كم كنت أتمنى على الكتّاب العرب ألا يسارعوا بإطلاق الأحكام على ما يجري من أحداث في مصر العربية.. وكم كنت أتمنى على الفضائيات العربية أن تكون أكثر هدوءًا ورزانة، وخصوصا تلك التي تلاحق الأحداث الحية وتطوراتها.. وكم كنت أتمنى على عشرات الصحف أن تكون أكثر تحرّياً للحقائق، وألا يسرق هذا من ذاك.. وكم كنت أتمنى أن يكون الإعلام العربي مستقلاً وشفافاً، وألا يكون مجرد أداة تحريضية على الفوضى.. وكم كنت أتمنى على بعض المحطات التلفزيونية أن تعرف كيف تختار ضيوفها ليل نهار، فقد وجدنا أناساً لم نسمع بأسمائهم من قبل، كي تطلق عليهم صفة «خبير استراتيجي»!
وكم تمنيت أن يبقى الإعلام العربي نفسه واسطة لنقل الأحداث وما يجري على الأرض، من دون إلقاء تهم، أو عرض إساءات، أو التشجيع على أعمال النهب والسلب والحرق.. كم تمنيت على نخب من الكتّاب والسياسيين العرب، أن يقللوا كثيرا من استخدام البذاءات والتجريح والتهريج والسب والقذف، والكفّ عن استخدام لغة أولاد الشوارع!
كم كنت أتمنى أن يكون الإنسان أكثر عقلانية وهدوءًا، سواء في إدارة الأزمة، أم في معالجة موضوعات ساخنة تجري على الأرض! كم كنت أتمنى ألا تصبح وسائل الإعلام الحديثة، مجالاً رحباً لأناس يعتبرون أنفسهم أبطالا في كشف المستور، وما كانوا كذلك قبل يوم واحد من اندلاع شرارة الأحداث، حتى غدوا اليوم يصنفّون أنفسهم بـ «صنّاع التاريخ».. ما كنت أعرف كم هو حجم المنافقين كبيرا في مجتمعاتنا العربية، فهم يميلون بأهوائهم حيثما مالت مصالحهم الشخصية.. وهم مع الأقوى دوما!
إن التغيير الذي طالب به كل العقلاء منذ سنوات، ووقف ضده المتحجرون والمنافقون والمتخلفون.. هو غير الثورة الشعبية التي فوجئ بها الجميع.. لم يكن أحد ينادي بالثورة، بل كان هناك من ينادي بالإصلاح، وهناك من كان ينادي بقلب نظام الحكم! وكل الملايين اليوم تنادي بالمطلب الثاني، من دون أن يذكرنا أحد بالإصلاح والتغيير..
نسأل هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم خبراء استراتيجيين على الفضائيات التي تحمل أجندات أو إيديولوجيات معينة: هل قدموا برنامجا واحدا يمكن أن يكون بديلا لمن يرحل؟ وهل قدموا معالجات لما يمكن أن يؤسس عليه بعد زوال أو رحيل من يدعون لرحيله؟ لماذا عمدوا ويعمدون دوما إلى خلط الأوراق، فلا نعرف ماذا يريدون؟ إذا كان أي شعب من الشعوب يثور سلميا، فلماذا تتم التعبئة الإعلامية من أجل أن تغدو الصفحة دموية، والآليات فوضوية، والعمليات وحشية؟ بل والتأسيس على نشر الرعب والترويج له! لماذا اندفع الكثيرون عبر وسائل الإعلام كي يتحدثوا ويثرثروا، فلا هم منظّرون أو فلاسفة أو حكماء.. ولا هم خطباء وطنيون، أو ساسة عقلانيون.. إنهم يهذرون ويخلطون، وإن انتهوا لم نجد من يستمع إليهم إلا وهو ضائع مع الضائعين! أتأمل هذيان هذا «الخبير الاستراتيجي» أو مخادعات ذاك «المحلل السياسي»، فلا أجد شيئاً يمكن أن يقدّم معنى ومشورة أو معرفة ومعالجة..
ليس المهم أن يتكلم أمثال هؤلاء باسم أية حركة جماهيرية أو ثورة شعبية.. كيلا يخدعوا الناس، كونهم من الناطقين باسمها.. وليس المهم أن يقطف بعض القياديين في المعارضة ثمار المناضلين الحقيقيين على الأرض! ولا أن يركب الموجة أي تيار سياسي أو فكري ليكون واجهة مخربة لمن بيده مقاليد البلاد، ولمن خرج معارضا إلى الشارع! ليس المهم خلط الشعارات المعلنة كي لا تفقد مصداقية الحركة أمام الناس.. وليس المهم أن تجد نفسك وسط أناس لا يعرفون إلا التدمير وصنع الخراب.. المهم أساسا أن تمتلك الوعي وتطالب بتغيير الدساتير المهترئة، وتقف ضد الانتخابات المزوّرة..
إن من الخطيئة أن تضيع أعراف المواطنة من أجل شهوة السلطة أو تبديل السلطة! من الجرم أن تؤذي مؤسسات بلدك وأنت تريد استئصال الطفيليين المارقين من أصحاب الملايين! من الغباء أن تصنع الفوضى في لحظات زمنية معينة، لتهدم بناء طال عمره أكثر من نصف قرن! من الشناعة أن تستورد الرأي، وتعمل بمشورة منظمات وسلطات وحكومات تقع خارج حدود بلادك! ومن المعيب جدا أن تتدخل دول معينة في شؤون دولة أخرى وقت الأزمات لخلق فتنة، أو إثارة عاصفة، أو سحق نظام.. وقد رأينا كم هي التدخلات الخارجية سافرة، ليس من أجل تغيير نظام حكم، بل لتصدير عوامل النكبة المباشرة بترويج مبادئ هدامة معينة!
إن الثورة من أجل التغيير، وهي ليست مجرد حركة لتبديل نظام حكم وقطف رؤوس.. بل إنها ظاهرة تحمل برنامج تغيير حقيقي في التفكير والبناء، تقف من ورائها حركة فكرية وطنية مستنيرة..
إن الانتصار لا يسجل بسفح دماء، أو نهب أموال، أو حرق مؤسسات.. بل بتسجيل جملة راسخة من المعاني التاريخية التي تستمر لحقبة معينة من السنين! إن الانتصار لا يعني شيئا يذكر إن بقيت العلاقات نفسها، والمصالح ذاتها، والتخلف يجترّ صفحاته.. إن الخشية أيضا، أن تأكل الثورة أبناءها.. وأن تضيع وتختطف من قبل فئات محددة أو قوى معينة، كانت ولم تزل تنتظر اللحظة المناسبة لتقفز وتقبض على ما تريده من ثمار تاريخية، ناضل من أجلها شعب بأسره!
نشرت في البيان الاماراتية ، 9 فبراير 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …