الرئيسية / افكار / أسئلة الثقافة وأجوبة الحضارة

أسئلة الثقافة وأجوبة الحضارة



اشكالية المعنى ونسق التاريخ
بادئ ذي بدء ، كتبت هذا ” الموضوع ” بناء على رغبة بعض الأصدقاء الذين يشهدون من وقت لآخر ، إن مجتمعاتنا لم تعد تمّيز بين مصطلحين نستخدمهما صباح مساء ، بل وان ظواهر ومفاهيم عامة باتت مستعصية في فهمها واستيعابها ، بل وبات حتى بعض المثقفين والمختصين لا يفرق بين معنى ( الثقافة ) وبين معنى ( الحضارة ) ، بالرغم من اتسّاع التعريفات العامة لكلا المصطلحين ، ولكن ثمة مشتركات بين الذين اعتنوا بهما على امتداد القرن العشرين .. دعوني أتوقف قليلا هنا ، كي ندرك بأن ثقافة الإنسان ( أي: أسلوب حياته ) قد سبقت تكوينه للحضارة البشرية ، والتي جمع فيها إبداعاته وفنونه ومنتجاته وتشيؤاته وأنظمة حياته ـ كما سجل وول ديورانت ذلك في مقدمة كتابه قصة الحضارة ـ .
منذ بدايات التاريخ البشري ، تبلورت احتياجات الإنسان الأساسية في الحياة وضروراته كالمأكل والملبس والمسكن والتكاثر .. الخ ، وان الحماية هي التي جعلته يتقدّم كل يوم في كيفية خلق أدوات تؤمّن شروط استمرار حياته ، ووجوده ، جيلا بعد جيل ، إذ كان لكل جيل في التاريخ سماته ومواصفاته ، وتداول كل جيل من الأجيال في كل ثلاثين سنة تمر عبر طول هذه الحياة . لقد كان الصراع الأول للإنسان مع الطبيعة ( التي لم يسيطر عليها حتى اليوم ) وبالتالي ، فان تطور الإنسان وتقدم الإنسانية في شتى صنوف الحياة ، ترك آثاراً قيمة وإبداعات عظيمة . إن كل جيل من الأجيال يأخذ ممن سبقه ، ويمنح للذي يليه ، وهذه سنّة الحياة التي اعتاد الإنسان على تداولها .. بل شكّلت منوالا في التاريخ ، كما وصفها شتراوس .
من الواضح أن الإنسانية خلال تطورها ، قد مرت بعدة مراحل تاريخية لها منظوماتها وأنساقها التي لا يشعر بها الا من يسيطر على فهم التاريخ البشري ، وكانت قد أفرزت عدة منظومات فكرية وعقائدية وقيمية ، مادية ورمزية مع تقاليد وعادات ثقافية تتباين من مكان إلى آخر ، ومن مجتمع إلى آخر .. أغنت مع توالي التقدم فلسفة الإنسان للحياة ، كما طوّرت وعيه المعرفي بالإضافة إلى تراكم الخبرات لديه .. وهذا ما يلحظه الإنسان الحديث مقارنة بما لم يلحظه الإنسان في الماضي ، علما بأن ثمة مجتمعات كاملة تعيش حاضرها ، ولكن أحاسيسها ومشاعرها وعواطفها .. بل وحتى عقلها يتساكن كله في الماضي .. وبالرغم من كل الرواسب التي يحملها الإنسان اليوم في أية بيئة يعيش فيها ، إلا أن التفاوت كبير جدا في حمل الرواسب القديمة مقارنة بما يحمله من ثقافات متنوعة . وعليه ، فان الثقافة بمختصر مفيد ، هي ” أسلوب حياة في ظرف معين ” . إن باستطاعة أي إنسان معرفة الثقافة التي يحملها ، فهي مجموعة تراكمات قد حصلت عبر صراعه الاجتماعي وصراعه مع الطبيعة معا .

الافتراق في المعنى والاصول
إذاً فالثقافة أو ” أسلوب الحياة ” تعّبر ( أو : يعّبر ) عن حصيلة التراكم التاريخي للفكر والمعرفة وجملة الحوادث والخبرات التي مرت بالإنسان ماديا ومعنويا .. أي مدى التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفنية والعقائدية والقانونية والأدبية والعلمية والأخلاقية .. على أساليب حياة الإنسان ، كلّ في بيئته أو موطنه أو بلده أو حتى في مدينته وبلدته .. علما بأن لكل من البيئة والمواريث محفزاتهما في منح كل ثقافة لونها وشكلها وحتى مضامينها ، فسكان الجبال لهم ثقافتهم المختلفة عن أهل السهوب ، وبدو الصحراء هم غير سكان الغابات ، وثقافة سكان شواطئ الأنهار والاهوار هم غيرهم من سكان المناطق الثلجية .. الخ وكثيرا ما يخلط العرب وغيرهم من الشعوب الشرقية بين الثقافة Culture وهي حصيلة مواريث القيم والتقاليد .. وبين التكوين التربوي Education التي يعّبر عن حصيلتها بـ ” الثقافة المكتسبة ” ، فكل إنسان ضمن بيئة معينة له ثقافته المحلية والوطنية المتوارثة ، ولكن ليست له ثقافته المكتسبة . هذه الاخيرة ، لا يمتلكها الا القليل من الناس في هذا العالم الشاسع مقارنة باعداد البشر على وجه الارض !
كثيرا ما يخلط المرء بين مصطلحي ” الثقافة ” و ” الحضارة ” .. باختصار ، إذا كانت الثقافة أسلوب حياة ، فان الحضارة هي مجموعة نتاجات أنشطة الإنسان وإبداعاته المادية والروحية عبر التاريخ . إن كل واحدة منهما تشكّل ظاهرة معينة في التاريخ ، ولكن الثقافة ( أو : مجموعة ثقافات ) تنضوي دوما في مضمون أية حضارة عالمية ـ كما اسماها المؤرخ الشهير آرنولد توينبي ـ ، وإذا كانت ثقافات العالم لا تعد ولا تحصى بكل تنوعاتها وأشكالها وتوزيعها .. سواء كانت متسمة بانفتاحها على العالم ، أو متصّفة بانغلاقها عنه ، فان الحضارات العالمية في التاريخ لا تتجاوز 20 حضارة عالمية مع وجود حضارات صغرى . إن أولى الحضارات البشرية كانت في كل من العراق ومصر ثم أثينا .. الخ تلك البيئات الأولى التي انطلقت منها وعلى ترابها أولى حضارات الجنس البشري العظيمة ، وإذا كانت البيئة لم تتغير عما كانت عليه قبل آلاف السنين ، فان الإنسان قد تغيّر وتبّدل عبر التاريخ وما تضمّنه من أحداث قاسية أو متغيرات صعبة .. إذاً ، فالحضارة هي نتاج قومية أو أمة تتألف من عدة قوميات أو إثنيات ومجتمعات .. او حتى قارية أمم وشعوب ، تقوم بتطوير وتجديد وتنظيم الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في كافة النواحي وعلى كافة الأصعدة .. وكثيرا ما كانت الحضارات تقابلها دول عالمية ـ على حد توصيف المؤرخ توينبي ـ ، فثمة أكثر من 21 إمبراطورية كبرى في التاريخ .. أنتجت ما يقابلها من الحضارات الشهيرة في جغرافيات معينة من الأرض ، ولكن الحضارات ثلاثة أصناف : حضارة مستمرة وحضارة متوقفة عن النمو وحضارة متيبسة أو ميتة !

بين مثقف ومتحضّر
أن بداية الحياة الحضارية مرتبط ببداية الزراعة، لذلك نجد أن معظم الحضارات الأولى كانت تنشأ على ضفاف الأنهار ، وفي قلب العالم ، لا على هوامشه . طبعاً الحضارة هي فعل اجتماعي ثقافي جماعي شارك في صياغتها وتقويتها كل الأفراد، لكن الدور المحوري والمركزي كان للفلاسفة والفنانين والقادة والحكماء والأنبياء ، هؤلاء حياتهم بمجمل نتاجاتها هي ثقافة. يعني أن هؤلاء هم الذين يضعون أسس وقوانين وقيم ومقاييس الجمال والخير والشر…الخ.
وهنا نصل إلى نتائج مهمة جدا :
1/ كل حضارة هي مجموعة ثقافات، لكن كل ثقافة ليست حضارة. لأن الثقافة تتفرع إلى ( طبقية، إقليمية، دينية، محلية…الخ). لكن الحضارة لا تتفرع ولا تتجزأ ، بل تبقى ظاهرتها حية كمنظومة متكاملة ! وبالتالي فهي تحتوي هذه الثقافات على تنوعها. لذلك فالحضارة أعمق وأوسع من الثقافة من حيث الاصطلاح والمدلول والجوهر.
2/ هنا ينبغي أن أتوقف قليلا لأنبه إلى أن فارقا كبيرا عندما نقول هذا مثقف وهذا متحضّر .. فالأول ينبغي أن يكون مبدعا في كل أسلوب حياته ، وهو منتج لا يتوقف عن الإنتاج أبدا . أما الثاني ، فانه المتحضّر الذي يدرك معاني الحياة بكل أبعادها ، ويعامل الآخرين بأعلى درجات الفهم وأخصب قيم المدركات .. الأول ينبغي أن يكون كالثاني ، ولكن ليس من المشروط ان يكون الثاني جزءا من الأول .
3/ لا ثقافة من دون شعب ، ولا شعب من دون ثقافة. لأن الثقافة هي مرآة تعكس مجمل الحياة الاجتماعية بأفراحها وأتراحها والحياة الأدبية والفنية والروحية، بالإضافة إلى جملة الأعراف والتقاليد الموروثة لدى كل شعب معّين. من هنا يتضح لنا جلياً أهمية الهوية الثقافية لحماية ذاته واستمرار بقائه كقومية واحدة ( او : قوميات متعددة ) مستقلة والشيء الذي ينبغي عدم نسيانه هو أن الثقافة تستمد خصائصها من البيئة والطبيعة وأشكال وأنماط الحياة الاجتماعية والفكرية لشعوبها مشكّلة هوية ثقافية متميزة عن غيرها.

ثقافة القوة وقوة الثقافة:
عندما يتعرض أي وطن لمنطق القوة ، والهيمنة من قبل قوة غازية او غاشمة ، فهي تحاول بشتى الوسائل والأساليب التأثير على ثقافته ، والنيل من أساليب حياته من اجل كبح جماح شعبه ، أو صهر مقوماته ، أو السيطرة على كنوزه الحضارية ! إن المشكلة ليست خارجية حسب ، بل داخلية أيضا ، ذلك أن أي مجتمع أن لم يحافظ هو نفسه على ثقافته ، ويجددها من حين إلى آخر أو يصلح من شأن ترهلها .. آو يعاقب بشدة كل من يعبث بآثاره الحضارية .. فان المجتمع نفسه ، بحاجة إلى المزيد من الإتعاب حتى يرتقي إلى سلم الأولويات ، ويشعر بأن اغلى ما تحترز عليه الشعوب ثروات بلادها التراثية والحضارية ، وخصوصا ، إذا كانت غنية بها ، كما هو حال كل مجتمعات الشرق الأوسط وبلدانه .
ان مجتمعاتنا ، عموما ، بحاجة ماسة إلى تطوير ثقافاتها المحلية والوطنية من خلال تنمية الوعي والتفكير لديها ، وخصوصا بعد التطور التكنولوجي الهائل ، وثورة الاتصالات ، وثورة المعلومات والارقام الهائلة وقوة الميديا الإعلامية التي شهدها العالم منذ نهايات القرن العشرين وحتى اليوم . إن القوة الثقافية لا تتحقق بمعزل عن مشاركة العالم كله بمختلف الإبداعات ، والتلاقح بين الثقافات المختلفة . إن ما جرى من تحولات ثقافية في مجتمعاتنا قاطبة خلال القرن العشرين ، لا يكتفي بحجم المتغيرات .. فالصورة مختلفة تماما بين بدايات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين . ولكن ما حدث من متغيرات قليل مقارنة بشعوب أخرى نجحت في تطوير ثقافاتها وتجديد مضامينها .. واغنائها بعناصر القوة .

أين نحن ؟
هل نحن فعلا بين ثقافة كسيحة وحضارة جديدة ؟

عندما نتحدث ونتكلم ، فان الكلام وصياغته لا يكّلف شيئا ، هذا ان بقي خاليا من الأكاذيب والمفبركات والتهويلات .. ثقافتنا اليوم قد أصبحت كسيحة ، لأنها لم تتجدد ، ولأنها لم تشارك هذا العصر همومه وآماله وأمانيه .. ثقافتنا الاجتماعية ضحية للإخفاقات التي وجدناها في القرن العشرين ، وخصوصا في النصف الثاني منه عندما همشّت على حساب النظم القمعية .. ثقافتنا متيبسة ، فأساليب الحياة لم تتطور في مجتمعاتنا بما يوازي النقلات الغريبة التي خطاها الإنسان هنا أو هناك .. ثقافتنا السياسية صفر على الشمال ، ونحن نعيش مأساة من انعدام الفهم تماما عن مسائل غاية في البساطة ! الإبداع الثقافي في أزمة في اغلب مجتمعاتنا ، كونها شعوب لا تقرأ أصلا ، وقد غدا كل شيء في أساليب حياة مجتمعاتنا كسيحا .. وتضيع أصوات وإمكانات ومواهب وإبداعات جيل كامل ، بسبب التراجع المخيف الذي حظيت به مجتمعاتنا في الثلاثين سنة المنصرمة ، قد سبّب كل هذا الدمار !
أما ” الحضارة ” ، فكثير من المتوهمين يعيشون هذا العصر ويتمتعون بكل ما أنجزته لهم حضارة هذا العصر ، ولكنهم لا يعترفون بأن ثمة حضارة معاصرة .. ويعاندون غيرهم كونهم أصحاب حضارة ! تقول لهم : نعم ، لقد كان الآباء والأجداد أصحاب حضارة ، أو أكثر من حضارة .. لكنهم يجادلونك عن قناعة راسخة أوهمتهم أنهم بأصحاب حضارة عربية وإسلامية .. وان حضارة هذا العصر .. مجرد أكذوبة ! طيب .. نطلب منهم أن يجيبوا على الأسئلة التالية : كم هي منجزات هذا العصر ؟ كم استطاع الإنسان أن يحقق من مكتسبات في حقوقه وواجباته ؟ ما سر التقدم العلمي وتوالي الاختراعات ؟ ما سر تقدم المجتمعات ؟ ما هو التنظيم والنظام ؟ ما سر التقدم في التربية والتعليم ؟ إننا لا نسأل هنا عن شوارع وعمارات وأبراج وحدائق وأسواق حديثة ( مولات ) .. ولكن نسأل : ما الذي شاركت فيه مجتمعاتنا غيرها من البشرية في تلك المنجزات والإبداعات ؟ لقد علمتنا تجارب القرن العشرين ، بأن مجتمعاتنا قادرة على صنع منجزات رائعة في الإبداع الثقافي ، والتقدم الحضاري .. ولكن متى سيقضى على عوامل التأخر ، وقلب الطاولة على كل رموز التخلف ؟


نشرت في ايلاف ، 1-2 مايو / ايار 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …