إن الدستور هو بمثابة عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع ، وان كلا من الحقوق والحريات ، يحدد تقدم أي مجتمع ، وان الواجبات تنظم مسار الدولة . وعليه ، فان النظام والقانون يحددان مكانة أي دولة ، وبعكس ذلك ، فان الدولة ستغدو هشة وان المجتمع سيعيش الفوضى .. ولكن إن لم نجد نخبة من المؤهلين نسوة ورجالا يديرون دفة كل العملية ، فالفشل سيكون تحصيل حاصل . إن البيئة والثقافة تحددان تقدم ورقي أي ” نخبة ” ، وان الذهنية والعقل والسلوك يحددان شخصية أي إنسان ! فأين مثل هذه ” المعادلة ” من عجلة العراق المتوقفة عن الدوران ؟
انتم في واد والشعب في واد آخر
دعوني أتساءل حقا : أين كل هذا وذاك من وجود المؤهلين حقا لإدارة الحكم والمؤسسات والأجهزة والمؤسسات وكل العمليات ؟ دعوني أكاشف أهل الشأن ، أولئك الذين يجتمعون في مجلس النواب وبينهم انشقاقات وحزازات جراء اختلافات وتباينات لا في المواقف أو الآراء في كيفية التشريعات وقوانين البلاد ، بل في المصالح السياسية والمنافع الشخصية التي جاءت الأغلبية من اجلها لتغدو ممثلة للشعب تحت قبة واحدة .. أو أولئك الذين يسيّرون البلاد في مجلس الوزراء الذين فرضوا على الناس فرضا بحجج سياسية أرادتها الأحزاب وقادتها .. إن العراقيين كانوا وما زالوا ينتظرون أي انفراج يخلصهم مما هم عليه .. إنهم ينتظرون حلولا عملية للمشكلات الصعبة التي يعيشونها ..
كيف ؟
الاحتجاجات والتظاهرات : حق مشروع
إنهم يحتجون اليوم بعد أن وجدوا أن شعوبا عربية أخرى نجحت في إسقاط رؤساء وحكومات ومنظومات حزبية حاكمة .. من اجل بدء تاريخ جديد . إنهم يحتجون ليس ضد الفساد ، بل ضد من يصنع الفساد من المفسدين وعلى المتسترين عليهم .. إنهم يتظاهرون سلميا في الساحات والشوارع وهي من حقوقهم المشروعة لهم .. لم يخرجوا يوما على امتداد السنوات الثماني الماضية إلا وواجههم القمع وقوبلوا بالاهانات .. وما زالت تواجههم قوات الأمن والأسلاك الشائكة وضربهم من قبل ( حماة الوطن ) .. إن المحتجين والمتظاهرين ليسوا أعداء لوطنهم حتى يواجههم قمع العسكر وهراوتهم نسوة ورجالا ..
إنني اسأل المسؤولين العراقيين : لماذا تعرض العديد من المتظاهرين والمحتجين ، وخصوصا الإعلاميين للمزيد من الاهانات والضرب والاعتقال ؟ لماذا ضربت إحدى الإعلاميات العراقيات على ظهرها ، بهراوة رجل امن ، ضربة قوية لم تزل تعاني من آلامها المبرحة ؟ لماذا مورست هذه الأساليب الفجة من قبل جنود وضباط ، كانوا يقولون أنهم يطبقون الأوامر الصادرة لهم ؟
المسؤولون العراقيون : بماذا ينشغلون ؟
إن النخبة الحاكمة تدرك جيدا ما الذي يريده شعب العراق منها .. إنها تدرك وتعي جيدا حجم الخراب الذي سببته السياسات المختلفة التي مورست في العراق .. إنها تدرك جيدا أن العراقيين يعيشون بتعاسة وضنك وعسر ..ولكن هؤلاء المسؤولون ليست لديهم القدرة على حل المشكلات ، وليست لديهم المقدرة على إيجاد الحلول .. إنهم مشغولون بمشكلاتهم ورواتبهم ومصالحهم ومناوراتهم وقد تركوا شؤون البلاد للمجهول .. إنهم مشغولون بتوافه الأمور ، كما يبدو من تصريحاتهم ومداخلاتهم على شاشات الفضائيات ، ولم يلتفتوا إلى مصالح العامة أبدا ..
مؤتمر القمة : مهزلة اخرى
إنهم مشغولون بانعقاد مؤتمر للقمة العربية ، وكأن ( الأمة ) العربية لم يعد لها شغل شاغل إلا كيف تحل مشاكلها في بغداد ! وهم يعرفون جيدا أن بغداد ليس لها القدرة على معالجة ما فيها من مشكلات خاصة بها وبالعراقيين .. هل ستغدو بغداد قبلة للعالمين على مدى يومين تتخلص فيها من أزبالها ومن مياهها الآسنة التي تجري في الشوارع ؟ هل باستطاعة هؤلاء الذين سينشغلون في مؤتمر القمة العربي أن يعالجوا آلاف الأطفال والشباب من أمراضهم المزمنة والمتوطنة في عموم العراق ؟ هل سيمنحون البسمة للآباء والأمهات ، وهم يمسحون الدموع عن مآقيهم لما يصادفونه من شظف العيش ومآسي الحرمان ؟ هل غدا الشعب العراقي سعيدا ومرتاحا ولا شاغل يشغله إلا أن يصرف أوقاته لمشاهدة الملوك والرؤساء العرب ، وهم يجتمعون وقد سحرتهم عظمة العراق ؟ وكم انتقد الناس انعقاد المهزلة ، ولكن يبدو أن المسؤولين العراقيين يصرون على انعقاده .. وكنت أتمنى أن ينعقد ليس في قصر المؤتمرات ، بل في أية منطقة شعبية عراقية تمثل كل التعاسة !
العراق والعراقيون قبل التحزبات والمتحزبين
يأتون من خلال أحزابهم وتكتلاتهم لينعموا بمناصبهم ، فكيف يمكنهم أن ينسوا محسوبياتهم ومنسوبياتهم وتقاليدهم البالية .. يطالب بعضهم أن لا يتكلم هؤلاء باسم أحزابهم ولا يمثلوا كياناتهم ، بل عليهم أن يعملوا ويتكلموا باسم العراق ، ولكن حتى إن سكتوا أو غفلوا عن ذلك ، فليس من الصواب أن لا يجتمعوا على كلمة ما يريده هذا الحزب أو تلك الجماعة سواء باتخاذ القرارات أو بأتباع السياسات ! إنهم يرتبطون بمن أتى بهم إلى السلطة أو المنصب .. إنهم إن لم يجدوا منصبا ينتظرهم أو منفعة تأملوا الاستحواذ عليها ، انشقوا عن قائمتهم أو كتلتهم ، ليؤسسوا لهم كيانا هزيلا جديدا في غمرة مئات الكيانات السياسية التي لا تأثير لها أبدا .
كشوفاتهم المالية
يطالبهم احد المسؤولين الذي يقال بأنه نظيف جدا ، يطالب زملائه بعرض كشوفاتهم المالية على الملأ ، حتى يطمئن الناس إلى أنهم من الزاهدين أو النزهاء المتعففين عن أموال الشعب .. وكنت أتمنى أن يفرض على جميعهم التساؤل العراقي القديم : من أين لك هذا ؟ وان لا يكتفي المسؤول بعرض كشوفاته الشخصية ، بل يلزم بعرض كشوفات كل أفراد عائلته بدءا بزوجته أو زوجاته ومرورا بأولاده واحفاده ، وانتهاء بأصهاره وانسبائه وأقربائه .. ويحال كل مفسد أو فاسد إلى القضاء والعدالة ويعرض الاعلام مصائبه على الملأ .. إن الفساد المالي لم يقتصر على المسؤولين العراقيين وحدهم ، بل يغرق فيه اغلب المسؤولين العرب ، بل هو جزء من ازدياد الفساد العالمي في كل مكان .. ولكن في العراق يبدو انه فاق الأولين والآخرين .. ولم نجد حتى اليوم اتخاذ أي إجراء بحق المئات من المفسدين على ارض العراق .
منفوخون وقطعان
لقد علمتنا التجارب العراقية المريرة أن من يصبح في السلطة أو الإدارة وفي أي موقع كان ، فان الدنيا كلها ينبغي أن تخضع له ولإرادته وأفكاره وقراراته .. وان من يشير إليه بعكس ما يفعل ، فقد كفر ولابد أن يوقعوا الحدّ عليه ! فلا يمكن للمسؤول ان يتقّبل أي نصيحة مهما كان وزنها .. بل ويعاند ويكابر ويرسل شروره المستطيرة بكل اتجاه ، كي لا يقال انه قد تراجع عن موقفه او اعتذر عن تصرفه ! ولقد تعلمنا من أمثال هؤلاء الذين فجأة يجدون أنفسهم في مناصب وزارية أو نيابية أو إدارية أو قيادية .. لم يتخيلوا يوما أنهم سيكونون فيها .. تعلمنا كم هي تفاهاتهم التي يصدرونها ، وهم يعيشون وقد نفخوا ريشهم ، إذ تسري في أوصالهم أوهام العظمة والمكابرة الفارغة ، بل ويعتقدون أنهم أقوى من كل الآخرين .. فيتصرفون وكأنهم مجموعة من الآلهة وكل الآخرين قطائع من البهائم والأنعام والعبيد .. وترى جوقات من يسمونهم بالأتباع والمستشارين والمهرجين تحيطهم من كل صوب وجانب ، فلا يجرؤ أي واحد من أبناء تلك ( القطعان ) أن يعترض أو حتى يعلن عن انتقاداته ، إذ قد يهان ، أو تصيبه النار والإيذاء من قبل تلك الجوقات التي ليس لها الا النار والأحجار والهراوات والكلام البذئ!
قبض الريح بعد كل الخراب
لا أريد منكم شيئا أيها المسؤولون العراقيون إلا أن تفكروا بالعراقيين قبل أن تفكروا بأنفسكم وبمناصبكم وبمصالحكم .. لا نريد منكم شيئا أيها القادة الميامين ، إلا أن تجعلوا الله فوق رؤوسكم وفي صدوركم عندما تجدون العراق يسبح بالفساد والمفسدين والفاسدين .. ولا ادري كيف تتدرعون بشعائر الدين ، وانتم تغرقكم المفاسد وكل الكبائر والمنكرات ؟؟ هل يتفق هذا وذاك وانتم تحكمون ؟ فكرّوا يوما بأن كل العلاجات التي أوهمتم بها الناس لم تأت ثمارها .. وان كل اللجان التي تشكّلت والهيئات التي تأسست للمراقبة وإجراء التحقيقات ، لم يصدر عنها ما يعالج المثالب والسلبيات حتى يومنا هذا ، ولن تصدر عنها أية نتائج تذكر .. وان كل التعتيم الذي جرى على قضايا جوهرية ، عرفه كل العراقيين .. وان كل السكوت الذي تلوذون به ، وانتم تشهدون من يريد قتل العراق وتجزئته من دون أن تفعلوا شيئا .. لا أريد أن اذكر بالاسم أحدا منكم ، فكل من تولّى المسؤولية مسؤول عن هذا الخراب الذي أضحى لا يطاق .. إجراءات سياسية ، وقرارات رئاسية ، وتعليمات إدارية ، وأوامر عسكرية .. يجري تفعليها على ارض الواقع ضد أبرياء ، أو ضد مواطنين ، أو ضد جماعات ونخب وإعلاميين .. بل ووصل الأمر إلى إغلاق مقرات أحزاب قديمة .. والأمر يسجل دوما للمجهول ، وكأن ليس هناك أيادي توقع على كل القرارات !
وأخيرا .. دعوني اقول
نعم ، لعل ما حدث في العراق من تبديل للدكتاتورية المقيتة بالفوضى الخلاقة كونها ديمقراطية مستوردة قد أطلقت عنان العراقيين من حالات الكبت الطويلة التي عاشوها ، كي يمارسوا حرياتهم غير المسئولة في ظل الانفتاح على العصر ، فهم بحاجة إلى قيادات حكيمة ووزراء يدركون الواقع ، وقرارات ناضجة .. ومسؤولون يعرفون كيف يتصرفون ، ونواب يمثلون مصالح الناس بعيدا عن الارتزاق السياسي ، والاهتراء إلاعلامي ، وسياسات القمع والتهميش .. نريد من كل مسؤول عراقي أن يضع نفسه جنديا مجهولا لخدمة الناس بعيدا عن أية محسوبيات ومنسوبيات وعشائريات وتحزبات ومناورات ومصالح خاصة .. فهل انتم عن ذلك بمنتهين ؟
نشرت في جريدة الصباح البغدادية ، 17 آذار / مارس 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …