دعونا نكاشف احدنا الاخر ايها العراقيون من خلال افكار وتساؤلات اطرحها عليكم، كي نبحث عن اجوبة لها.. فلا يمكن ان تتطور الذهنية السياسية العراقية بمعزل عن فهم المعاني الحقيقية للديمقراطية.. ولا يمكن ان نجد مجتمعنا يؤمن بمضامين الديمقراطية، ان لم يدرك تقبل الراي والراي الاخر.. ولا يمكن ان تترسخ الديمقراطية في مجتمع تتنازعه التناقضات ، ويحل فيه اشهار السيف بديلا عن لغة القلم.. ولا يمكن ان نهرّج امام العالم ، اننا اصبحنا ديمقراطيين في مجتمع يأكل القوي فيه الضعيف ! ولا يمكن ان يدّعي البعض انه ( ديمقراطي ) وهو يؤمن بالتمييز الديني والعرقي والطائفي ! ولا يمكن للمرء ان يتمتع بحرية الانتخاب لمن يريد ان يكون في السلطة.. وهو لا يؤمن اصلا بالحريات الشخصية والفكرية ! ولا يمكن ان يلبس البعض لبوس الديمقراطية كي يهرب من المواجهة الموضوعية ليستخدم اسلوب المواجهة الشخصية من خلال الطعن والشتائم وكل المنكرات المخزية !
لا ديمقراطية من دون حريات
قد يتهرب البعض من الاجابة على التساؤلات الصريحة، اذ انه ينطلق من ثوابت ، او ترسبات ، او عقد نفسية ، او تناقضات فكرية ، او مصالح شخصية ليقول.. دعوا الامور تجري كما هي حتى تستقيم الاوضاع حتى وان تطلب الامر مئات السنين.. او قد يواجهك البعض بكل جهالة : هذا هو منهجنا الديمقراطي سواء قبلت او رفضت.. او قد ينأى الاخر عن ايمان عميق بان الديمقراطية لا تتعارض مع الاحزاب الطائفية.. ولكنهم يدركون جميعا بان (الديمقراطية ) لا يمكن ان تقوم لها قائمة من دون الحريات.. وان الحريات لا يمكن ان تمنح للناس كمن يمنح الحلوى للاطفال، فيفرحون بها، ولكنهم لا يعرفون كيف يتصرفون بها ! ان الديمقراطية ليست مجرد اداة تباع وتشترى، وانها ليست هدية معينة تمنح لجماعة على حساب اخرى ! وانها ليست مجرد نفق لعبور قطيع من مرعى الى مرعى اخر.. الديمقراطية – باختصار – اسلوب حياة، ونظام تفكير، ومرجعية علاقات تقوم اساسا على حق الانسان في العيش والراي والملبس والمشرب والتفكير والايمان والمعتقد والعلاقات. انها ظاهرة مدنية من اختراع الانسان ولا تقف الالهة من ورائها ! انها ظاهرة حضارية وتاريخية سعى الانسان الى بلورتها والتفكير فيها منذ عصر الاغريق وحتى اليوم. انها ظاهرة مدنية وليست دينية، بمعنى ان لا تفرض عليها اية وصاية مقدسة ابدا..
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا ؟
الانسان حر في اختيار ما يؤمن به، وما يفكر فيه، وما يتبع من اساليب في اي مجتمع ديمقراطي ولا يضمن حياته وعيشه وكل خياراته الحرة الشخصية والفكرية والسياسية الا القانون. وعليه، فلا يمكن ان نجد اية معوقات من هذا النوع في اية مجتمعات ديمقراطية.. فالحريات يكفلها القانون من قبل الدولة.. وربما تحدث اخطاء في هذه التجربة او تلك، ولكن الديمقراطية اخفقت عندما حكمت البروليتاريا المجتمعات.. وانعدمت عندما سيطرت الاحزاب القومية والفاشية على مقدرات اي بلد، وانسحقت عندما استخدمت غطاء لممارسات الاحزاب والجماعات الطائفية مؤخرا ! شهدت قبل ايام مجادلة بين اثنين من المثقفين العراقيين، اولهما قال بان الديمقراطية ما هي الا مشروع اعدام للاخلاق والشرف، وانها تبث العهر والفساد في مجتمعاتنا ، وتجعل المرأة مجردة من قيمها ! فاجابه ثانيهما، وهو خصمه وكان على النقيض قائلا: بان الديمقراطية في العراق مجرد اكذوبة كبرى، اذ لا يمكننا ان ندّعي اننا ديمقراطيون ودستور البلاد لا يبيح الا الاسلام في الدستور ؟ فماذا نفعل نحن المسيحيين مثلا، ومثلنا الصابئة واليزيديين وغيرهم؟ اجابه الاول : نحن الاغلبية، وعليكم الرضوخ لما نقرره نحن المسلمين ! فرد عليه خصمه قائلا: اذن اين هي الديمقراطية ؟ اين هي المساواة ؟ وحتى ان رضينا بما تقرره الاغلبية، فبأي حق يمنع خيار اي انسان من اختيار شريك حياته ؟ وبأي حق ينال كل من الدولة والمجتمع معا من اي مواطن لا يؤمن بسلطات ليست من صلب المواطنة والوطن ؟
توظيف ” الديمقراطية ” شعارات ودعايات
لقد بقيت القوى الليبرالية والقومية والشيوعية بالرغم من كل تطبيقاتها السياسية المتهافتة تطرح موضوع ” الديمقراطية ” كهدف اساسي من اهدافها، ولكن الغرب كله ( وخصوصا الامريكان) لم يعرها اي اهتمام، بل راح يدعم الانظمة الاستبدادية الحاكمة لانه بقي مشغولا ومهووسا باحادية مواجهته للخطر الشيوعي الذي يمثّله الاتحاد السوفييتي وحلف وارشو ! واعتقد ان الانظمة السياسية التي بقيت على علاقات قوية ببريطانيا، ظلّت هادئة ومستقرة ومتوازنة. في حين نضجت، بتشجيع امريكي، تلك الحركات الاصولية وخصوصا بعد عام 1979 ! وبعد اكثر من عشرين سنة على تلك ” الثورة ” تفجرت ضربة 11 سبتمبر/ ايلول 2001 القاسية. وهنا تغّيرت الامور رأسا على عقب في سياسة الولايات المتحدة، اذ احسّت انها السبب الذي احال المنطقة الى ما يشبه البركان.. فبدأت تنادي بدمقرطة المنطقة ضمن اجندة سريعة ليست مبرمجة ولا معقولة، وكأن الامر يمر من دون اية تحولات تاريخية للمجتمع برمته.
نعم، لقد غّيرت الولايات المتحدة سياستها وابتدأت تتحدث عن دمقرطة الانظمة العربية المستبدة التي وّلدت مثل هذا الحركات الاصولية المتطرفة في احضانها وعلى ارزاقها.. وجاء التغيير على ايدي القوات الامريكية ومن تحالف معها في بلدين اثنين : افغانستان والعراق. ومن سوء ما يفكّر به ( الديمقراطيون العرب ) الجدد هو نفسه المستعار من الجمهوريين الامريكيين الذين بدؤوا حملتهم من اجل دمقرطة دول الشرق الاوسط.. من دون معرفة البيئة الاجتماعية ، وتناقضات التفكير ، وازمات التغيير. انهم يطرحون المسألة الديمقراطية وكأنهم يطبخون طبخة سريعة ليوزعوها بين الجياع ! فلا يمكن ان تبدأ اي عملية سياسية ديمقراطية في ظل اوضاع سيئة للغاية، ولا يمكن تشريع دستور بسرعة بالغة وفي ظل اجندات ايديولوجية يناقض احدها الاخر.. ان هكذا حالة من الفوضى سيتولد عنها الجحيم بعينه بسبب ما نتج من مؤشرات تذكي الصراع وتشعل الواقع !
والمشكلة في الغرب انهم يعتقدون بان ما يريدونه سيطبّق مباشرة ومن دون اية اخفاقات.. والمشكلة عند العرب ـ مثلا ـ انهم يعتبرون انفسهم في مصاف الغرب ( او بالاحرى : العالم المتقدم ) اذ يقبلون املاءاته عليهم من دون اي عقل ولا اي منطق. بل واصبحت الولايات المتحدة تطلق جملة من المعلومات والمفاهيم الخاطئة وتشيع الافكار لخدمة مصالحها .. تلك الافكار والمفاهيم التي لا تتفق ابدا وحقائق الجغرافية والتاريخ والواقع من اجل تمرير خططها في الديمقراطية السريعة..
ان الديمقراطية الحقيقية بحاجة الى عملية سياسية واعية وذكية وان اي عملية كهذه لا يمكنها ان تتطور الا في ظل اوضاع امنية غاية في الاستقرار والاعتماد على كل الاطياف الوطنية في حوارات لا تؤجج المشاعر وتصريحات لا تشعل القلوب ولا تجرح الاحاسيس. ولا يمكن ان تجرّب حظوظك في الديمقراطية الا من خلال مؤسسات سياسية مدنية معلمنة لا من خلال اولياء امور واوصياء وزعماء ما ان يصلوا السلطة حتى يعتبرون انفسهم جبابرة ويتوهمون ان الارادة الالهية قد اختارتهم لهكذا مناصب.. فيتشبث بها المساكين باسم الديمقراطية !
الاصوات لمن ؟ للبرامج ام للشعارات ؟
ان المشكلة ليست بالرأي العام الذي يريدونه يبصم من دون اية دراية ولا عقل، بل انها مشكلة ساسة وكتاب والاف من اعلاميين واشباه مثقفين ، ولكنهم جميعا يتحذلقون ذات الشمال وذات اليمين تبعا للاهواء فيميلون حيثما مالت كفة هذا او رجحت على حسابها كفة ذاك.. انهم يضحكون على انفسهم قبل ان يضحكوا على العالم عندما يقولون بأنهم اصحاب حضارات، بل ويقيسون انفسهم كونهم يعيشون اخر ما وصلت اليه المجتمعات السياسية المتقدمة.. وهم يدركون مدى التخّلف الذي تثوى فيه مجتمعاتهم التي تعيش تفكير العصور الوسطى ! انهم يدركون جيدا بان العلاقات السياسية والاجتماعية اشبه بحياة الغاب. انني لست ضد من يغّير مواقفه وافكاره بتأثير الحرية وان يغدو مروّجا للديمقراطية.. ولكنني لا اتخّيل من ينقلب على عقبيه وقد اختار صراعات الطائفية بديلا عن صراع الطبقات !
الديمقراطية العربية.. بحاجة الى أجيال وأجيال !
ان مشكلة الديمقراطية اليوم تتوزع على جميع القوى والتيارات وانها قد اصبحت اداة سهلة للشغب والانقسامات والانشطارات والتشظيات والاحقاد والكراهيات.. كونها رائعة الاهداف والمعاني ولكنها سيئة في التطبيق وانها قد خلقت ازمات في داخل بنية الحزب الواحد.. فلا يمكن ان يتخّيل العالم حزبا عريقا جدا مثل حزب الوفد الليبرالي العتيق بمصر وهو ينقسم فجاة على نفسه ويتشظى ليستخدم الرصاص بين اعضائه!! ربما يقول قائل ان تجارب برلمانية وحزبية في انحاء شتى من العالم قد حدثت فيها هكذا انشقاقات. اقول : بلى، ولكن قد يحدث هذا حتى الضرب بالاحذية وتبادل الشتائم بين حزبين اثنين او بين اكثر من اتجاه واحد، ولكن ان تصل لدى اعرق حزب ليبرالي درجة اطلاق النار وسقوط قتلى وجرحى فهذه تجربة بليدة بحاجة الى وقفة تاريخية طويلة..
بل الانكى من ذلك كله ما حدث في بلدان عربية مثل : الجزائر والعراق ولبنان.. ان تصل درجة الاختلاف السياسي الى القتل والنحر والتفخيخ كي نجعل العالم يقف مندهشا على هكذا تجارب نخوضها باسم الديمقراطية.. وان ذلك يستدعي اكثر من وقفة لاستعادة ما يقف من عوائق حقيقية بوجه تقدمنا وكيف باستطاعتنا ان نفتتح الابواب الموصودة التي ليس من السهولة ان تتحرك.
واخيرا : ما العمل ؟
اعتقد ان مخاض التحولات لا يمكنه ان ينتهي بسرعة من دون اثمان تدفع من قبل المجتمع وعلى مدى زمني ليس بالقصير ابدا.. ومن اجل اختزال الزمن، ينبغي تسمية الاشياء والمعاني باسمائها واعتماد من يدرك ذلك ليكون مرجعا، وان يستمع كل المسؤولين لما يقوله الراي العام وما تقترحه النخبة.. لابد ايضا ان تتغير المناهج المدرسية والجامعية بما ينتج من تشكيلات نوعية جديدة لجيل جديد سيكون محور العملية الديمقراطية وسيرسخ تقاليد واصولا سيتبعها من ياتي بعده.. ان هكذا مقترحات لا يمكن وصفها بالطوباوية عديمة التحقق، اننا ان شئنا ام ابينا فلابد ان تمر مجتمعاتنا بهذه المستلزمات.. ان الديمقراطية يمكنها ان تتعثّر لاسباب مباشرة ام اسباب غير مباشرة. ولكن لا يمكن لمنطقتنا ان تمضي في تجاربها الخاطئة كما الفنا ذلك من دون ان تتعلم من تجارب الشعوب الاخرى.. فضلا عن ان الديمقراطية اذا كانت بداياتها صائبة فانها ستكون صائبة في سيرورتها التاريخية نحو المستقبل.
نشرت في الصباح البغدادية ( عمود : مكاشفات عراقية ) ، 28 ابريل / نيسان 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …