أتمنى من الجميع أن يفكّر ويكتب أو يتحدث بروح حيادية في أكثر من مسألة تحتوى كلها على مثالب وأوضار ازداد تأثيرها في ثقافتنا السياسية خصوصا، ويا للأسف الشديد.. وهى ظاهرة ينبغي معالجتها علاجا هادئا وجذريا وبكل صبر وأناة للتخلص منها أو الحد من سلبياتها على مستقبلنا في القرن 12. وأتمنى من كل من لا يعجبه مثل هذا الموضوع كونه مازال يؤمن بالشعارات المزيفة.. أن يفكر بواقعه ويقارنه بالأمم الأخرى التي لم تعان من آفات مدمرة كهذه التي ابتلينا بها لأسباب تاريخية وسياسية..
إن إصلاح البيت لابد أن يتم من داخله قبل أن يعبر إلينا من خارج حدوده، أي : أن يفكر الإنسان بهدوء ويعالج شئونه مع أهله بروح ديمقراطية حتى وإن خاصمهم أو اختلف معهم، وأن ذلك لا يتأتى إلا بتوافقهم وتوازنهم واعتراف أحدهم بالآخر، واحترام كل التنوعات والخصائص والثقافات وأن يسمو تفكيرهم ليخلصهم من ترسبات وأمراض وتعقيدات وآثار وعادات وتقاليد وطقوس تربوا عليها منذ عشرات السنين، أوصلتهم إلى ما هم عليه اليوم.. ودوما أقول إن المشاكل يتحمل وزرها كل من الدولة والمجتمع معا، إذ أن كلا منهما نتاج حقيقي للآخر ! وينبغي أن يدرك كل واحد منهما مسئولية الآخر تجاهه ضمن عقد اجتماعي يتفق عليه لتبقى المعادلة متوازنة بتحقيق الأهداف المرسومة مع اختلاف وجهات النظر، ولكن ما يجمع الكل المبادئ الأساسية التي يؤمن بها الجميع.
ظواهر خطيرة
ثمة ظواهر خطيرة نعيشها اليوم، لكنها متوارثة، إذ كانت ولم تزل وراء هزائم الأمة، وهى مجموعة كذبات كبرى ومبالغات مفرطة لا حد لها من الاستخفاف والعبثية وقلة العقل ! إن عملية النهوض بالهمم و صنع الإرادة ليست بحاجة إلى أن يكذب أغلب المسئولين على الناس كذبات فاضحة كبرى ! وأن عملية دفع الإرادة إلى حيث الصمود والتحدي لا تتم بأساليب جوفاء لا نفع فيها، ولا بخطب عصماء لا تصمد أمام المعلومات ! وأن عملية التغيير لا تتم من خلال مبادرات سياسية وشعارات إعلامية بل من خلال التزامات بقوانين وتعليمات وعهود ومواثيق! وأن أي مواجهة سياسية أو حضارية خطيرة مع العالم لا يمكنها أن تعيش على أيدي الفاسدين في الأرض من الذين يغيبون الحقائق ويلوون الوقائع ويدفنونها من أجل مصالح فئوية وأنوية ونرجسية نفعية ضيقة ! وأن بناء المستقبل لأمة مثقلة بالتواريخ والمال والحضارة.. لا يمكن أن يتم إلا على أيدي بشر لهم أفقهم الواسع ورؤيتهم المعمقة للأشياء والأحداث.
حديث المستقبل : كذبات كبرى
قلت في مقال قديم نشر لي عام 2004 : (لقد سببت المشاكل والآليات الخطابية وكم الأفواه السياسية والاجتماعية إلى ممارسات غير طبيعية أبدا.. إن الاحتيال والنصب والرشوة حتى في الأجهزة الرسمية ! وكأن كل هذه الخطايا قد أصبحت مقبولة لدى الدولة ! لقد مضى أكثر من مائة سنة ولم تتعلم مجتمعاتنا كيفية مرور الناس والسيارات في شوارعهم الداخلية ! ولم يتعلم الأطفال كيفية الحفاظ على الزهور والنباتات في الأماكن العامة.. ولا يعرف الشباب وهم عماد الأمة مبادئ متحضرة لابد أن يتعلموها في المدارس منذ الصغر !.. يمكنك أن تتصور واقعًا مليئًا بالموبقات ولا أدرى كيف يعيش أهله فيه.!
وباء المتنافرين
ثمة قضية أخرى من نوع آخر، إذ وصل التنافر بين أبناء (الأمة) العربية إلى درجة جد عالية لم يجدها لا المتنبي عندما وصفها جاهلة في زمنه وقد غدت أضحوكة بين الأمم قبل ألف سنة.. ولم يجدها ابن خلدون عندما وصف أحوالها المنقسمة وخرابها قبل ستمائة سنة!! لقد زاد الخراب أضعافا مضاعفة ولا يمكن أن نبقى نتغنى بأنها (خير أمة أخرجت للناس) وهى معتلة بأكثر من علة وداء.. قلت في مكان آخر في العام 2004 أيضا : (ما أردت إثارته اليوم في موضوع لا مفكر فيه – مع الأسف – ذلك هو الكامن في المغالاة بالأشياء والعناوين، فإن انتقد أحدهم ظاهرة سيئة في بلد عربي، تحسس ابن هذا البلد وبدأ متمردا يدافع عن سيئات بلده عن غباء أو خوف أو حساسية الاعتزاز (الوطني) الأجوف.. ولما كانت الأجيال الجديدة قد تربت على الخلط في المفاهيم، فمن يثير مسألة اجتماعية أو اقتصادية عن بلد عربي.. ألبسوها لبوسا سياسيا واعتبر ذلك مسا بالنظام السياسي، وكأن الأنظمة السياسية أصبحت بمثابة أوطان مقدسة ! أو غدا زعيم البلد يعد نفسه بمثابة وطن ! ثمة ظواهر ربما كانت موجودة وربما تبلورت مؤخرا.. أنك تجد ثلة أو جماعة من بلد عربي معين مختلفة في ما بينها، ولكن تتحد على الخطأ إذا ما وجدت غريبا بدأ يشاركهم حدة الاختلاف ! وآخر صاحب منصب معلوم في بلد عربي معين يقابلونه على إحدى الفضائيات يجعل الأسود أبيض ولا يعترف أبدا بأخطاء ارتكبت ضد حقوق الإنسان في بلاده!
المبالغات المفرطة
ثمة خلل أودى بنا جميعا إلى هزيمة تلو أخرى.. خلل عانت منه حياتنا على امتداد القرن العشرين يكمن في التهويلات والمبالغات التي لا حدود لها.. ربما أفهم ذلك كمثقف عربي عند الشعراء ومن يتبعهم من الغاوين، ولكن أن يتحول الواقع إلى خيال، وتتبدل الحقائق إلى أكاذيب، وتتجسم صور في الذاكرة إلى محال.. وتصور الهزائم انتصارات.. وتذاع البيانات التي تحتوى على كم هائل من التلفيقات ! وتزور إرادة الأمة بـ 99 بالمائة في الانتخابات.. وتنطلى على الناس جملة لا حد لها من الأوهام والمفبركات.. ويؤمل أبناء الأمة أن إسرائيل ستلقى في البحر في غضون ساعات ! وتغدو الانقلابات العسكرية التي يشعلها ضباط ثكنات سواء كانوا خونة أو وطنيين من أعظم الثورات والإنجازات ! وتعلق الآمال في النهضة والتقدم على المانشيتات والإعلانات ! ويسير الزمن الثمين في سفاسف الأمور وأغباها في مطولات وخطابات ومحاضرات ومواعظ وندوات ومؤتمرات! ولا تسلم حتى التصرفات وبعض التقاليد والعادات من المبالغات في التعامل مع الحياة ولا أرى الناس قد ملت أو كلت من فرط المضخمات.. وحتى في توصيف الأشياء والمسميات.!
الشتائم المقذعة
لا أريد أن ألقى بمثل هذه التهم على كل العرب، فهناك مجتمعات عربية غاية في حسن الأدب والأخلاق والتهذيب، لأنها تربت على تقاليد أصيلة لا تستطيع الخروج عليها، ولكن هناك مجتمعات عربية تتبارى في التعامل مع أسوأ الكلام ورديئة سواء على مستوى الكبار من الزعماء والمسئولين وصولا إلى المواطنين العاديين.. صحيح أن لمجتمعات أخرى في هذا العالم الواسع سبابًا وشتائم، ولكن ليست كالتي يمارس فيها بعض العرب سبابهم وشتائمهم وبشاعة كفرهم. فمن يقف بوجه هذه التصرفات السيئة التي قد تمارس عند شعوب أخرى، ولكن ليس بمثل هذه الفجاجة والغلظة وسوء الأدب. فصاحب الرأي يجد نفسه فجأة وسط لجة من الاتهامات والمنكرات.. وكلها من أجل إسكاته سياسيا وتكميم صوته!
الضرورات بعيدا عن المحظورات
إن أجيالنا بحاجة إلى تأسيس مدارس تربوية خاصة تعلمهم الأساليب الديمقراطية، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وأن التغيير (أو : الإصلاح كما تسميه بعض المبادرات) لا يمكنه أن يتم من دون أن يتربى الإنسان على المرونة والشفافية وأن يكون واقعي التفكير وأن يعترف بالخطأ وأن يتقبل الآخر ويحترمه وألا يصل بحساسياته (الوطنية) المزيفة إلى حد الفجاجة.. وألا يخشى في الله لومة لائم، وألا يكتم الرأي المخالف، ويحجر على العقل وألا يبالغ في ما لا أصل له وأن يتخلص من أوهام تعشش في رأسه وأن يتخلص من مبالغاته وحساسياته ومقذعاته.. وألا يتشفى بمصائب الآخرين كونهم غدوا مشردين مثله وألا يتدخل في شئون الآخرين، أو في ما لا يعنيه من أجل مصالح معينة على حساب الآخرين.. علينا أن نغير خرائط العقول وأساليب التعامل الساذجة. فهل سيتغير التفكير بسهولة ويسر؟ وهل ستصبح مجتمعاتنا كالملائكة ؟ إنني أشك في ذلك !
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4318 – السبت الموافق – 12 مارس 2011
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …