الرئيسية / مقالات / زعماء يعشقون شعوبهم وشعوب يسحقها الأشباه

زعماء يعشقون شعوبهم وشعوب يسحقها الأشباه

نحن لا نعيش في العصور الوسطى حتى يسود الحكم المطلق في حياتنا العربية! نحن لا نعيش حياة الغاب كي يأكل القوي منّا الضعيف! فهل أصبحت حياة المسلمين همجية بحيث يأكل الطغاة لحوم الناس، وهم أحياء؟ هل أصبح المواطنون أعداء على أرضهم، حتى يضربوا بالطائرات ويقصفوا بالراجمات؟ هل حرم الناس من التعبير عن إرادتهم في ما يريدون ويطلبون سلمياً، حتى يتم حصارهم ويقطع عنهم الماء والغذاء والطاقة؟ هل وصل الأمر أن تقصف المساجد، وتحرق المستشفيات أو تقّطع كل السبل بالأبرياء؟ هل من الأخلاق أن يحرم الأطفال والنساء والشيوخ من فرص النجاة، لينكّل بهم تنكيلاً مريراً؟
ما هذا الذي يجري هنا أو هناك في عالمنا العربي اليوم؟ هل غدت السلطة أهم من الشرف؟ وهل أصبحت الزعامة أثمن من الأخلاق؟ ما الذي يريده هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم زعماء وقادة ورؤساء، من شعوبهم التي ترفضهم رفضاً قاطعاً؟ هل من الرجولة أن أرى بلادي تتمزق أوصالها، وشعبي يحرق أو يسحق، وأنا أبقى معتلياً كرسي الزعامة؟ هل من العقل والحكمة أن يأتي هذا أو ذاك إلى السلطة ليكونوا في الموقع الأول وبطرق غير مشروعة، وبخيانة فاضحة، أو يفرضوا فرضاً على الناس من دون أي وازع ولا أية شرعية.. ليحكموا أزماناً طوالاً بالحديد والنار، ومن ثّم لا يقبلون بأية مطالبات سلمية لهم بالرحيل؟!
لقد مضى على هذه (الأمة) رعيل من الزعماء والحكام والقادة الشرفاء الذين ضحوا من أجل أوطانهم، وعشقوا شعوبهم، وأفنوا حياتهم في سبيل الارتقاء ببلدانهم.. زعماء سجلوا أروع المواقف الحضارية، وسطروا أهم المواقف الوطنية، ونشروا مبادئ العدل والمساواة والتسامح.. وحاولوا خدمة بلدانهم خدمة تنموية لا تضاهى.. رجال كانت لهم أصالتهم وسمو أخلاقهم في الدفاع عن مبادئهم وقراراتهم.. بل إن هناك من طلب في ساعاته الحرجة الأخيرة عدم إطلاق النار خوفاً من سقوط ضحايا أبرياء، فذهب ليضحي بنفسه بدل أن يغرق وطنه بالدماء! وزعيم انتحر كي لا يفقد كرامته بأيدي جلاديه! وزعيم أعلن تنحيه عن الرئاسة، وأعلن تحمله مسؤولية هزيمة تاريخية، ويطلب أن يرجع إلى صفوف الجماهير.. علماً ان الكوارث والهزائم في التاريخ لا يصنعها الأفراد، بل تصنعها عوامل متشابكة لا أول لها ولا آخر! وزعيم آخر لم يوقع على إعدام أي إنسان من مواطنيه، ويصنع من بلاده قبلة للعالم! وزعيم لا يتعامل مع معارضية كأعداء أو خصوم، بل يذهب بنفسه لإخراجهم من معتقلاتهم ويرجعهم إلى بيوتهم في سيارته! وقائد عسكري يصبح فجأة سيداً لبلاده، ولكنه يتخلى بملء إرادته عن السلطة، من أجل إتاحة الفرصة لغيره أن يأتي من خلال صندوق انتخابي! ورؤساء يتداولون السلطة في بلد من بلداننا، سلمياً ومن دون أي تشبث بالحكم، أو أي صراع من أجله!
إن ما شهدناه منذ مطلع العام ‬2011 وحتى اليوم، من سريان موجة التغيرات في كل الأوصال العربية، يبيّن كم هي مواقف بعض الزعماء العرب تعيسة إزاء شعوبهم التي أعلنت رفضها لهم.. إنهم يدركون جيداً أن شعوبهم ذكية ولا تقبل أن تبقى مضحكة لكل هذا العالم، ولكنهم أغبياء جداً في تعاملهم مع تلك الشعوب التي خدعوها لأزمان طويلة.. وكم لعبوا على عواطفها التي منحتها لهم! إن مجتمعاتنا العربية قد دفعت أثماناً كبيرة، كونها رضخت منذ زمن الانقلابات العسكرية، لإرادة المتسلطين الذين نصّبوا أنفسهم زعماء وقادة، ولم يكتفوا بهذه المناصب والمسؤوليات العليا، بل راحوا يصنعون من أنفسهم آلهة، ويفرضون على مواطنيهم أن يعبدوهم ويؤدوا الطقوس لهم صباح مساء.. لقد خابت مساعيهم، فالجماهير هّبت هبة واحدة تريد منهم الرحيل.. ومحاولة بقائهم في السلطة وبهذه الوسائل والأساليب، لا تجدي نفعاً أبداً.
كنت أتمنى على هؤلاء أن يكونوا زعماء حقيقيين، لا أن يتشبهوا بهم وهم طغاة وأغبياء معاً! كنت أتمنى عليهم أن يقرأوا التاريخ قراءة متمعنة، ليروا مصير من سبقوهم.. وكان عليهم أن يستفيدوا من تجارب من سبقوهم، سلباً وإيجاباً.. إن أي زعيم حكم على وجه الأرض، لا بد أن يعيش هواجس شتى بصدد نهايته السياسية.. فالتاريخ يسجل أروع الصفحات عن زعماء كانت نهاياتهم مشرّفة لهم ولشعوبهم أمام العالم، مقارنة بزعماء أو أشباه زعماء كانت نهاياتهم بائسة ومهينة ومفجعة، لأنهم لم يتعاملوا مع شعوبهم بمحبة أبداً، ولأنهم كانوا قد أضروا بمصالح البلاد والعباد وعرضوا بلدانهم للخطر، فضلاً عن نهب ثروات أوطانهم نهباً منظماً، وتبذير أموال الأمة تبذيراً لا تقرّه كل الأعراف!
إن الشعوب تدرك إدراكاً عميقاً قيمة كل زعيم، وما قدمّه لها في حكمه إياها.. وهناك زعماء حقيقيون قد أحبوا شعوبهم محبة عميقة، فقدموا لها كل ما باستطاعتهم أن يقدموه، وسجلوا أسماءهم بأحرف من نور على واجهة التاريخ، أمثال: المهاتما غاندي، ومحمد علي جناح، وسعد زغلول، وونستون تشرشل، وشارل ديغول، والشيخ زايد، وانديرا غاندي، وباندرانيكة، وسوار الذهب، ونيلسون مانديلا.. وغيرهم.
أتمنى أن ينبثق عصر تاريخي جديد، تتوالد فيه أجيال حية، وتبرز فيه زعامات حقيقية تتداول السلطة بروحية سلمية. أتمنى أن يختفي كل أشباه الزعماء من وجودنا، وأن يحظى وجودنا ومستقبلنا بزعماء رحماء وأذكياء، يتعاملون مع شعوبهم بمنتهى الأخلاق العالية، ويكونون في خدمتهم دوماً، وأن يعملوا من أجل الحفاظ على مصالح البلاد والعباد.

نشرت في البيان الاماراتية ، 05 أبريل / نيسان 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …