ليس هناك أهم من )الزعماء( في حياة مجتمعاتنا العربية، فهم يعيشون في ضمائر الناس ليل نهار سواء كان ذلك سلبا أم ايجابا.. سواء كره الناس ذلك الزعيم، ام احبوه وافتتنوا به.. الزعيم هو انسان قبل ان يغدو من صنوف الالهة.. وهو رمز البلاد يتقدمه علم البلاد ونشيدها.. انه المسؤول عن امن البلاد ورخاء العباد، ولكنه لا يمكن ان يكون فوق البشر أبدا.. الزعيم هو الراعي وهو المسؤول عن رعيته، ولكن لا يمكنه ان يأخذ برقاب الجميع نحو المقصلة! الزعيم هو الخادم الحقيقي للشعب، ليرعى مصالحه ويراعي مصالح البلاد العامة.. الزعيم مسؤول ليس عن قبض انفاس شعبه وامتهانه، وهو بنفس الوقت مسؤول عن تنظيم شؤون الدولة، وتنفيذ القوانين، واعلاء كلمة الحق، مع تداول السلطة .
الزعامة الحقيقية هي الريادة السحرية
كثيرون اولئك الذين كتبوا عن الزعماء، ليس في التاريخ وحسب، بل عن اولئك الذين تنتظرهم شعوبهم، فالزعيم الحقيقي لا يحكم كما يشاء له هواه، وهو يزهو بريشه كالطاووس، بل يدير شؤون البلاد مع طاقم العمل على احسن وافضل وجه وهو يصل ليله بنهاره.. اي يدرك معنى الادارة ويقدم الاهم على المهم، ولا يشغل نفسه بتوافه الامور.. انه الذي يعمل اكثر مما يهذي او يتكلم او يخطب او يطلق التصريحات.. وهو الذي يعرف كيف يختار اعضاء حكومته من الاذكياء والاكفاء والنزهاء المخلصين لعملهم ومؤسساتهم وتخصصاتهم، وهم الامناء على المال العام والشأن العام والصالح العام.. ويدرك ادراكا تاما انهم مؤهلون لادارة وزاراتهم ومؤسساتهم بحيث يعتمد عليهم اعتمادا كاملا، كّل في اختصاصه وشؤونه، ولا يمكنه ان يترك الشؤون الكبيرة تتراكم او تتعثر او تتعقدّ بلا اية حلول! الزعامة الحقيقية لا تقبل بشراكة الجميع في قيادة دفة السفينة وسط البحار، فكيف ان تاهت وسط الامواج؟ وهي لا تقبل ايضا شراكة الجميع في توجيه سير القافلة وسط الصحراء؟! هنا، عليه ان يقبل بمعارضة الاخرين من مراقبين ومرشدين وموجهين بعيدا عن التابعين والمصفقين والمهرجين والمتملقين والمنافقين والمداهنين.. الزعيم الحقيقي يقبل بكل ما يطرح عليه من دون ان يهتاج او يزبد، او يرعد.. فكل انسان معرّض للخطأ، فالزعيم اكبر من ان يقوم بدور المراقب او دور المفتش او يزرع جواسيسه في كل مكان!
مواصفات زعيم عربي
الزعيم هو الممثل الحقيقي لرعاية مصالح الامة، فليست الزعامة بالمهمة اليسيرة، ولا هي استعراض حرس شرف، او خطوات متكلفة على بساط احمر.. ولا هي مجرد وقفة استماع لنشيد وطني.. ولا هي صورة منقولة على الفضائيات لاستعراض عضلات، او نفش ريش، او مكابرة زائفة.. ليست الزعامة مجرد القاب فخامة وسيادة وجلالة ودولة رئيس، او صاحب سمو، او ملك ملوك، او دوام ظل عال.. الخ الزعامة ليست بضاعة عادية يلبسها كل من هبّ ودب ّليزرع على صدره كومة نياشين.. ان الزعامة ليست مجرد عرض ازياء، وموديلات، وبدلات، او اربطة عنق، او قلنسوات، او سبحات وخواتم، او ازياء غريبة ملونة.. الخ الزعيم ليس شيخ عشيرة، ولا رئيس عصابة قتل، او مسؤول جماعة مافيا، او قائد حزب منحرف، او آمر ميليشيا مسلحة.. الزعيم يمثل فصائل شعب كامل، وروح قضية وطنية، ورسوخ اخلاقيات عمل، ومشروع خدمات متطور، وسمو انسانية عالية.. الزعيم لا يمكن ان ينتصر ان مثل ادوارا تافهة باساليب سخيفة تجعله اضحوكة امام العالم كله.. الزعامة لا تأتي من خلال فردية صاحبها واحاديثه وكأنه حارس مرمى لا يشغله الا اختراق كرة، بل تأتي من خلال مشاركة الاخرين له في صنع القرار واصدار التعليمات وصياغة الاوامر.. فالاخرون هم المستشارون الذين يقفون على قمة المؤسسات.. وعليه، فالدولة الحديثة المتطورة ليست بحاجة الى زعماء سياسيين، بقدر ما تكون بأمس الحاجة الى المديرين التنفيذيين، كي يمشي النظام من تلقاء نفسه .
زعماء عالميون لم يتعلموا منهم شيئا!
لم يتعلم زعماؤنا العرب من امثلة أنموذجية رائعة مرّت علينا في تاريخنا المعاصر.. لم يتعلموا من مهارة وكاريزما زعماء يمثلون في الحقيقة شعوبهم اصدق تمثيل في ارادتهم الجمعية.. لم يتعلم زعماؤنا اليوم ما معنى الزعامة؟ وكيف تكون ناجحا فيها، او تكون فاشلا ليس باستطاعتك ان تحقق شيئا او منجزا واحدا؟ فالمؤهل للزعامة يتمتع بقابليات لا يتمتع بها غيره مهما فعل هذا الغير، ومهما اجاد التمثيل.. ان من يقرأ سيرا مشحونة بالقوة لزعماء متميزين كانت لهم جاذبيتهم وكانت لهم قدراتهم، وكانت لهم امكاناتهم ليحققوا ما وصلوا اليه.. سيشعر القارئ انه امام ظواهر لن تتكرر ابدا في التاريخ لدى هذا الشخص او ذاك.. ان الزمن كفيل بانجاب امثال: المهاتما غاندي، او شارل ديغول، او ونستون تشرشل، او ماوتسي تونغ، او اتاتورك، او انديرا غاندي، او نيلسون مانديلا وغيرهم ممن التصقوا منذ بواكير حياتهم بمقدرات شعوبهم، وكان الزمن كفيلا بايصالهم الى السلطة العليا، ولم يأتوا اليها سعيا لتحقيق مصالح حزبية او فئوية او قومية او مذهبية او دينية.. هؤلاء لم يأتوا كي يتربعوا على دست الحكم من خلال انقلابات عسكرية، ولا من خلال صراعات طائفية، ولا من خلال اوبئة قبلية، ولا بواسطة محتل اجنبي، ولا عبر انتخابات مزيفة!!
مبادئ عمل زعيم عربي
الزعيم الحقيقي ينبغي ان يكون ابن وطنه كله، لا ابن دين، ولا ابن حزب، ولا ابن اقليم، ولا ابن قرية او مدينة او قومية.. انه ابن كل الشعب بحيث لا يفرّق بين اثنين من مواطنيه الا على اساس الكفاءة والاخلاق.. انه ابن البلد الحقيقي الذي يحكي ضمير شعبه لا ان يتكلم باسم الاخرين الى شعبه.. انه يحمل على كاهله مبادئ زعامة، لا يفرق بين اثنين، ولا يفرق بين منطقتين، ولا يفرق بين عنصرين، ولا يفرق بين طائفتين.. مطلوب منه ان يعّبر تعبيرا حقيقيا عن مواطنته لا عن اي شيء آخر! مطلوب منه ان يجعل حاشيته من كل ابناء البلاد ، ولا يقتصر على ابناء اسرته، أو على اولاد عشيرته، ولا على اقربائه ولا على معارفه واحسبائه ونسبائه.. مطلوب منه ان يختار مستشاريه من اقوى الاكفاء في البلاد.. فماذا يقال عن احدهم وقد اختار اسوأ الناس ليجعلهم مستشارين له؟ لقد شاءت الظروف ان اسمع احدهم وهو مستشار اعلامي لأحد رؤساء الوزارات، فماذا وجدت؟ شخصية سمجة لا يعرف صاحبها تركيب جملة مفيدة بالعربية، وليس باستطاعته النطق بالاحرف العربية بسلامة.. مع جهالة حقيقية غير مصطنعة.. مهمته ان يدافع دفاعا فجا عن سيده؟ ماذا نقول لزعيم لا يسمع للاخرين ابدا؟ ماذا نقول لزعيم لا يريد الا الانفراد بالقرار، والاستحواذ على كل شؤون البلاد من دون ان يسترشد برأي هذا، ولا يتعلم من فكرة ذاك؟ ماذا نقول لزعيم افتقد مصداقيته بين ابناء شعبه، فقد وعدهم ان يحقق لهم ما يريدون باسم مبادئ العدالة والكفاءة.. الخ ولكنه خذل شعبه كله خذلانا لا اول له ولا آخر!
اخلاقيات زعيم حقيقي
نعم، ان الزعيم البار يعده شعبه، ابن الشعب كله دوما، لا يقتل ابناء شعبه، ولا يشردهم، ولا يقمعهم، ولا ينفيهم، ولا يعذبهم، ولا يسلب ارادتهم، ولا يخاف منهم ومن مظاهراتهم السلمية.. ولا يرتعب من مطالبهم.. الزعيم الحقيقي هو ذلك الرجل القادر على ان يستوعب الجميع، ولا يعاقب احدا الا بالحق.. ولا يسجن احدا الا بعد ان تثبت التهمة عليه.. ولا يقمع اي متظاهر، او منتقد، او معارض.. الزعيم القوي لا يكذب على شعبه، ولا يخدعه، ولا يناور عليه، ولا يعتم على المفسدين من الطفيليين، بل عليه ان يصارح شعبه بكل الاشياء، ويقلّب امامه كل الاوراق والصفحات وان يكون مستعدا للمساءلة.. الزعيم العادل، هو ذاك الذي يعامل الجميع كأسنان المشط من دون اية محسوبيات، او اية منسوبيات، او اية جهويات، او اية وساطات.. الزعيم الذي يملأ مكانه حقا هو الذي يجب ان يكون متواضعا، لا يرفع انفه على الاخرين متعجرفا متكبرا، وان يهتم بكل مواطنيه.. يجالسهم في المقاهي، ويلاطفهم في المدارس، ويمشي معهم في الاسواق، ويزورهم في المصانع، ويأكل معهم في اي مطعم شعبي.. ويشاركهم افراحهم واتراحهم.. ويمضي معهم في مواصلاتهم.. ويتفقدهم في المستشفيات.. كل هذا وذاك يجري شريطة ان لا تلاحقه اجهزة الاعلام ليسوّق بضاعته على الناس سياسيا ويجعلها منّة عليهم، فما يقوم به ينبغي ان يقترن بما يقوم به اي ابّ لبيته! فهل وجدنا على ساحتنا، امثال هكذا زعيم يحيا من اجل شعبه.. وينام ويصحو من اجل وطنه.. ويموت ان اقتضت الضرورة من اجل مصلحة وطنية عليا ،؟ وان فشل في زعامته، فان من الشرف له ان يعلن تخليه عن المسؤولية بكل رحابة صدر .
زعيم البلاد هو رب الدار
هل اتى القدر بهذا الزعيم او ذاك كي ينهب البلاد ويسرق اموال العباد؟ طبيعي ان كان رب الدار بالدف ناقرا، فشيمة اهل الدار كلهم الرقص! من يسرق المال والذهب باسمه او باسم احد افراد عائلته او احد اقربائه وحاشيته.. فسيصبح الكل اشقياء، وسيأكل الاقوياء كل الضعفاء.. اذا كان الزعيم سارقاً بدرجة امتياز، ويخفي جرائم سرقات جماعته، فان الفساد سيعم كل المرافق والمؤسسات.. ان كان حامي البلاد ورأس الدولة لا يستطيع ايقاف الفساد في اجهزته ومؤسساته الرسمية وشبه الرسمية، فان الفساد سينتقل لا محالة من الدولة الى المجتمع وشرائحه كلها .. ان كان اي زعيم يقود البلاد باستهتار وجنون، فسوف لن يستطيع اتخاذ أية اجراءات حقيقية ضد الحيتان الكبار، اذ يسبح هو نفسه معها، فتغدو الحياة جحيما لا يطاق ابدا، وستكثر الالتهابات والدمامل.. ولكن سيأتي اليوم الذي تنفجر فيه كل الدمامل وتسيل منها كل التقيحات! ان كان الزعيم غشاشا وكاذبا ومراوغا ومخادعا.. فسوف لن يفلت ابدا من عقاب شعبه له، او عقاب السماء بحقه وبحق كل جلاوزته، وبحق كل اعضاء جوقته التي تسبّح باسمه صباح مساء!
واخيرا.. هل من كلمة خاصة؟
نعم.. نحن نشهد في ظل متغيرات هذه المرحلة، كيف يتساقط بعض الزعماء العرب عن عروشهم وكانوا قد احتكروا السلطة العليا فيها لعشرات السنين.. نحن نشهد سيناريوهات تاريخية ومتواصلة ومنتقلة من مكان عربي الى آخر.. كم هي ثقيلة عليكم هذه الايام ايها الزعماء العرب؟ كم اصبح الزمن صعبا للغاية بالنسبة لزعماء لم يرحموا شعوبهم ، وكم غدت الحياة العربية بحاجة الى تجديد لبواطنها وهياكلها، وتغيير جذري لدواخلها كلها او حتى جلودها.. من اجل البحث عن زعماء تتوفر فيهم كل الخصال الرائعة، يأتون ويرحلون ضمن عملية سلمية ومن خلال اطار حضاري في التعامل مع الشعب، او في التداول للسلطة.. فهل يتعلم الزعماء العرب في الحاضر والآتي من تجاربنا اليوم، وما انتجته عهود القرن العشرين ؟
نشرت في الصباح البغدادية ، 31 آذار / مارس 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …