ان الجناة كثيرون في حق العراق ، ولكن المسؤولون عن ادارة العراق وأمنه هم جناة ايضا .. ان شراكة حقيقية بين من يرتكب الجرم ومن يتحمل مسؤولية عن عدم ارتكاب الجرم .. لقد فقدنا قبل ايام نخبة من العراقيين الابرياء تحت طائلة القتل المنظّم وضمن لافتة الارهاب ومع سيرورة بقاء شريعة الغاب تدّمر حياتنا العراقية وتمزّق وحدة العراق الاجتماعية وتقطّع اوصال البلاد .. لقد افتقدت شخصيا اخوين لصديقين عزيزين ، ذهبا وهما في قمة عطائهما ، وهما طبيبان بارعان ، وقد قتلا ظلما وعدوانا ، وذهبت بمعيتهما قافلة من الشهداء الابرياء .. فكم يا ترى قد ذهب من ضحايا على امتداد سنوات الغليان منذ ثمانية اعوام ؟ لا يعرف احد من يكون الجناة ؟ واذا كانت الحكومة العراقية مسؤولة عن امن البلاد والعباد .. فمتى تتحمل مسؤوليتها عّما يحدث في العراق بحق السماء ؟
يا لشجاعتكم ايها المسؤولون ؟
كتب لنا احد الاصدقاء وهو استاذ قدير في الجامعة المستنصرية قائلا : ” اقامت الجامعة المستنصرية صباح الاحد مجلس عزاء على روح الشهيد محمد حسن العلوان ( عميد الكلية الطبية في المستنصرية والذي اغتالته يد الغدر والاجرام ) ، وتم التهيئة لمجلس العزاء من قبل لجنة .. اقمنا سرادقا في الحديقة الامامية الجميلة للجامعة ، واستعدنا لاستقبال المؤبنين من الاساتذه وذوي الشهيد وزملائه والمسؤولين في الدولة بحضورهم الى مجلس العزاء مابين الساعة10 -12 صباحا .. وعلى اساس طبعا يحضر (وزير ) التعليم العالي والبحث العلمي .. واخبرونا بانه خرج من الوزارة حوالي العاشرة ، الا ان زحمة الطريق وكثرة نقاط التفتيش ، ولاسيما بهذا الجهاز الخارق الكاشف لادوات الارهابيين الذي اثبت فاعليته ورخص ثمنه ووطنية الذين استوردوه لمعاناة الشعب حالت دون وصول ( الوزير ) الى الجامعة الا بعد انتهاء الوقت الرسمي للعزاء ، وضجر الحاضرون ، فقد حضر معاليه الساعة 12 ، وبعد قراءة الفقرة الاولى من البرنامج وتتمثّل بقراءة القران الكريم لحوالي 5 دقائق ، غادر معاليه كما دخل ، اذ خرج من البوابة الخلفية . ويبدو ان الهروب من هذه البوابة الخلفية ، قد فعله بناء على نصيحة جاءته من مصادر عليا ، او تعلمّها ممن اعتاد عليها لشجاعته الخارقة باعتباره البطل المنقذ والمحمي بلواء من المدججين باحدث الاسلحة .. لقد جاء لنا على عجل ليقول بأنه حضر ، ولكنه جاء بعد ان انتظرت الجامعة طويلا تشريفه لها .. نعم جاء على عجل ، فكان السبب باحداث الهرج والمرج في العزاء .. مؤسسة علمية عريقة كالمستنصرية تنتظر مقدم الوزير الميمون للمشاركة الحقيقية ، لكنه يهرب من الموقف ، ويسجل حالة تعيسة في مغادرته الملعونة . كان الجميع ، يتوقع منه كلمة تأبين في المجلس ، او عبارة تعاطف أدبي ، او جملة تصريح ، او تعزية لاسرة الفقيد حتى وان كانت مقتضبة ، سيما وان جميع الفضائيات كانت حاضرة هناك ، وهي تغطي المناسبة ! وبذلك يثبت (الوزير) ليس فقط جهله وانتماءه اللقيط لهذا الوسط العلمي المهم الذي يعتبر في مقدمة اوساط المجتمع العراقي ، وانما ليثبت عدم اهتمامه بحجم المأساة .. واستهانته بالاسرة الجامعية العراقية التي تعتبره متطفلا عليها ، وجارحا لكرامتها ، ومسيئا لها ولكل العلماء والاكاديميين في العراق . انها ليست سقطة سياسية يتفقون عليها ويمررونها في غرفهم المغلقة ، بل هي سقطة قيمية ازاء مجتمعنا العراقي الذي يعتز بمثل هذه القيم ، وهو يؤبن اغلى الناس العراقيين الاصلاء .. او ازاء الاسرة الجامعية التي تبكي احد ابرز علمائها وعمدائها المتفانين في ادائهم ومسؤوليتهم .. فماذا يمكن ان يحصل اذا كان (الوزير) نفسه يهرب من الابواب الخلفية !؟ لقد كان التأبين ناجحا ومؤثرا حيث القيت كلمات لنقابة المعلمين التي حملت الحكومة تقصيرها في حماية الاساتذة ، والقيت قصائد ، وكلمة نجل الشهيد التي ارتجلها بحماس وتأثر بالغ وتعهد بمواصلة العطاء للعراق الذي قدمه والده الشهيد .. وكانت الجامعة المستنصرية تتوقع الحضور من عدد كبير من النواب الذين لم يحضروا أيضا ، وهو مقام وتشريف يجب ان يسعى النواب لتأديته ، اذ سجل العتب عليهم ايضا بلا استثناء كما هو السخط من قبل الاسرة الجامعية العراقية على ( وزير ) شاءت المقادير ان يصبح وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي في العراق !
العراق تدّمره شريعة غاب ذكية
اذا كان المسؤولون عن حكم العراق وادارته لا يتعاطفون مع مأساة العراقيين ، ولا يؤدون واجباتهم ، فهل تهمّهم ارواح العراقيين ؟ هل تهمّهم دماء العراقيين التي كانت ولم تزل شلالا يتدفق مع توالي الايام والسنين ؟ ما الاجراءات الحقيقية التي قام بها المسؤولون على امن البلاد والعباد ؟ أين هي التحقيقات الجنائية التي لابد ان تعمل ليل نهار للحدّ من استفحال شريعة الغاب ؟ ثماني سنوات والعراق يغرق في الدماء ، ويوغل الجناة بقتل الناس الابرياء ، والفساد ينتشر في كل مكان .. فما الذي فعلته الحكومة السابقة على امتداد خمس سنوات ؟ وما الذي فعلته اليوم الحكومة الجديدة ؟ كل الذين ذهبوا وقضوا ظلما وعدوانا وخسروا حياتهم وخسرهم العراق .. سجلت الجنايات ازاءهم ضد مجهول ؟ من يكون هذا ” المجهول ” يا حكومة العراق ؟ جحافل من رجال امن والاف مؤلفة من الشرطة والجيش والقوات المسلحة ورجال المخابرات .. ولم تكشفوا عن حقائق جريمة واحدة ولم تعلنوا عن كل حيثياتها ومن يقفلا وراءها ؟ كنتم ولا زلتم تتشدقون بانكم قد قضيتم على الارهاب وحّل الامن ربوع البلاد .. ولكن القتل موجود ، والتفجيرات تنتشر هنا وهناك .. العلماء يقتلون في العراق .. الاعلاميون يمتهنون في العراق .. الضباط يغتالون في العراق .. وكل العراقيين لا يعرفون من هو الجاني الحقيقي بحقهم ! ما شرعية وجودكم اذن ؟ من يحكم في العراق اذن ؟ انتم الذين تهربون من الابواب الخلفية .. ام مجهولون يعيثون فسادا .. ولا يسود في العراق الا شريعة غاب !
كلهم في الهوا سوا
ان حفنة من الجناة يعيثون في العراق فسادا تحت مسميات شتى منذ سنوات طوال ، والمشكلة الحقيقية ان لا احد يعرف ما الذي يجري في المدن الاساسية التي تقبضون على انفاسها .. ثمان سنوات مرّت ولا تعرف مصادر صناعة هذه الفوضى والتدمير .. ثمان سنوات مرّت والسلطات المتنوعة لم تستطع فعل اي شيئ لايقاف شريعة الغاب المسيطرة على كل العراق ! المشكلة ان تصبح الجريمة عادة ، وتغدو شريعة الغاب مسيطرة على كل المرافق ! والمسؤولون الجدد يهربون من البوابة الخلفية .. كنت اتمنى ان يحيا كل المسؤولين الجدد ، ويشعرون بثقل المأساة وحقيقتها من دون اي مواربة ، ولا اي مخاتلة ، ولا اي زيف ، ولا اي التفاف ، ولا اي تعتيم ، ولا اي مناورة ، ولا اي مساومة .. ان انحسار البعد الاجتماعي في النضال ضد المأساة التي صنعتها شريعة الغاب ، جعل البيت العراقي يمتلئ بشذاذ الافاق ! وان اللعب على انقسام الشعب العراقي تحت مسميات شتى ، أمات المشروع الوطني والاخلاقي الذي كنّا ننشده منذ سنوات خلت .. وان المحاصصات اللئيمة هي التي كبلت المجتمع العراقي (من رأسه حتى ساسه ) ، وجعلت بعضهم ممن لا يعرف ادارة قطيع من الاغنام على رأس مؤسسات واجهزة ووزارات وادارات وجامعات !! ان بلدا اصبح بايدي المزورين الذين وصلوا الى مواقعهم العالية زورا وكذبا وبهتانا .. سينتقل يوما بعد يوم من مأساة الى اخرى .. والمشكلة اننا ننادي بمعالجة الظواهر السلبية التي يقتنع بها الجميع ، ولكن لا أحد من المسؤولين الكبار والصغار يترجم ذلك الى ” واقع ” ، فهم يدركون خطورة ما سيفعلونه ! كثيرون من الذين يكتبون لي قائلين : لا حياة لمن تنادي .. ولكن ما الحل ؟ هل يمكن ان يسكت كل العراقيين عن هذه المأساة الغادرة .. كي يبقى العراق في دوامة الانتقال من سيئ الى أسوأ ؟ ان المشكلة العراقية في الجناة على العراق ، والجناة ليسوا من الذين يفجرون انفسهم فقط ، بل الجناة ايضا في العديد من المسؤولين المزورين والجهلة والمارقين والفاسدين والمرتشين والسارقين .. واذا كان الارهابيون يقتلون البعض من العراقيين ظلما وعدوانا .. فان المسؤولين يقتلون كل العراق والعراقيين .
متى تغلقون الابواب الخلفية ؟
لقد دخل الى اجهزة الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية اناس لا يمتلكون اية مؤهلات ، بل والأسوأ انهم يحملون شهادات مزورة ، بل ويقال عن قادة كبار في الجيش العراقي لا يعرفون القراءة والكتابة ، بل كانوا من المسؤولين عن ميليشيات لسنوات ، فادخلوهم الجيش برتب عسكرية عالية ! واعضاء وكوادر في احزاب سياسية لا خبرة لهم ولا كفاءة لديهم .. اصبحوا مسؤولين كبارا ! ان المشكلة اكبر من ان يتخيلها أحد ، وان الحلول لا يمكن ان يقدمها ويطبقها ، الا من توفرت لديه القدرة والقوة والكفاءة والتفّ حوله الناس ، ثم ان المال والسلطة قوتان ، كانتا دوما في التاريخ من الخلفيات التي يقوم عليها الفساد والعنف، ووفرة المال المفرطة، تماماً مثل العوز الكبير له من أجل البقاء، يقتلان كلاهما الوطن .. ويسحقان المجتمع . اذا كنتم غير قادرين على حماية العراق والعراقيين ، فماذا انتم فاعلون ؟ واذا كنتم غير مؤهلين ابدا لتحمّل المسؤولية ، فلماذا جئتم تحكمون ؟ واذا لم تتوفر عندكم الشجاعة الكافية في الحدائق الامامية ، فلماذا تهربون من مواجهة المواقف الحقيقية من الابواب الخلفية ؟ اذا كنتم تسكتون على جرائم كبرى ومفاسد عظمى وانتهاكات صارخة .. فمتى تشعرون بتأنيب الضمير ؟
مرة تلو المرة ، نطالبكم ان تكشفوا ما عندكم من الملفات والاوراق والاسرار .. مرة اخرى نطالبكم ان تعلنوا عن الجناة الحقيقيين الذين يقتلون الشعب العراقي .. مرة اخرى ، نطالبكم ان تكشفوا عن القتلة الحقيقيين الذين يقتلون علماء العراق ورجالاته واعلامييه ومثقفيه ومبدعيه .. اذا كنتم تعلمون اشياء وانتم ستبقون على صمتكم ، فهذا أمر مريب .. واذا كنتم لا تعلمون ما يجري على ارض العراق ، وانتم تصمتون فهذا امر في منتهى الخطورة ! اذا كنتم شجعانا ، عليكم ان تتحدوا كل القتلة والفاسدين عند الابواب والحدائق الامامية .. اما ان بقيتم تهربون من مواجهة الحقائق ، وتلوذون بالابواب الخلفية .. فلا مكان لكم لا في مناصبكم ولا في العراق .. انكم في عملكم هذا تشيعون الرعب ، لأنكم تبدون وتظهرون ، وكأنكم متواطئين مع كل الفاسدين في العراق ..
واخيرا : لا يمكن أن تبقى الابواب موصدة ؟
لا يمكن ان تبقى الاحوال كما هي عليه اليوم .. ولا يمكن ان تبرر كل الجرائم والمفاسد والاهواء الخبيئة تحت ظل ” الديمقراطية ” ! لا يمكن ان نقبل امتهان ارادة العراقيين بقتل علمائنا واطبائنا واعلاميينا ورجال العراق ، كي نبقى مستسلمين لما تريدون ! لا نقبل ان تبقى جوقات المهرجين والمصفقين والمرتزقة تصفق للمزورين والهاربين والمحتالين والطفيليين والمتخلفين .. لا يمكن ان نقبل ايضا ان تسجل الجرائم والجنايات القاتلة وكل المآسي العراقية باسم مجهول .. وانتم تعرفون حق المعرفة من يقوم بمثل هذه الاعمال المخزية ! واخيرا ، لا نقبل ابدا ان تجادلون في هذه ” المسألة ” ، فلقد طفح الكيل ، واعلموا ان العراقيين يصبرون طويلا على الظلم ، ولكنهم ان انفجروا ، فسوف لا تجدون الابواب الامامية او الخلفية الا موصدة امام وجوهكم !
نشرت على الجديدة ، الخميس 7 ابريل / نيسان 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …