا ، ومنتجة لانقسامات لا حدود لها حتى ضمن البيئة الواحدة ، أو البلد الواحد . ولا ندري هل سيبقى مثل هذا ” الوضع ” المزري في الثلاثين سنة القادمة أم ان التغيرات ستمضي في طريقها نحو المستقبل ؟ هل ستبقى المنظومة العربية تعيش انقسامات التاريخ في دواخلها ، وتعاني من التدخلات الخارجية التي تساهم في التعمية على الانقسامات والضعف ؟ فما دور الجيل الجديد الذي رسم ملامح التغيير ، بل وحققه في بلدان معينة ان لم تقف الى جانبه نخبة فكرية ترسم له خارطة طريق المستقبل ؟
ما نفع البرلمان العربي والمنظمات الاخرى ؟
لقد كنت قد طرحت منذ سنوات خلت على صفحات جريدة النهار البيروتية أن تعلن جامعة الدول العربية استقالتها من التاريخ .. كي يبحث العرب عن منظومة جديدة ، تساهم من خلال نظامها الداخلي في تأسيس نظام عربي جديد يتلاءم والتحولات الجديدة ؟ ولقد ثارت ثائرة سدنتها وقت ذاك ، وبدءوا يرددون شعارات الإصلاح ، ولكن من دون أي نتائج عملية ، كونها ضحك على الذقون .. ثم انبثق ما يسمى بـ البرلمان العربي والذي وصفته بأضحوكة جديدة ، وزعلوا مني مرة أخرى .. واليوم، أسألهم بضمائرهم: أين هو الإصلاح ؟ وأين هو البرلمان العربي ؟ ومجتمعاتنا تسحق لتثور ، والعالم العربي يكاد يخرج من جسده امام كل العالم .
هل يعقل أن تصبح ” الدولة ” العربية منفصمة عن مجتمعها بالكامل ؟ أم أنها كانت منذ أن وجدت على طرفي نقيض هي والمجتمع الذي تحكمه ؟ وهل كانت البلاد العربية جديرة بالحفاظ على جغرافياتها التي صنعها الأوائل، ولم يصنها الأواخر بأي شكل من الأشكال ؟ وعلى امتداد قرن كامل فشلت المجتمعات العربية من خلال ما لها من ” دول ” أن تؤسس تقاليد تاريخية لها ، وكانت الأجيال ضحية أهواء ونزوعات وبقايا ومواريث ومخلفات ماضي الآخرين !! ولماذا بقي العرب حتى اليوم اكثر عجزا من إيران أو تركيا في تشكيل إرادة موحدة إزاء التحديات وفي مقدمة تلك التحديات : اسرائيل ؟ واذ ينظر لتركيا بلدا مستقرا ووسيطا جديرا بالثقة كونها الام التاريخية لمعظم المجتمعات العربية ، تبدو إيران مثيرة للمشكلات السياسية والمذهبية في صراع لا معنى له في هذا العصر ، وخصوصا بين قطبين مؤدلجين اثنين اولاهما السعودية وثانيهما ايران ، او ما يسمى بالصدام الشيعي ـ السني!
العرب اليوم منقسمون سياسيا ، كالعادة ، ولكنهم اليوم ، قد تشّظوا اجتماعيا ضمن خنادق طائفية ودينية وعرقية ومذهبية وجهوية .. من ناحية أخرى ، صحيح أن الناس خرجت إلى الشوارع تعبر عن رفضها وثورتها من اجل التغيير ، وليس من اجل التنديد والاستنكار كالعادة المألوفة .. يتساءل أي محلل يتمتع بواقعية فكرية : ما الذي يريده الناس ؟ ما خياراتهم ؟ هل هدفهم اسقاط أنظمة وإبعاد زعماء، ام انهم يريدون تغييرا حقيقيا ؟
التأسيس لمستقبل عربي جديد
يبدو أن الشباب الذي نجح في تغيير الانظمة غير مؤهل أبدا لانجاز المهام أو الأهداف التي يريد الناس الوصول إليها .. وعليه ، فهو يحتاج الى من يرسم له خارطة طريق في ظل مبادئ تختلف نهائيا عما كان في القرن الماضي ! وكثيرا ما ينقسم المجتمع بانقسام السياسات ، علما بأن ليس هناك أي سياسة أفضل من أخرى ، إلا بقدر تعّلق الأمر بحسابات ذكية في وصول أصحابها لتحقيق ما يريدون بأقصر الطرق وارخص الأثمان .. صحيح أن من لا يريد التفريط بالحقوق يصمد ويناضل حتى أنفاسه الأخيرة ، وهو يعتبر صموده بمثابة انجاز تاريخي إزاء خصمه المتغطرس الذي لا يهمه إلا أن يسحق ويقتل ويدمر ويشرد كما يحدث في ليبيا على عكس ما حصل في مصر من نضال سلمي استوعبته الدولة بمؤسساتها المدنية والعسكرية ..
لقد كنا قد طالبنا بثورة اصلاحات او تغيير جذري لكل البنى في منظومتنا العربية ، ولم نجد اية استجابة تذكر ، بل وتوقعنا حدوث التغييرات في العام 2009 ، ونشرنا ذلك في أكثر من مكان منذ نهايات القرن العشرين ، وصولا الى جملة ” المقالات ” التي نشرناها في العديد من امهات الصحف العربية منذ العام 2000 ؟
صحيح أن أنظمة سياسية عربية عديدة طرحت شعارات ” الإصلاح ” ، ولكنها كذبت ، كونها أرادت إقناع العالم أنها مع تحولات القرن الواحد والعشرين .. فعادت إلى المربع الأول حيث لا يمكن مقارنتها اليوم، بما كانت عليه في الماضي القريب.. صحيح أن جميع العرب ( باستثناء العراق المهزوم عام 1991 شر هزيمة ) قد صفقوا لمؤتمر مدريد ، وشاركوا فيه ، ولكنهم لم يكونوا على استعداد إعلامي للاعتراف بإسرائيل ، علما بأنهم معترفون بها خفية كل على انفراد .. إنهم عاشوا زمنا طويلا يشتهون إسرائيل، ولكنهم يستحون من الاعتراف بها .. يتعاملون سرا مع إسرائيل ، ولكنهم يبيعون الوطنية على شعوبهم .. هذا الانفصام العربي خلق لدى إسرائيل استهانة كبيرة بالعرب الذين يتكلمون بأكثر من لغة معها أو ضدها في آن واحد !
تكوين خارطة طريق
إن أي نظام عربي بحاجة إلى جملة شروط حقيقية لتأسيس حياة سياسية جديدة بعيدة عن كل المألوفات التي أصابها الوهن والعفن معا .. إن تأسيس إستراتيجية عربية لا يمكنها أن تولد من منظومة جامعة دول عربية لم تعد لها أي نفع أبدا ، فإذا كانت قد أخفقت في الثلاثين سنة الأولى من حياتها ، فقد كانت هناك مشروعات عدة للتغيير والانقلابات والتحولات التي لم تكن الناس تتصور أنها ستفشل جميعا .. في حين أن إخفاقاتها المتتالية في الثلاثين سنة الثانية قد قادت إلى أن تكون ميدانا لتصفية الحسابات العربية ولم تعد تنفع إزاء حروب ومشكلات وغزوات وحصارات
واحتلالات .. الخ
ما الحل ؟
فما الحل إذن ؟ هل الإسلام هو الحل ؟ هل (الديمقراطية) على طراز الفوضى الخلاقة هي الحل ؟ هل صعود مستبد عادل هو الحل ؟ هل الشيوعية هي الحل ؟ هل العسكريتاريا هي الحل ؟
إن من يريد تأسيس نظام عربي جديد ، لا يتعاون لوحده مع أي نظام دولي أو إقليمي بمعزل عن الإرادة الموحدة .. إننا أمام حالة تاريخية هشة ، لا نعرف كيف نرسم خارطة طريقها ، فبسبب هشاشة الحلول أخشى أن تصبح متغيراتنا في أزمة ! كما إننا أمام حالة تاريخية هشة لا تتمتع بأي ثقل في مواجهة العالم الذي لم يزل يبحث عن مصالحه على أرضنا ووجونا كون عالمنا العربي واحدا من أهم المجالات الحيوية في العالم .. السؤال الأهم الذي نواجهه : هل سيبقى العرب يدورون في دوامتهم من دون أي نظام جديد يحدد سيرورتهم التاريخية إزاء العالم في القرن الواحد والعشرين ! هنا أدعو العرب قاطبة للعودة إلى بيان الإسكندرية للإصلاح والتغيير ليكون منهج فكر وعمل من اجل بناء نظام عربي جديد يقوى على الحياة .
نشرت في الصباح البغدادية ، 14 ابريل / نيسان 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …