الحكمة أم الغضب
لا يمكن لأحد أن ينكر أبدًا حدوث ثورة في مصر، ولكن لم يكن لأحد أن يتصوّر حدوثها بمثل هذا الشكل! لقد انطلقت سريعة وخاطفة، تترجم أفكار شباب كانوا يتبادلون الرأي بوسائل حديثة ومعاصرة، وهي «أفكار» تطالب بالإصلاح والتغيير، وكانوا أن اختاروا يوم 52 يناير منطلقًا لبدء حركتهم.. وهم جزء من كتل ملايين من الشباب في هذا العالم المعاصر الذين يعانون جميعا من أزمات الحياة وإخفاقات شظف العيش، وهم يحملون نهجًا جديدًا وأفكارًا متقدمة، ولكنهم جميعا ليست لديهم التجربة ولا يميزون بين المفاهيم الراسخة، إنهم يمثلون نتاج مجتمعات كانت كلها أولي بالإصلاح منذ زمن طويل حتى يدرك المرء الفروق بين ماهية نظام الحكم ومؤسسات الدولة.. بين الشرعية الدستورية والمطالب الثورية.. بين أخطاء يرتكبها مسئولون وبين مصالح يركض إليها معارضون.. إن الثورة المصرية التي انطلقت يوم 25 يناير، لم تستمر إلا 48 ساعة ضمن مطالب أذاعها الشباب، حتى بدأت قوي سياسية وقوي معارضة وتجنيد وسائل إعلام وتدخل سافر لدول معينة إليها.. لقد بدأت تظاهرات سلمية تعتصم في قلب ميدان التحرير بالقاهرة في يوم الاثنين 25 يناير واستمرت 48 ساعة، وكم كنت أتمني ألا تقابل من قبل قوات الأمن المركزي بالقوة المسلحة، وما ارتكب من أخطاء قرارات وزير الداخلية السابق، حتي بدأت تأخذ لها منحي جديدًا نهاية يوم الأربعاء 27 بالدعوة إلي يوم الغضب للجمعة 29 يناير.. لتختلف الشعارات، وتبدأ أعمال العنف المنظم ويطغي الموج باشتراك قوي المعارضة بعد أن كانت ساكتة تراقب الموقف.. لقد حاولت قوي المعارضة اختطاف ثورة الشباب أولاً، ومن قبل تدخلات دولية وإقليمية سافرة عبر وسائل إعلام جنّدت نفسها من الخارج ثانيًا.. وغدت الشعارات تتغير وتتبدل حسب أمزجة لا حصر لها.. بل إن سقف المطالب أخذ يتبدل ويتغير حسب أهواء ما تقوله هذه الفضائية أو تلك! ولعل أسوأ ما يكره في السياسة والإعلام والثقافة: استخدام اللغة السوقية من سباب وشتائم ومنكرات تقوم وسائل الإعلام المضادة بترويجها.
بين ثورتين تاريخيتين: انقلابية عسكرية وشبابية شعبية
ثورة 25 يناير قلبت مصر رأسًا علي عقب، فهي لم تقلب نظامًا ولم تغير رئيسا، ولم تؤسس حتى اليوم أي بدائل حقيقية يمكن أن يشهدها العالم، ولكنها غيرت الأفكار والقناعات وإستراتيجية الأوضاع سعيا وراء واقع جديد.. صحيح أنها ثورة هادرة وليست مجرد انقلاب عسكري، فمشروعيتها شعبية، ولكنها لم تقدم حتى الآن أي منهاج عمل لها، ولا نعرف من يمثلها في الواجهة.. وهل السلطة مجردة من دستور وشرعية حتى تسقط بسرعة؟ ما دام الثوار لا يميزون بين النظام ورأسه، ولا يفرقون بين مؤسسات دولة مدنية لخدمة الناس يقومون بغلقها، وبين مؤسسة عسكرية يحتضنونها في الشوارع! إنهم لا يعرفون أن ضباط يوليو الأحرار عام 1952 لم يقلبوا النظام مباشرة من ملكي إلي جمهوري إلا بعد خطوات وإجراءات اتخذوها من أجل التحولات بعد إحضار البديل.. وقبل أن يغادر الملك فاروق مصر علي المحروسة تقدم إليه اللواء محمد نجيب لأداء التحية، وعندما ودع بواحد وعشرين اطلاقة مدفع، قال فاروق إن الجيش ملك مصر وليس ملكي! وعليه فالانقلاب يوم ذاك أتي ثماره تاريخيا وأسس لنظام جديد.. ولكن ثورة اليوم قلبت الموازين من دون أي بديل حتى الآن يحفظ لمصر الشرعية والكرامة.
ثورة البحث عن خيارات أفضل
لقد قلت منذ انطلاق الأحداث في مصر، إن الثورة لو استمرت ستجهض نفسها، ولكنها ستمنح دروسًا للآخرين في كيفية إدارة الأزمة أولا، وتمنح الفرصة للتدخلات الخارجية كي تعبث بمصير البلاد والعباد ثانيا.. وتعرض نفسها للاختطاف من قبل قوي سياسية واجتماعية تنتظر الفرص السانحة للانقضاض، كي تأتي إلي السلطة علي أكتاف ونضالات وأتعاب غيرها ثالثا، لقد اعترف المصريون جميعا بأن ثورة الشباب في مصر والتي افتتحت عام 2011 قد تفوقت علي كل ثورات مصر في القرن العشرين ليس في أسبابها، بل في نتائجها، بل تفوقت علي ثورة 23 يوليو 1952 التي قادها مجموعة من الضباط الذين أسموا أنفسهم بـ«الأحرار»، مؤسسين نظامًا سياسيًا عسكريًا عاش قرابة ستين عامًا.. وها هي مصر اليوم تبحث لها عن خيارات تاريخية جديدة في ظل التغيير الذي كان لابد أن يكون مدنيا، ومثلما قدّم الشباب مطالبهم باسم المجتمع إلي الدولة، فإن الدولة بكل مؤسساتها «والعسكرية في مقدمتها» تطالبهم ببرنامج عمل ومنهاج تغيير، إذ إن الشعارات لا تكفي أبدًا، خصوصًا أن ثورة الشباب قد جمعت كل ألوان الطيف المصري الذي يبتغي الإصلاح في ظل الشرعية والدستورية.. فضلاً عن أن ثورتهم لا يمكنها أن تكون بعد أن حققت ما أرادته ونادت به مختطفة من قبل الأحزاب السياسية المعارضة وانتهازيتها، سعيا وراء السلطة والمصالح وتنفيذ أجندات الآخرين.. وعليه، فالمطلوب من الثوار الحقيقيين أن يكونوا عونا وسندًا لمصر وأهلها وتراثها وثقافتها.. وحماة لمؤسساتها ومستقبل أولادها.
دروس الثورة: مصر علي أعتاب تاريخ جديد
لقد أوضحت يوميات الثورة المصرية قوة الروح وعظمة الإرادة لكل من الدولة والمجتمع.. وأن كلا منهما يشارك الآخر في حمايته من قبل الجيش.. وعليه، فإن الجيش لم يقف ضد أهله أبدًا، وهو بنفس الوقت لم يخن النظام السياسي الذي استند إليه منذ العام .1952 وهذه «مفارقة» أساسية مقارنة بتجارب عسكرية أخري في العالم.. فضلاً عن أن الجيش المصري نزل إلي الشوارع ليحمي كلاً من الدولة والمجتمع معا، إن الثورة المصرية قد وضعت مصر علي أعتاب مرحلة تاريخية جديدة يجري فيها التداول الحقيقي والسلمي للسلطة جراء الحياة الديمقراطية والحرة التي تمتع بها المصريون مقارنة بغيرهم من شعوب الشرق الأوسط.. ولكن استغلت استغلالاً بائسًا بحدوث أعمال شغب، وأحداث عنف، وردود فعل صارخة.. وزرع فتن، وهياج أنفس.. وشعارات شخصية، وبذاءات سياسية، وشتائم وسباب.. إلخ كلها أسباب قد تؤدي إلي الانحرافات عن الطريق السلمي، بل تمنح المجال للآخرين كي يتدخلوا في الشئون الداخلية، ويزيفوا الحقائق.. لقد وصلت قوة التحريض الخارجي ليس علي تداول لسلطة والأمر بالمعروف، بل علي أعمال العنف والشغب والتدمير.. فضلاً عن أن الإعلام الداخلي قد ثبت أنه لم يكن قادرًا علي مواجهة الإعلام الخارجي الموجّه، علما بأن له تجارب واسعة وقديمة في أساليب المواجهات الإعلامية والسياسية المريرة، أما الجانب الأمني، فكانت وزارة الداخلية قد أخطأت بتنفيذ أوامر وزير الداخلية السابق.. وسقوط ضحايا أبرياء!
الرهانات الجديدة
ما المطلوب عمله في ظل المتغيرات التاريخية الجديدة، خصوصًا أن العالم كله لم يزل ينتظر النتائج التي ستتمخض عنها الأحداث؟
أنني أعتقد أن الثورة لابد أن تستند إلي الشرعية دون الاستماع إلي من يريد الفوضي وزرع الخراب وتدمير مصر، مادامت الثورة بلا برنامج أو منهاج عمل، وأن يتحكم العقل والحكمة علي فوران العواطف والغلو والتطرف.. فالثورة عدّت هزة عنيفة للجميع، استفاق علي دق أجراسها الجميع.. وقد عرف الشعب المصري حجم الأحزاب المعارضة وتأثيرها إزاء تأثير قوة الشارع التي أذهلت الجميع، فضلاً عن الترقّب الذي أظهرته الأحزاب، ليركب بعضها الموجة ويحاول تغيير مسارات الأحداث لصالح هذا الطرف أو ذاك.. هنا مطلوب من كل الأحزاب مراجعة نفسها بتجديد أنظمتها الداخلية التي غدت مستهلكة تمامًا، وإذا كان الحزب الوطني الحاكم يحاول تجديد نفسه، ويتنازل عن هيمنته، فإن كل الأحزاب مطالبة بتجديد نفسها، وألا يري أي حزب نفسه أفضل من الآخر، أو أنه أكثر قداسة من الآخر.. خصوصًا حزب الإخوان المسلمين، إذ لا يمكن لمصر أن تتحول من دولة مدنية ومجتمع يحاول كسب حقوقه من خلال الديمقراطية إلي دولة دينية ستنقل مصر إلي عصر الظلمات، كما جري في العراق وغيره.. إن مصر لابد أن تخرج من هذا النفق قوية متعافية بعيدًا عن تدخلات الآخرين من وراء الحدود سياسيًا وإعلاميًا.. وما يبثونه من تلفيقات وأكاذيب وتحريضات.. إن متغيرات مصر غدت «تحصيل حاصل»، وهي ثرية جدًا بوحدتها الاجتماعية ونزعة أبنائها الوطنية.. ولكن المجتمع بحاجة إلي العدالة الاجتماعية، إذ لا يمكن أن تبقي الطبقة الطفيلية من أصحاب رؤوس الأموال تسيطر علي قوة الثروة ومزاوجتها بالسلطة معا.. إن العدالة الاجتماعية هي طريق الرفاه لكل أبناء المجتمع، إذ تعاني الأغلبية من هول الأزمات وحجم البطالة والفقر والسكن والمواصلات وأن يعالج الانفجار السكاني كما هو الحال في دول أخري معالجة واقعية.
وأخيرًا: لا تجعلوا الآخرين يرقصون علي جراحات مصر
وأخيرًا، لن يشهد التاريخ ثورة كالتي تشهدها مصر، شارك فيها كل الناس رجالاً ونساء، شيوخا وشبانا.. والرائع فيها أن المصريين مزجوا خفة الدم بغضبة الأعصاب، وكالعادة عندما يختلط الجد بالهزل ولعل أروع صورة شاهدتها علي إحدى الفضائيات: قطة بيضاء وسوداء، وقد علق في رقبتها كارتونة تعبر عن رفضها بالطريقة التي أرادها صاحبها أن تكون!.. كنت أتمني أن تبقي هذه الثورة الجامحة سلمية لا تكتنفها الأحقاد، ولا تستمع إلي تحريضات خصوم مصر الذين رقصوا علي جراحاتها.. وأن تستوعب الآخرين بالشفافية ومن دون أي قتل أو ضرب أو تعسف أو تخريب أو حرق أو تدمير.. فكان أن وقف المجتمع من خلال لجان أهلية يحمي مؤسسات بلده.. إن التاريخ سيسجل بأحرف عريضة صفحة تاريخية لمصر وأهلها، وهم يزحفون لصنع تاريخ جديد بعد أن دالت دولة ثورة 23 يوليو.. وسيكون 25 يناير بديلاً ورمزًا وطنيًا.. أتمني أن تبقي الإرادة قوية، والشفافية سائدة.. وأن تبقي الديمقراطية المصرية مثلاً يحتذي به علي الأرض.. وأن تنفتح كل السبل أمام مصر من أجل بداية جديدة تنطلق من خلالها لمرحلة تاريخية أخرى.
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4314 – السبت الموافق – 12 فبراير 2011
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …