هل من تغيير المطلقات الى التفكير النسبي ؟
من أسوأ العادات التي ابتليت بها مجتمعاتنا العربية، وبطبيعة الحال ما عكسته تصرفات الناس في كل منها، منها عدم تقبل كل الآراء عندما تطرح، بل وممارستها، أي المجتمعات، القمع في كل جزئيات الحياة وكل ما يعين ذلك التسلط من وسائل وأدوات سواء كانت مادية أم معنوية، ومما يزيد في الطين بلة، ما يطغى على حياتنا في عالمينا العربي والإسلامي من ضيق في الأفق، ومحدودية في الرؤية، وضعف في الإمكانات، وهشاشة في التعامل، والتراخي في الأعمال الجمعية، وبلادة الساسة والمتحزبين، وانشغال الزعماء والمسئولين وحتى سذاجة بعض المثقفين في المجتمع.. ناهيكم عن المساهمات القميئة نتيجة الجهل في المعلومات! وطغيان المفبركات والأكاذيب، وطغيان المصالح الشخصية النفعية على أغلب المواقف والخطابات من أجل تغييب الحقائق! وهناك: هياج العواطف بعيداَ عن وازع العقلانية والتفكير! وشراسة الأيديولوجيات والمعتقدات والشعارات على فرص التعايش السياسي والديني والاجتماعي والثقافي المعاصرة، وانتشار الآراء والأحكام السريعة التي تحكمها المطلقات من دون تحديد للمشكلات ومعالجات هادئة للجزئيات! إننا نراقب ما الذي يسود في مجتمعاتنا من فقدان للثقة بين مجتمعاتنا وحكوماتها.. للأسباب كلها أعلاه!
إن ما وصلت إليه حياتنا اليوم هي مدعاة للتفكير والمعالجة، بعيداً عن شعارات لا أساس لها في الواقع! إن مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى تبديل مطلقاتها إلى تفكير نسبى للأشياء، والخروج من عالم الأوهام الذي يعتبرونه حقائق قائمة بذاتها، وإذا بدأ الإنسان يفكر قليلاً ضمن آليات الشك كالتي قال بها ديكارت ونسبية القياس من خلال التجربة والبرهان لما تكونت في ذهنه تراكيب راسخة، فربما يغير ذلك من قناعاته ومطلقاته لكل الأمور.. ويبدأ يتنازل رويدا عن أبراجه العاجية التي ستحطمه في يوم ما! حتى يجعل كل الأطراف تتحرك فيما يسمى بشفافية التفكير، من أجل كسب شفافية سياسية تستند أساساً على تغيير الذهنية ومرونة الأشياء والإيمان بنسبية الحياة.
مجتمعاتنا لا تتعلم من الصدمات شيئاً!
إن صدمات تاريخية قوية جدا لم تؤثر أبدا، كما يبدو في شرائح مجتمعات عربية متنوعة حتى إن غدا بعضها جاليات في عالم الغرب الذي يحفل بمكونات وتشيؤات وموروثات ومكتشفات.. إلا أنها جميعها لم تؤثر أبداً في الذهنيات الصلدة التي لم تتقبل أبدا حتى هوامش الأمور فكيف تتقبل أنصاف الحلول؟ وكيف تقبل أن تتعايش مع المستحدثات الجديدة ومع الآخر برغم استخدامها الأعمى لكل وسائله وآلياته وتكنولوجياته وإبداعاته وإعلامياته..؟
لقد انتهت مراحل زمنية متنوعة لم تعرف فيها أبدا قيم المرونة والوسطية والاعتدال بسبب ما فرض علينا من شعارات دموية، وخطابات مخيفة، وإعلاميات صارخة وضمن أساليب سموها بالثورية والعنف الثوري وصولا إلى التكفير الجمعي، وطغيان الهمجيات القاسية للمؤدلجات العقيمة التي ترسبت في مذاهب سياسية وتحزبات شوفينية متشبعة بأغرب الأصوليات الشرسة من دون أي وازع للتسامح وبلا مقابلة الرأي بالرأي، ولا الحجة بالحجة كما فعل الآباء الأولون.. لقد ساهمت في صناعة ذلك كله: الأجهزة التربوية والتعليمية والإعلامية، إذ تتحمل مجتمعاتنا نفسها القسط الأوفر من نتاج تلك الصناعة التي أفرزت ظواهر مخيفة لا يمكنها أن تجعلنا نمضى لا في صراعنا المصيري ضد إخطبوط التخلف والبدائية، ولا في بناء مستقبلنا الحضاري من أجل أن نتعامل مع العالم بنفس الصيغ الذكية العلمية والسايكولوجية والإعلامية والفكرية التي يتعامل بها معنا! إن شراسة ما هو متأصل من تقاليد مقيتة، وأعراف صلدة، وقيم بالية في مجتمعاتنا، تجعل كل الأجيال لا تتأثر أبداً بالصدمات الصعبة والمريرة التي يمكنهم من خلالها تقويم إعوجاجهم والسير قدما في طريق المستقبل.
حقوق الإنسان: أين هى؟
السؤال: هل باستطاعة مجتمعاتنا أن تتمتع بحقوقها كاملة والتي تضمنتها القوانين وتكفلتها الدساتير بعيدا عن أية ممارسات كاذبة باسم الدين مرة وباسم الديمقراطية مرات..؟ وكلها تمثل حالات محتقنة واتجاهات عقيمة لا تؤمن هي الأخرى لا بالحريات ولا بالرأي الآخر ولا بالديمقراطية.. وهنا أحب القول، أن كل المنظمات والهيئات والأحزاب والجماعات، وهي تنادى بمثل هذه الأفكار التي تعتبر وليدة نتاج تاريخ أوروبا السياسي والفكري الحديث ، لا يمكنها أبدا اعتبار مرجعياتها عربية أو إسلامية، وإلا تكون قد سجلت نوعا غريبا من الهراء الذي لا يمكن أن يتقبله العالم اليوم أبداً.
عندما نفكر في حقوق الإنسان والديمقراطية في عالمنا الذي يقدمه أبناؤه اليوم لقمة سائغة للآخرين.. علينا أن ندرك بأن الحقوق السياسية تأتى في نهاية السلم، إذ تسبقها حقوق متنوعة في التربية، والتفكير، والمجتمع، والعمل، وتكافؤ الفرص، والعائلة، والمرأة، والمواريث، والدراسة، وصنع الإرادة، والتعبد والدين، وإحقاق الحق، والتملك، وتوزيع الواجبات، وصنع القرار.. إلخ إننا نقفز قفزات عالية تحت ذرائع ومسميات عريضة للدفاع مثلا عن سجناء الرأي السياسي من دون أن نعمل على تحرير سجناء أحرار المجتمع المقموعين ظلما وعدوانا وراء أبوابهم المقفلة وذهنياتهم المركبة، ذلك أن البعض منا قد لا يهاب ما تصدره الدولة من قرارات، ولكنه يخشى ما يفعل به المجتمع إن حاول الخروج عن تقاليده العمياء وأساليب رجال التابو البليدة.
مجتمعات شتى كان عليها أن تتقدم جدا بمشروعاتها، وإبداعات أبنائها، لتوظف مؤسساتها المدنية والأهلية في الإنتاج كي تؤثر في العالم كله.. ولكنها للأسف بقيت أسيرة منظوماتها الفكرية، وسجينة تقاليدها، وقد كبلها المتخلفون والمهرجون والأغبياء والمتكلسون والمتحذلقون والشعاراتيون.. بالأغلال الحديدية تحت حجج واهية وتسويق أوهامها المميتة التي لا تعترف مطلقا بحرية الإنسان وتفكيره وسماحة دينه وسمو عقائده.. ويا ويل من يخرج عن تلك الأطواق والأقفاص الحديدية حتى لمجرد تعبير عن رأى جديد، أو بيت شعر، أو فكر جديد..!! حقوق الإنسان ضائعة في مجتمعاتنا العربية كلها! فالإنسان لم يتمتع بحقوقه المادية ولا المعنوية.. وكم زهقت أرواح بشر من دون مبرر، وأعدم وقتل واغتيل وفقدت الألوف المؤلفة بلا حق! وكم ضاع من الأطفال، وانحرف من النساء، وكم تراكمت من سيئات في حياتنا على امتداد القرن العشرين؟؟
وأخيراً: انتظروا ماذا سيحدث؟
لقد نشرت مطلع عام 2002 النص التالى: ” أقول بكل جرأة أن واقعنا المتهرئ والذي لا يريد البعض أو الكل الاعتراف باهتراءاته سيغدو لا محالة على المشرحة الأمريكية، إذ ستجد أمريكا نفسها باسم النظام العالمي الجديد أن الشراكة ملزمة بهندسته على مزاجها! نعم، هندسته ليس سياسيا كما يصرخ البعض، بل الأخطر من ذلك هندسته اجتماعيا وفكريا وتربويا وتعليميا وثقافيا وإعلاميا.. وأعتقد أن الكل سيرضخ بفوضى هذا القادم الجديد ويعمل بنصائحه ويقر ويصفق له.. فهل من معترض؟ إنني أشك في ذلك! ” .
إن آخر ما يمكنني قوله: إنني لا أدين الآخر بما يفعله فينا، بل لابد من إدانة أنفسنا عما جنيناه بحق أنفسنا على امتداد القرن العشرين.. لقد بدا واضحا جدا أن دولنا ومجتمعاتنا قاطبة كانت لا تفقه معنى تحولات التاريخ والزمن والحياة، فبدل أن تستوعب تلك التحولات وتعرف حجومها وأثقالها وقدراتها وتسرع الخطى في التفاعل معها برؤية واقعية ومستقبلية، فإنها تراجعت لتمشى متصادمة مع هذا وذاك، إذ إنها كانت ولما تزل تمشى وعيونها إلى الوراء فهي كانت، ولم تزل ماضوية التفكير باسم التراث مرة، وباسم المذهبية مرة، والسلفية مرة ، والطائفية مرة.. وباسم الماضي التليد مرات، وهى تتصور نفسها أكبر من حجمها كثيرا.. فهل ستغير الأجيال الجديدة من واقعها وتفكيرها وتراعى حقوقها وحرياتها وتصبح هي سيدة مستقبلها في القرن الواحد والعشرين؟ ربما نعم إن أخذت بالقطيعة، وربما لا إن بقيت تراوح في مكانها.. كي أصرخ قائلاً: ربما سنكون وربما لا نكون!
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4308 – السبت الموافق – 1 يناير 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …