دعوني اخاطبكم بحرية كبيرة .. وكنت أتمنى لو شاركتكم وقفتكم في ساحة التحرير هذه الايام .. دعوني اكتب لكم بقلب مفعم بروح الأمل ومعاني الحياة .. دعوني أحاول تقديم عهد أمان بينكم وبين المستقبل .. دعوني أشارك كل العاملين المخلصين إنقاذ ما يمكن إنقاذه في العراق الذي يجمع الرأي العام في الداخل والخارج انه دخل نفقا صعبا ، لا يستطيع الخروج منه في وضعيته الحالية ، فكيف يتم إنقاذه ؟ أليس من الواجب ، التعرف على سبل جديدة في مجابهة التحديات .. بعيدا عمن هان عليه الوطن ، وبعيدا عمن لا تهمه إلا مصالحه البائسة ..
جيل جديد من العراقيين الشباب
لقد ثبت لنا جميعا ، أن العراقيين لهم القدرة على المطاولة والصبر والتحمل بشكل عام ، ولكن التاريخ شاهد أيضا على أنهم إن انفجرت بهم أوضاعهم ، فهم كالبحر في هيجانه .. لا يمكن أن يوقفهم أحد أبدا في الوصول إلى ما يريدون التوصل إليه .. ويبدو أن جيلا جديدا يتبلور بتصاعده نحو الأعلى يوما بعد ، وهو يحمل بين جنبيه قدرات جديدة وطاقات كبيرة .. بل ويختزن إبداعات لا أول لها ولا آخر . فهل باستطاعتنا توظيف جملة أفكار ومقترحات ومشروعات .. من اجل معالجة أوضاع العراق ؟ هل باستطاعة العراقيين أن يتخلصوا من العوامل التي قادتهم إلى الدمار .. كي يبدأ فجر جديد ؟ هل يدركون أن طريق المائة ميل .. يبدأ بخطوة واحدة ؟ علينا أن نشعل شمعة وسط الظلام كي نكسر غداف العراق المظلم .. إنني اعّول على الجيل الجديد بأخذ زمام المبادرة من اجل الانطلاق ، بدل هذه الجماعات المضنية والمتعبة التي اهترأت اهتراءا منذ أكثر من ثلاثين سنة .. إننا أمام حالة عراقية مؤسفة تماما ، خصوصا عندما نرى الهجمة البليدة على المثقفين العراقيين من اجل إسكاتهم ، وقتل إبداعهم ، وتكبيل إرادتهم .. وخصوصا أولئك الذين ما زالوا يمكثون كالأشجار الزاهية في مدننا الجميلة .
العراق في نفق صعب
إن العراقيين اليوم في نفق صعب .. ولا أجد أي محاولة حقيقية منهم كي يخرجوا منه بقوة ، لأسباب طالما قدّمت تحليلات موسعة عنها من دون تقديم أية معالجات حقيقية ، ليس لردم الهوة التي تفصلنا عن الحياة الطبيعية ، بل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، والعالم كله يتحرك بسرعة كبيرة .. إن التظاهرات السلمية واحدة من أساليب الديمقراطية ، وهي من الحقوق المشروعة التي كفلتها الحياة الدستورية ، ويتضمنها أي دستور مدني يحدد العلاقة بين المجتمع والدولة .. ولقد خرج الناس ليعبروا عن آرائهم متظاهرين في قلب بغداد والمحافظات الأخرى ، وهم بحالة تحدي واضحة لكل من ترصدهم ، ووقف بوجههم ، أو اتهمهم بشتى الاتهامات .. ولكن كنت أتمنى أن يطالب العراقيون بالمعارضة السياسية تحت قبة البرلمان وفي الصحافة ، اتفاقا مع الحياة الديمقراطية التي يعمل بها في كل الدنيا .. فلا يمكن أن يكون الجميع في سلة واحدة من دون أي رقيب ولا أي حسيب .. كنت أتمنى أن يطالب العراقيون بمطالب كبرى يتنازل على أثرها زعماء العراق عن أبراجهم العاجية ، ويتنازلوا ايضا عن قناعاتهم التي جعلوا الناس تؤمن بها ، ومنها مفهوم المكونات الكبيرة والأقليات الصغيرة .. وهو مفهوم قصم ظهر العراقيين .. ومن اجل توحيد العراقيين على مبادئ وطنية بديلة لابد أن تعّبر الأحزاب العراقية كلها، وبلا استثناء عن روح وطنية عراقية قبل أية توجهات أخرى .. كنت أتمنى مخلصا أن ينادى بتقليص مئات ما يسمى بالأحزاب الى أربعة أو خمسة أحزاب كبرى لابد أن تحمل الصفة الوطنية والمدنية والحضارية بديلا عن جماعات متحزبة ، وفرق مسلحة ، وكتل ميليشياوية ، وعصابات خفية ، ومجموعات عشائرية .. الخ كنت أتمنى أن يصار إلى تقليص مجلس الوزراء وترشيق عدد الحقائب الوزارية كي تصبح قرابة 25 حقيبة وزارية بدلا عن مجلس وزراء مترهل ، ليس لأعضائه القدرة على يكونوا رجال مؤسسات أبدا .. بل كان هؤلاء وأمثالهم ، سببا في خراب المؤسسات التي جعلوها نهبا للطائفة ، أو مجمعا لعشيرة ، أو مثوى للمتكلسين والوصوليين !
قضايا العراقيين الكبرى : الاهم قبل المهم
إن الشعوب لا تنتفض إلا من اجل قضايا كبرى ، ولا اعتقد أن العراقيين قد تظاهروا من اجل مطالب هم يدركون جيدا أن الجياع لا تسكتهم بطاقة تموينية ، وان الكهرباء لا يمكن حضوره من خلال مصباح علاء الدين .. وان البطالة يمكن حلها في يوم وليلة ؟ إن العراقيين سواء تظاهروا أم لم يتظاهروا ، فهم يدركون إدراكا جيدا ، أن وزراء كهؤلاء الذين اصطفتهم الأحزاب وقدمتهم للتشكيل ، لا يمكنهم أبدا أن يحققوا ما ينتظره الشعب العراقي بمثل هذه السرعة .. إن الشعب العراقي يدرك تماما أن اغلب الذين اختارهم ليكونوا نوابا له في البرلمان ، ليمثلوه اصدق تمثيل ، إنما جاءوا إليه ، وهم يطمحون بكرسي الوزارة من دون أن يرى نفسه خادما للعراق والعراقيين .. إن الشعب العراقي يدرك بما لا يقبل مجالا للشك أن مطالبه المشروعة لا يمكن تحقيقها على أيدي أناس غير مؤهلين أصلا ، وان الضرورات تقضي بحصول إجراءات جوهرية في التغيير الذي يطال من خلال تشريعات قوية وصارمة كل الفساد المستشري في كل مرافق الحياة العراقية . إن الشعب العراقي يتعلم كل يوم يمضي عليه ، أشياء كثيرة ما كان يتخيلها عن قادة أحزاب ونواب ووزراء .. يتعاملون في ما بينهم بأسوأ أنواع الكلام .. بل وسمعت قبل يومين أحدهم وهو يردح ويشتم ، فيرد الآخر عليه بأسوأ التعابير ! إن العراقيين يدركون أنهم سيبقون لوحدهم في الميدان وهم يعرضّون أنفسهم للابتزاز والاهانة ، وخصوصا إن كانوا من المثقفين ! العراقيون الأحرار يدركون إدراكا حقيقيا ، ان المقابل يترصدهم بهروات الشرطة ، او بالأسلاك الشائكة ، او بالجدران العازلة .. ومهما فعل ، فهو يخشى من الشعب الذي ينبغي مساعدته كي يعرف حقوقه وواجباته .. ويدرك بوعيه السياسي ما يحدث من أخطاء وما يثوى من مفاسد على أيدي أناس غير مؤهلين لا للسياسة ولا للإدارة ولا للنيابة ولا للوزارة ولا للعلاقات العامة !
المعايير المدنية اولا
إن المعايير التي اجتاحت العراقيين وجعلتهم يتوهمون أنهم يمضون في طريقهم إلى المستقبل قد أودت بهم إلى المهالك ، عندما تتحول المؤسسات والأجهزة في الدولة إلى مجموعة شعائر تحكمها ، أو سلسلة مفاسد تسيطر عليها .. فهل نحن من الغباء بمكان بحيث نخرج إلى الشوارع نستنكر الفساد العام ، وكأنه مرض طارئ علاجه يجري على نحو مضحك لكي تمنح كل وزارة أو مؤسسة مجرد مائة يوم لإصلاح وضعها وانتشال الفساد منها ؟ فهل يصلح العطار ما أفسده الدهر .. ان لم يبق هناك استئصال حقيقي لمصادر الفساد واجتثاث للمفسدين في الأرض العراقية كلها ، فلا مائة يوم ولا ألف يوم ولا كل الأيام بكافية للقضاء على الفساد ؟ إن العلاج لا يمكن أن يكون ساذجا ومضحكا لظواهر بليدة قصمت ظهر العراق منذ عشرات السنين ! ان التغيير ينبغي ان يكون جوهريا بوجود وزراء وقادة اكفاء باستطاعتهم اداره دفة التغيير ! ان البقاء والتهويش على هوامش الاشياء باسم التظاهر مرة وباسم التعارض مرة أخرى .. سوف لا يحّل مشكلات مستعصية ومزمنة او حديثة وطارئة على المجتمع وعلى ايدي أناس فاسدين .. إن المفاسد في الدولة لا تحل بجرة قلم كما يتخيل ذلك البسطاء .. إنها بحاجة إلى قرارات وتشريعات ومرافعات ومحاكمات .. ولعل من اسوأ ما يمارس اليوم اعلاميا سواء على شاشات الفضائيات ام عند كتاب الصحف .. فالتظاهرات تتهم باسوأ صفة قبل حدوثها ، وكأن هؤلاء المتظاهرون غير وطنيين ان عارضوا او انتقدوا او تحدّوا السلطات .. إن الإعلام العراقي بدا وكأنه اما صنيعة بايدي السلطات ، أو كأنه وسيلة لتصفية الحسابات .. لقد شاهدت مذيعة بلهاء تناشد المتظاهرين ان يكونوا طيور سلام بحيث لا يخدشوا الحياء ولا يتطاولوا على مقام فلتان وعلان !!
نحن بحاجة الى انسان عراقي جديد
نعم نحن بأمس الحاجة الى ضمير عراقي حي يراقب نفسه قبل الآخرين .. نحن بحاجة الى إنسان يرى في أي عراقي آخر لحمته وسداه .. نحن بحاجة إلى إنسان يحمل كرامته قبل أي اعتبار .. نحن بحاجة الى إنسان لا يقبل ابدا أن يهان او يهون من قبل بني جلدته .. نحن بحاجة الى إنسان صفي السريرة ، ثابت الرأي ، قوي الإرادة ، صادق القول بعيدا عن التلون والتبهرج والمسكنة .. نحن بحاجة إلى إنسان منفتح وواع ويحمل ثقافة من نوع ما يمكنه أن يدافع من خلالها عن نفسه .. نحن بحاجة إلى إنسان عملي وواقعي لا يؤمن بالتفاهات والأوهام والأساطير والشعارات الكاذبة .. نحن بحاجة إلى إنسان يقدّم مصلحة البلاد على مصالحه الشخصية .. نحن بحاجة الى انسان يحترم من هو أعلى منه معرفة ورتبة وتاريخا وإبداعا .. نحن بحاجة إلى إنسان متمدن يتابع شؤون العصر أكثر مما تغمره التقاليد البالية .. نحن بحاجة الى إنسان له وعيه وإدراكه المتبادل مع الآخرين من الخلائق .. نحن بحاجة الى إنسان له نظافة يده ونزاهته .. نحن بحاجة الى انسان يعشق العراق قولا وفعلا ، ويشعر بالعار والشنار من فضائح ترتكب باسم العراقيين .. نحن بحاجة الى انسان مؤمن بالتجديد والاجتهاد ومنطق التغيير .. فلا يمكن ان يبقى الانسان بدائيا ، او قبليا ، او رعويا ، او يكون حضوره جسديا مع هذا العصر وفكره وتفكيره وذهنيته راسخة مع العصور الوسطى ! نحن بحاجة الى إنسان جرئ وصادق في قول كلمة الحق حتى على نفسه ويعترف بخطئه ..
واخيرا : ماذا اقول ؟
إن العراق لا يمكنه ان يغسل كل الأدران المتعلقة به ان لم يبدأ أبناؤه الجدد ببدء حياة سياسية جديدة ضمن الأطر الديمقراطية .. ولا يمكن صنع اية قرارات مصيرية تخص أمن العراق والعراقيين ، إن لم تكن صادرة عن خبراء ومستشارين بمختلف شؤون العراق .. إن العراقيين لابد أن يواصلوا تظاهراتهم وتوضيح قضاياهم الكبيرة والمطالبة بحلول جذرية لها .. كي تتحلحل القضايا الصغرى . إن العراقيين سوف لن يشعروا بطعم الحرية ، إلا بعد أن يجدوا العراق حرا مستنيرا يمشى على الطريق السليم .
نشرت في الصباح البغدادية ( عمود : مكاشفات عراقية ) ، 10 آذار / مارس 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …