كان للبريطانيين خدماتهم في تأسيس المتحف العراقي ببغداد ، عندما كان العراق واقعا تحت حكم الانتداب البريطاني قبل ثمانين سنة ، وبالذات جهود المس غروترود بل المستشارة في دار السفارة البريطانية والتي توفيت ببغداد ودفنت فيها .. كما كان لنخبة من العاملين خدماتهم وحرصهم على الآثار العراقية ، والتي تعد كنوزا ليس للعراقيين وحدهم ، بل لكل أبناء البشرية ، فالآثار العراقية هي موجودات ولقى خلفتها الحضارات الأولى التي نشأت في بلاد ما بين النهرين وما توالى على البلاد من حضارات عبر العصور الوسطى . والآثار ، هي أثمن ما يمتلكه العراق ، كونها تمثّل أمجاده وعظمته وخصب تاريخه كونه أقدم بلدان الدنيا إلى جانب مصر في منشأ تطور الإنسان في الوجود . لقد ساهم عشرات المنقبين والآثاريين والمؤرخين المختصين منذ أكثر من 150 سنة في استكشاف أسرار العالم الكلاسيكي الأول من خلال الآثار العراقية التي تضم كنوزا لا تقدّر بأي ثمن ، بل وبالرغم من وجود بعض تلك الكنوز في متاحف أوربية شهيرة منذ القرن التاسع عشر ، فان العراق يضم نفائس وموجودات دينية ، وعدة نصوص ، وصفائح ، ومخطوطات ، ومذهّبات ، ومخلفات مادية هي بقايا مختلف الأزمان والعصور .
لقد تعرضّت آثار العراق للسرقة منذ أكثر من ربع قرن ، بل وذاع صيت شخص قريب للسلطة على أيام العهد السابق ومعه عصابة ، كونها تختلس الآثار وتهربّها إلى خارج العراق ، ولم يتمّ التحقيق الجنائي معه ولا مع أفراد عصابته حتى الآن ! أما ما جرى عام 2003 عندما غزت القوات الأميركية بغداد وازالتها النظام السياسي السابق ، فلقد رافق تلك العملية ، كما يعرف الجميع ، حدوث أبشع جريمة تمثلتها كارثة تحطيم المتحف العراقي وأماكن حضارية ووطنية أخرى تكتنز بالمخطوطات والموجودات العراقية الثمينة وتحطيمها أو إحراقها أو سرقتها ، فهي جريمة بحق الانسانية ، لا يمكن أن يغفرها التاريخ مطلقا .. وان ما تمّ سرقته من آثار العراق ، والمقدر بـ 15 ألف قطعة نادرة ، قد تمّ بأسلوب مخطط له وذكي جدا في أداء جريمته ليس ضد نظام سياسي معيّن بالذات ، بل كان قد جرى ضد موروث شعب كامل ، كان ولم يزل يعتزّ بآثاره وكنوزه الحضارية كونها عنوان مجده وخلوده في هذا العالم . إننا كثيرا ما نسمع ونقرأ عن تهريب آثار عراقية والعملية مستمرة حتى اليوم ، ولكن يقودها أناس متنفذون في السلطة . لقد كان قد كشف عن آخر فضيحة ، كشفت عبر صحف عالمية ووسائل إعلام عراقية ، إذ أن 638 قطعة أثرية عراقية من مجوهرات وتماثيل ومقتنيات خاصة بأقدم حضارات العالم ، والتي تم نهبها من المتحف العراقي ببغداد عقب غزو العراق عام 2003 ، والتي تم تهريبها ، قد أعيدت مرة أخرى ، وهي جزء يسير مما فقد وضاع .. إذ استعيدت من قبل الجيش الأميركي الذي سلمها قبل عامين إلى مكتب رئيس الوزراء العراقي ، ولكنها فقدت من جديد ! وبقيت مختفية ، كما أشارت الاندبيندينت ، وهي معبأة بصناديق مختومة حتى بدأت التساؤلات عنها وعن مصيرها ، فكان أن خرج علينا بعض المسؤولين العراقيين ، ليقولوا بأنها كانت مهملة في مطبخ مكتب رئيس الوزراء بسبب إجراءات التسليم غير المناسبة مع لوازم أخرى .. ولقد تساءل العديد من العراقيين سواء كانوا من المختصين او الاعلاميين : هل يعقل أن تبقى صناديق مختومة في مكان يقيم فيه رئيس حكومة من دون أن يعرف ما الذي تحتويه تلك الصناديق ؟ ولماذا لم يعرف بأمرها إلا بعد عامين ، حتى تظهر فجأة ؟ بقي السؤال حائرا يبحث له عن عدة أجوبة ، ولكن نجح المسؤولون في التعتيم على القضية والمناورة حولها ، وكأن كل الذين تابعوا الأمر بأناس ساذجين ، لم يفقهوا من الأمر شيئا !
لقد أوضحت في بداية الأمر رسالة السفير العراقي في واشنطن إلى بغداد الحقيقة التي تمادى المسؤولون العراقيون في ردهم في الكشف عن ملابسات ما جرى ، بل ونفى مكتب رئيس الوزراء وقت ذاك تسلّم أي آثار ، ولكن رسالة شديدة اللهجة يقال أنها وجهت من الجنرال بتريوس قائد القوات الأميركية في العراق سابقا إلى المسؤولين العراقيين ، وكان قد اشرف بنفسه على نقل تلك القطع الآثارية ، وهدد برسالته بكشف المراسلات الخاصة بالقطع الأثرية والجهة التي استلمتها ، إذ أن الأميركيين يمتلكون شرائط فيديو عن تسلّم وتسليم ! فانبرى بعد 24 ساعة على تسلّم تلك ” الرسالة ” وزير السياحة والآثار العراقي ليبرر على شاشات التلفزيون عملية العثور على صناديق الآثار في مكتب رئيس الوزراء ، وكلنا يدرك هشاشة ذلك الوزير وجهله وتخلفه حتى دعي اليوم بأبي الضخامة ! والناس مندهشة ، تسأل : ما الذي كانت تفعله الصناديق هناك وبعد مرور سنتين على تسلمهّا ؟ وهل التراث الوطني العراقي يعامل بهذه الطريقة يا حكومة العراق السابقة ؟ ولماذا أهملت للتمويه والاختفاء ؟ وهل لم تفتح أصلا ؟ ولماذا لم يفتح أي تحقيق في ذلك حتى الآن ؟ لماذا لم تعالج مثل هذه القضية في مجلس النواب السابق ؟ لماذا جرى التعتيم الإعلامي عليها ؟ لماذا لم يجب مكتب رئيس الحكومة على كل الأسئلة المطروحة ؟ هل المسألة كما قال مدير هيئة الآثار والتراث في العراق تتعلق بسوء فهم بين حكومتي الولايات المتحدة والعراق ، ويكمل : إن من المفترض تسليمها إلى وزارة الخارجية أو المتاحف ! لكنني أقول : لكونها نادرة وثمينة ، فإنها سلمت إلى مكتب أعلى سلطة في البلاد ، فإذا بها تختفي في المطبخ لمدة عامين ؟ إلا تعتقد الحكومة العراقية السابقة أن تبريراتها واهية ، ولا تكشف حتى الآن عن نواياها وتجيب على سبب اختفاء آثار عراقية من قبلها ؟ إن الحكومة العراقية السابقة كانت منشغلة بالسلطة ، ولم تشغل نفسها بأمور البلاد ! إن القضية ليست بسيطة وساذجة ، بحيث تهمل من قبل الحكومة العراقية السابقة على غرار مهملاتها الأخرى ، بل مطالبة بإجراء التحقيق وكشف كل الملابسات للعالم . والسؤال الأهم : لماذا نفت الحكومة العراقية في بداية الأمر تسلمّها للآثار ، وهي ترد على رسالة سفيرها في واشنطن ؟ ولماذا عادت لتقدّم تبريرها المضحك وتعترف بتسلمها للآثار وهي تنصاع لتحذيرات الجنرال بتريوس ؟؟ أسئلة هل باستطاعة الحكومة العراقية الحالية أن تجيب عليها ومن خلال ما تقوله هيئة تحقيقية مستقلة ، لا من خلال مستشارين وناطقين رسميين ؟! إنني أطالب الحكومة العراقية الحالية بفتح تحقيق رسمي بكل تلك المسألة ، لمعرفة حيثياتها .. وأطالب مجلس النواب العراقي الجديد بالذات أن يتابع شؤون تلك القضية ، ويحال كل المسؤولين عن ذاك الحدث إلى العدالة . فهل سيجري شيئا حول الموضوع ، أم ستطوى صفحة أخرى من صفحات الفساد المتراكمة في العراق ؟
نشرت في الجديدة ، 2 يناير / كانون الثاني 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …