الحلقة 41
مباحثات مصر حول حلف بغداد
الصاغ صلاح سالم
مؤتمر سرسنك
نص هيكل
دعونا نبقى مع هيكل، وهو يستطرد قائلا: “وبعدين جاء نوري باشا، قبل ما ييجي نوري، باشا الوصي علي العرش الأمير عبد الإله بعد ما رجع العراق وبعد ما قابل جمال عبدالناصر وتكلموا في الكلام ده كله اللي قلت عليه، طرحوا إنه أمامهم في حضور الأسرة المالكة العراقية يعني بحضور الوصي وبحضور الملك إنه يروح حد من مصر ويتكلموا أمامهم فيما يتعلق بما يريدوه في موضوع الأحلاف وإنه عاوزين.. هم حريصين علي العلاقات فعاوزين يبقي موجود في حضور الملك وولي العهد، ولي العهد هو كان في نفس الوقت الوصي.. الوصي علي العرش الأمير عبد الإله فبالفعل تقرر إرسال صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة، فراح إلي سرسنك مصيف العائلة المالكة وقعد هناك أربعة أيام وأنا كاتب تفاصيل المحادثات في ذلك الوقت وباستفاضة وحاكي جري إيه وحصل إيه ونوري باشا قال إيه وهو طالب إيه وقال أيه لجمال عبدالناصر وصلاح سالم روي وجهة نظر مصرية تماما والأمير عبد الإله والملك موجودين وواضح إن الأسرة المالكة داخلة تعمل بشكل ما دور.. دور سواء في العمل العربي عشان أبقي منصف أو سواء في الحيلولة دون سوء فهم بين مصر والعراق تنحاز به مصر إلي جانب السعوديين أو النظام الجديد في مصر إلي جانب السعوديين ونوري باشا هنا بيهدئ تصوراته.. “(انتهى نص هيكل ) .
. تحليل النص: المضمون والتساؤلات
1/ المقابلة الوهمية
هذا كلام فارغ يا هيكل.. هذا ليس بتاريخ ولا حتى بسرد حقائق.. إنه ليس كلاما منحازا لمصر حتي أقبله، بل كلام ينحاز إلي هيكل نفسه.. لم يكن الباشا نوري يسعي إلي الرّيس عبدالناصر بقدر ما كان الرّيس يسعي للباشا. يقول نوري باشا وهو يسمع كلامه الجميع أن عبدالناصر يريد مقابلته برسالة أوصلها احمد مختار بابان ـ كما ذكر النشاشيبي في المصدر سالف الذكر ـ، كما أن كل المراقبين والمتابعين لما حدث لم يفصحوا عن جواب لسؤال يقول: لماذا اختار عبدالناصر الصاغ صلاح سالم ليكون وسيطا بين الطرفين. إنني بدوري اسأل هيكل عن ذلك، برغم انني مقتنع انه حتى هيكل لا يدري جواب ذلك أبدًا، فهو بالرغم من جعل نفسه شاهدا علي ما حدث، لكنه لم يكن أحد أعضاء القيادة السياسية لمصر، والتي امسك بها الرئيس جمال عبدالناصر بعد اقالته الرئيس اللواء محمد نجيب وعزله ووضعه تحت الإقامة الجبرية.. كما أننا عرفنا مما سبق ومما لم تتحدث أي وثيقة رسمية عنه ان ادعاء هيكل بمقابلة توهمها، وقد حدثت بين الأمير عبد الاله والرئيس جمال عبدالناصر لا أساس لها من الصحة أبدًا.. كما أوضحنا في الحلقة السابقة.
2/ الأسرة العراقية المالكة بعيدا عن رسم السياسات
إن قول هيكل بمطالبة مناقشة الموضوع امام الأسرة المالكة العراقية، أي بحضور الملك فيصل الثاني والأمير عبد الاله الذي كان وليا للعهد، ولم يكن في ذلك الوقت وصيا علي العرش يا هيكل، فلقد انتهت وصاية عبد الاله منذ تسّلم الملك فيصل الثاني سلطاته الدستورية عند بلوغه السن القانونية عام 1952، فلماذا تصّر علي تسميته بالوصي عبد الاله؟ إن مثل هذه “المطالبة” لم نجدها في أي مصدر رسمي أو قانوني يا هيكل، فمن أين اخترعت مثل هذه المطالبة؟
ونحن نعلم أن ثقة الأسرة العراقية المالكة بالباشا نوري السعيد كانت كبيرة جدا، ولا يمكنهم ان يشككوا في مصداقيته، فلقد كان وفيا لهذه الأسرة وملتصقا بها ومدافعا عنها منذ بدء شبابه، وحتي اللحظة الأخيرة من حياته ! إنهم لم يطلبوا أن يروح أحد من مصر ليتكلموا أمامه فيما يخص موضوع الحلف لا الأحلاف كما ذكرت.. إنهم لم يستجدوا موافقة عبدالناصر، بل كان عبدالناصر نفسه متلهفا لمعرفة ما يدور في كواليس السياسة العراقية، علما بأن قادة العراق كانوا حريصين فعلا علي علاقات العراق القوية مع مصر، وهذا ما شهدناه علي امتداد حياة النظامين الملكيين في كل من العراق ومصر.. ولكن تبدّل النظام السياسي بمصر، جعل ثقة قادة العراق مهزوزة إزاء متغيرات مصر، وخصوصًا مع بدء عهد عبدالناصر..
مصيف سرسنك
إنهم لم يخططوا أبدًا لمؤتمر ينعقد في سرسنك، البلدة الكردستانية الجميلة في شمال العراق والتي يقطنها كل من الاكراد والاثوريين العراقيين معا، كانت مصيفا للعائلة المالكة العراقية، والبلدة تحتضنها الجبال الخضراء، وتطل علي وديان تكسوها أشجار البلوط والسرو والاسبندار، وهي من أروع مصايف العالم بغزارة مياهها العذبة وطيب مناخها وجمالها الساحر.. وكنت قد دخلت إبان طفولتي قصر الملك فيصل الثاني بسرسنك، وهو قصر بسيط لونه أبيض وتكسوه أسطح القرميد البني، وتدور حدائق جميلة من حوله، وفي وسطه حوض سباحة يتميز بمياهه الزرقاء الصافية، ويطل علي طرفه الشرقي والشمالي وديان سرسنك الجميلة.. نعم، لقد حدث وان وصل الصاغ صلاح سالم وبمعيته صحفي شهير هو ناصر النشاشيبي، فكان الباشا نوري السعيد يرافق كلاً من سيده الملك فيصل الثاني وخاله ولي العهد عبد الإله في سرسنك، فاضطر إلي ان يذهب الصاغ صلاح إلي حيث يقابل الباشا نحو سرسنك من دون أي مطالبة بذلك من قبل الأسرة المالكة، فالسياسة العراقية كلها بيد الباشا يحركها كيفما يشاء.. اما قولك يا هيكل إن عبدالاله هو: “ولي العهد هو كان في نفس الوقت الوصي.. الوصي علي العرش الأمير عبدالإله..”، فهذا خطأ لا يمكن تمريره، كما ذكرت سابقا، فالوصاية قد انتهت مع تسّلم فيصل الثاني مسئولياته الدستورية عام 1952، وكان عليك ان تستشير المصادر التاريخية قبل القاء الكلام جزافا.. كان ذلك صيف 1955، ولم يكن يدر بخلد الصاغ صلاح ان يكون في حضرة العائلة العراقية المالكة يقيم معهم في القصر نفسه، وقد اكتشف بساطة عيشهم، وسمو أخلاقهم، وعلو مكانتهم .
4/الصاغ صلاح سالم في سرسنك ورأيه في الميثاق
نعم قعد الصاغ صلاح سالم أربعة أيام في سرسنك، وبضيافة الملك فيصل الثاني واستمع طويلا للباشا نوري السعيد، بعد أن استقبل استقبالا كريما من قبل الملك وخاله الأمير، ولقد تداول المرافقون العراقيون كلاما عن الصاغ انه لم يكن يعرف اصول الاتيكيت في تصرفاته وكان الباشا قد انتهره اكثر من مرة ! اما قولك يا هيكل إن الأسرة المالكة داخلة تعمل بشكل ما دور.. فهذا من اختراعك الشخصي، فأنت لم تكن موجودا، وإذا كنت تريد ان تنصف دور العائلة المالكة العراقية ـ كما ذكرت ـ انها تحول دون سوء فهم بين مصر والعراق كي لا تنحاز مصر إلي جانب السعوديين.. فإنك تظلم ذلك الدور، فالعلاقات بقيت حميمة بين النظامين السياسيين العراقي والسعودي بالرغم من موقف السعودية من ميثاق بغداد الذي اعتبرته يخص العراق أولا واخيرا، ولا يمكن لها ان تتقبله.. ولقد اوضحت كل الايام التي اعقبت عام 1955 وعلي امتداد نصف قرن، ان العراق بالرغم من كونه عمقا عربيا، لا يمكن للعرب الاستغناء عنه أبدًا، ولكنه يبقي محورا مركزيا لكل منطقة الشرق الأوسط، وان العراق تحيط به دول لا يستهان بها أبدًا، وليس كغيره من البلدان العربية، فهو شبه مغلق، وليس له إلا فتحة واحدة لا تتناسب مع حجمه الواسع والمثقل علي الخليج العربي فقط..
5/ماذا قال الباشا للصاغ على قمة الجبل؟
ولعل ابلغ حديث جري بين الباشا نوري السعيد والصاغ صلاح سالم يقول، كما روي علي لسان اكثر من شاهد ان الصاغ لم يعرف أي بروتوكول في تصرفاته في مصيف سرسنك وربما كان قلقا جدا.. ولكنه قد خرج من سرسنك بقناعة تقول إن ميثاق بغداد افضل بكثير من أي ميثاق ضمان جماعي عربي كما كتب ذلك النشاشيبي وكان مرافقا للصاغ وكما سمع منه شخصيا وهما علي متن الطائرة ! فما الذي حدث في صباح اليوم الثاني، إذ لم يحدث في اليوم الأول من وصوله سرسنك عصرا، الا مقابلة كل من الملك والأمير والباشا في حديقة القصر، إذ كانوا يشربون الشاي وكانت المقابلة مجرد مجاملات شكلية.. في اليوم الثاني، ومنذ الصباح الباكر، خرج الباشا نشيطا وبيده باسطونة (عكازه) وقد اخذ بمعيته الصاغ، وخرجا معا إلي شوارع سرسنك الجبلية الجميلة.. مشيا طويلا، واخذا يصعدان الجبل، وكان الباشا مسرع الخطوات، ولم يتهيب من الصعود ولم يتعب وهو أكبر من الصاغ بقرابة الثلاثين سنة، في حين شعر الصاغ بالتعب حتي وصلا القمة.. التفت الباشا نوري قائلا للصاغ: اتعبت من جبال العراق؟ انظر معي شمالا، تلك هي حدود تركيا الممتدة طويلا بسلاسل جبال طوروس الوعرة.. والتفت شرقا، وانظر تلك هي إيران وجبال زاكروس تفصلها عنّا لاكثر من الف كم.. واتمنى أن تعرف ثقل كل من تركيا وإيران وهما يحادان العراق، وانظر بعيدا في الأفق نحو الشمال الشرقي، فهناك حدود الاتحاد السوفيتي واطماعه في المياه الدافئة منذ 250 سنة.. وانظر إلي هؤلاء الذين يقفون من اجل حمايتنا والذين جزعت من منظرهم، بألبستهم الملونة وسراويلهم الفضفاضة، وبشواربهم الكثة واسلحتهم بأحزمتهم.. انهم الاكراد من ابنائنا العراقيين.. إذا لم يجد العراق فرصته في الانسجام مع هاتين الدولتين، فسوف يغرق بمشاكل لا اول لها ولا آخر.. ارجع يا صاغ صلاح للبكباشي جمال، ودعه يفهم ما اقول، علما بأن العراق لم يخرق مواثيقه العربية ولم يتخل أبدًا عن مسئولياته إزاء فلسطين.. ” ! ( لقد روى لي رئيس الوزراء العراقي الاسبق الدكتور فاضل الجمالي هذه الرواية في لقاءاتي العديدة معه ومع زوجته مسز سارة باول جمالي ـ رحمهما الله ـ في بيتهما بالمنزه العاصمة التونسية ابان الثمانينيات من القرن العشرين عندما كنت اعمل استاذا زائرا في معهد التوثيق الاعلى بالجامعة التونسية ).
6/ لماذا رحل الصاغ صلاح سالم مبكّرا؟
هنا، يبدو أن الصاغ صلاح سالم قد اقتنع تماما بتصورات الباشا، ولكنه لم يستطع الدفاع عن وجهة نظر عبدالناصر! إن وفاة صلاح سالم المبكرة تثير الشكوك، ويبدو انه الوحيد من بين أعضاء القيادة العسكرية المصرية الجديدة وهو يتمتع بجرأة نادرة وعناد لا مثيل له، وتصرفات تبدو غير مقبولة من قبل الناس ! ويقال إنه الوحيد الذي كان يخشاه عبدالناصر، وقد اصطدم به عدة مرات. كان لا ينزع النظارة السوداء عن عينيه أبدًا، إذ يبقيها حتي في ساعات الليل، وأن كل الذين رافقوا الرجل أبدوا في ملاحظاتهم أنه كان مقتنعا أشد الاقتناع بالسياسة العراقية، وانه قد وجد ان لكل بلد عربي طريقته في حفظ مصالحه، كما اقتنع ايضا بأن العرب لا يمكن التعويل عليهم أبدًا في مواجهة الصراع الدولي الساخن الذي كان قائما وقت ذاك. ويبقي السؤال حائرا: لماذا رحل الصاغ صلاح سالم مبكرا؟ إذا كان قد كلّف بملف السودان، إذ كان من مواليد السودان، فلماذا كلّف من قبل عبدالناصر بملف العراق؟ وما علاقته بالعراق؟ لماذا كان عبدالناصر يصّر علي ان يبعد صلاح سالم عن دواخل مصر؟ ما الذي كان يشعر به الصاغ صلاح سالم بعد انتصار حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952 ويبدو لي ان الرئيس جمال عبدالناصر قد استوعب بعد سنوات طوال من حكمه وتجربته مع العراقيين بصحة وجهة نظر نوري السعيد! ولكن بعد فوات الأوان! أو ربما لم يستوعب درس العراق أبدًا حتي رحيله عام 1970. ومن اللافت للنظر ان الرئيس عبدالناصر لم يكن يقبل أبدًا أي نظام عربي يتدخل في شئون سياسته وسياسة مصر، ولكنه منح لنفسه الحق في أن يتدخل في شئون الآخرين، وخصوصا الدول العربية كاملة.
نوري السعيد في مصر
يتابع هيكل حديثه، فيقول: ” فنوري باشا بيقرر التحرك وبعدين بيدعي إلي مؤتمر إلي رؤساء الحكومات العربية في مصر، جمال عبدالناصر بيوجه الدعوة إلي مؤتمر رؤساء الحكومات، أنا في هذه الفترة أنا.. نوري باشا جاء.. كان جاء وحصل مناقشات أنا باعتقد.. أنا حضرتها وكتبت بعضها أنا شفت نوري باشا لوحده ولوحدنا معنا نجيب الراوي سفير العراق في مصر وقعد حكي لي وجهة نظره وحضرت جزء ثاني من مقابلته مع جمال عبدالناصر لأنه كان فيه الراوي باشا عمل دعوة غداء لجمال عبدالناصر ونوري باشا يقعدوا لوحدهم وبعدين بعد الغداء كان مفتوحة أكثر شوية وروحت أنا وأظن، مش أظن متأكد إنه كان فيه السيد علي صبري وأظن هنا فيه موضوع الظن الوحيد أظن إنه عبد الحكيم عامر كان موجودا هناك أيضا وأنا حاكي.. ” ( نص هيكل ).
هل أنت متأكد يا هيكل أنك قد قابلت نوري السعيد لوحدك؟ أم لوحدنا بمعية السفير العراقي نجيب الراوي؟ ومن قعد منهما ليحكي وجهة نظره إليك؟ وماذا حكي إليك؟ لماذا تشبك الأمور بعضها بالبعض الآخر يا هيكل؟ انني اشكك في كلامك حول مقابلتك نوري السعيد، لأن الرجل ليس من النوع الذي تعجبه الثرثرة أو يغوي مقابلة الصحفيين والإعلاميين ! وإذا كان قد حكي إليك، فما الذي أسره إليك؟ ويبدو أنك كنت قد سمعت بدعوة غداء السفير الراوي لكل من الزعيمين من دون حضورك إياها، وإلا لماذا لم تصف لنا كل ما جري في ذاك الحفل؟
عصر الترتيبات الثنائية انتهى
ويتابع هيكل قائلا: “وحتى حاكي مشاهد غريبة قوي لأنه بدأت وجهتي النظر تتصادمان، جمال عبدالناصر بيقول لنوري باشا إيه؟ جمال عبدالناصر فيه هنا في هذه اللحظة عنده رؤية استراتيجية واضحة لما يتصوره لمستقبل المنطقة، بيقول إيه؟ بيقول.. قبلها نوري باشا بيحكي وجهة نظره عشان أبقي آخذ المسألة بسياقها الطبيعي، نوري باشا بيقول إنه عصر الترتيبات الثنائية انتهي ونحن الآن في عصر حاجة ثانية خالص، فيه صراع عالمي ونحن لا نستطيع أن ننأي بأنفسنا عنه، إحنا موجودين فيه، ثم إنه هذا الصراع العالمي بين شيوعية نحن لا نحبها وبين رأسمالية ممكن قوي نرتب علاقتنا معها، بين دول مالناش دعوة بها وهي الاتحاد السوفيتي ودول ثانية إحنا عندنا علاقات تاريخية معها ومكاننا معها ومستقبلنا معها.. ” (نص هيكل ).
ان وجهتي النظر يا هيكل قد تصادمتا منذ زمن طويل بين الزعيمين الاثنين.. ومنذ وصول عبدالناصر إلي السلطة.. وإذا كان عبدالناصر له رؤية استراتيجية واضحة في تلك اللحظة لما يتصوره لمستقبل المنطقة، فإنني أعتقد ان نوري السعيد كان له مشروعه الموسع الذي لا يقتصر علي ترتيبات ثنائية، بل يشمل كل المنطقة لشدّ وثاقها بعضها بالآخر من أجل الوقوف إزاء الصراع العالمي أولا والمخاطر التي تتعّرض لها المنطقة ثانيا.. إن رؤية عبدالناصر يا هيكل غير واقعية، بل يتوهم أن منطقتنا لها دول قوية وأنظمة قوية والعكس صحيح. ان دولنا هشة وأنظمتنا ضعيفة ومجتمعاتنا متأخرة ولا تقوي علي البقاء في اطار الصراع العالمي الذي كان يعم العالم كله.. وإذا كان عبدالناصر قد بثّ أفكاره وشعاراته التي يسميها هيكل بـ”الرؤية الاستراتيجية” ونجح في استقطاب الرأي العام العربي، فإن نوري السعيد قد بني استراتيجيته علي واقع سياسي انقسامي من دون أي إعلام أو ماكينة إعلامية تبث «ليل نهار» ولا أي خطابات ولا أي انفاقات.. ان جمال عبدالناصر كان يؤمن إيمانا راسخا أن الشعب يعتقد أنه مستقل الإرادة وأنه يتخّيل أنه يعمل باستقلالية سياسية كاملة، وقد آمنت الناس بهذه التصورات .. ولكن نوري السعيد كان يؤمن إيمانا راسخا بأن الشعب يعتقد انه غير مستقل الإرادة وانه لا يعمل باستقلالية سياسية كاملة، وكان لا ينفي علاقاته الراسخة بالغرب، وخصوصا بريطانيا.. علما بأنه لا يمكن لا لمصر ولا للعراق ولا لأي دولة من دول المنطقة عموما ان تعيش وتحيا أمنيا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا.. من دون أن تتوكأ علي واحد من المعسكرين: الشرق أم الغرب؟ ولا يمكن لأي نظام من التي كانوا يسمونها بدول العالم الثالث أن يحيا من دون أن يرتبط، وبقوة بواحد من المعسكرين المتصارعين الاثنين. ولقد ثبت بالدليل القاطع أن ما يسمي بـ”الحياة الايجابي “عدم الانحياز” مجرد أكذوبة تاريخية، اكتشف المعاصرون اليوم كم كانت قد خدعت الملايين من الناس.
نشرت على جريدة روز اليوسف المصرية ، العدد 1469 – الجمعة – 23 أبريل 2010
، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وأيضا على صفحة تجمع الدكتور سيار الجميل
http://www.facebook.com/group.php?sid=ef680591def239dac31065b4f16482c3&gid=48810538237
ملاحظة : لا يسمح بإعادة النشر تحريريا أو الكترونيا ، إلا بترخيص خطي من المؤلف والناشر .
الحلقة 42
مباحثات مصر حول حلف بغداد
ثانيا : المشاهد الغريبة
المشهد ليس غريبا يا هيكل
يتابع هيكل كلامه اليتيم (الذي لم نجده في أي مصدر آخر للمعلومات )، قائلا : ” وهو يشعر.. وهنا جبنا الخريطة وأنا واصف المشهد هنا، نوري باشا جاب خريطة.. سأل فيه خريطة موجودة؟ جابوا له خريطة صغيرة كده، طلب الملحق العسكري، جاب الملحق العسكري ومعه خريطة كبيرة، حب يحطها علي ترابيزة السفرة، الترابيزة عليها بقايا أكواب وفوط وحاجات كده، فحطها علي الأرض ونزل علي الأرض وأنا واصف هنا المشهد الغريب قوي، نوري باشا حط الخريطة علي الأرض ونزل بيقول لجمال عبد الناصر بيقول له إيه؟ بيقول له هنا فيه جبال راوندوز شمال العراق وبين راوندوز.. جبال راوندوز وحدود الاتحاد السوفييتي ثلاثين ميلا وأنا بأعتقد إن إحنا علينا خطر من الاتحاد السوفييتي وإنه هذا لابد أن ننضم إلي حلف يقينا.. أنا هأوصل لاتفاق مع الإنجليز.. الإنجليز موجودين في الحبانية وعندنا قواعد زي ما عندكم في السويس وهنوصل لاتفاق معهم، لكنه رأينا إنه لابد أن يحل محل الاتفاقيات الثنائية القديمة معاهدة 36 في مصر ومعاهدة ثلاثين في العراق، لابد أن تحل محلها ترتيبات جماعية للأمن وإنه إحنا مقتنعين بهذا لأننا نشعر إن علينا خطر وبعدين المشهد اللي أنا استغربت له قوي والحقيقة يعني إن نوري باشا نزل علي ركبه ووطَّي علي الخريطة علشان يحدد موقع راوندوز وطلب من جمال عبد الناصر إنه ينزل معه يشوف موقع راوندوز وأنا كنت قاعد في.. نجيب باشا موجود وعلي صبري موجود وأنا موجود والمشهد من أغرب ما يمكن، اثنين قاعدين علي رُكبهم موطيين بيبصوا في الخريطة بيدوروا علي موقع راوندوز ونوري باشا بيحكي إنه ده ثلاثين ميلا من الاتحاد السوفييتي إلي آخره … ” (نص هيكل ).
دعوني اتساءل قبل ان اوّجه أسئلتي للأستاذ هيكل : هل وردت هذه المعلومات في أي مصدر آخر غير الذي اورده هيكل هنا؟ وما الذي يثبت لنا صحة ما جاء به هيكل من قصة لا شيء آخر يتضمنه لقاء كل من الزعيمين نوري وجمال؟ ما الحوار الذي دار بينهما؟ هل اكتفي نوري بهذا المشهد الذي اثار غرابة هيكل؟ هل تعقد مباحثات بين ابرز دولتين عربيتين، ولم يحضر الاجتماع الا سفير العراق بمصر وعلي صبري ومحمد حسنين هيكل؟ هل يعقل الا تنشر اية صورة فوتوغرافية للزعيمين بوفديهما وقد اجتمعا بالقاهرة، والكل يعرف ان نوري السعيد يزور القاهرة؟ الا ان كانت هناك خطة للتعتيم علي الزيارة ومضامينها ! انني كنت قد اطلعت قبل اربعين سنة علي صورة نشرت في احدي المجلات المصرية تجمع الرئيس عبد الناصر بلباسه العسكري، وهو يستقبل في مطار القاهرة الباشا نوري السعيد ببدلته المدنية وقبعته .. وباستثناء تلك الصورة، لم اجد اية صورة للاجتماع الذي حدث بين الزعيمين حول اخطر ما كان يريد ان يرسمه كل من الزعيمين الاثنين .
أين المشاهد الغريبة؟
الان ارجع اليك يا هيكل لاسألك حول الذي أتيت به في اعلاه : ما وجه الغرابة في الذي حطيته لنا؟ اين المشاهد الغريبة قوي التي دهشت لها؟ كل ما هنالك زعيم وسياسي قديم يؤمن بايضاح معلوماته علي الخرائط .. والخرائط المتسعة دوما ما تكون كبيرة .. ما وجه الغرابة ان فرشها علي الارض، ونزل علي ركبتيه، وانزل عبد الناصر معه الي الارض ليريه المسافات علي الخارطة؟ ان كنت لا تعرف من يكون نوري السعيد وتصرفاته .. فان هذا الزعيم العراقي كان يتصرَّف علي سجاياه الاولي التي تربي عليها ببغداد .. وكان لا يمانع ان يمشي في شوارع عاصمته لوحده، ويشتري الفواكه لبيته بنفسه .. كان يدخل المقاهي ليجلس مع الناس ويتحمّل نزقهم .. وكان يسهر ليلا في واحدة من الكابريهات ليتمتع مثل بقية الخلق .. كان يتصّرف تصرفات عادية من دون ان يحسب أي حساب للعظمة ولا للارتقاء .. كان واقعيا يأكل في بيته علي الارض بلباسه العادي ولا يمانع ان يأكل باصابعه ما يعجبه من الاكلات العراقية .. ما وجه الغرابة يا هيكل ان وجدت كلا من الزعيمين علي ركبتيهما يبصان علي الخارطة؟ ولكن هل انت متأكد من ان المسافة التي قالها نوري باشا للريس عبد الناصر هي ثلاثين ميلا؟ هل انت متأكد من هكذا، معلومة لا يمكن ان يقولها نوري باشا، لأنه يعلم علم اليقين ان المسافة بين راوندوز وحدود الاتحاد السوفييتي هي اطول بكثير من هذا العدد من الاميال
بتاع العراق .. وبتاع مصر !
يتابع هيكل : “الحقيقة لازم أقول إنه النوري باشا كمان هنا ما لهوش حق يمكن في الأحلاف، الاتحاد السوفييتي لأنه هنا فيه وحتي جمال عبد الناصر قال له.. قال له يا أخ نوري.. وما أظنش في وقتها كان فيه لغة الخطاب لما بيقول للملك سعود يا أخ سعود أو يا أخ نوري، هنا المسائل.. فيه ناس جدد جايين ومش معترفين بألقاب وفيه ملوك وبشوات بيتصوروا إن هو ده يعني المسألة مهمة يعني، فعلي أي حال جمال عبد الناصر بيقول لنوري باشا وهما علي الأرض لسه علي رُكبهم لسه، بيقول له عُمْر الروس ما هييجوا لكم عُمْر الاتحاد السوفييتي ما هييجي لكم، قال له ده ثلاثين ميلا، قال له يا أخ نوري إذا اخترقوا الثلاثين ميلا دول وجاءوا علي حدود العراق ما يبقاش الموضوع بتاع العراق وبتاعك وقتها حرب نووية، أنا عايز أقول لك إنه لن تحدث حرب وإذا حدثت حرب في هذه المنطقة فالمعركة سوف تكون أكبر جدا من طاقتنا ومن قدرتنا فما فيش داعي نعمل خطط عليها، علينا إن إحنا نعمل خطة لاستقلالنا ونعمل خطط لتوحيد إرادتنا لكن حرب عالمية جايه بين دول، الاثنين مع بعض معسكرين وبالأسلحة النووية لأنها مؤكد هتبقي أسلحة نووية، هذا موضوع لا نستطيع نحن أن نخطط له وإنما كل قدرتنا إذا استطعنا أن ننأي بأنفسنا عن مشاكله، لكن لا نتورط فيها، نوري باشا مش مقتنع بده، لكن نوري باشا الحقيقة كمان عنده حجة مهمة قوي وأنا بأتكلم إنصافا لكل الناس لأنه كل الناس دول كلهم بقوا عند ربنا يعني ” ( نص هيكل).
تحليل النص ونقده
يا استاذ هيكل .. ان من يسمع كلامك في التليفزيون او يقرأ ذلك علي الورق .. سيعجب حتما بما كتبته، وانت في غاية الانحياز لموقف عبد الناصر .. كنت اتمني ان تكون حياديا، ولو لمرة واحدة في معالجة اخطر ما كانت تتعرَّض له المنطقة بالكامل .. كنت أتمني ان تكون موضوعيا ولو لمرة واحدة، وقد مرّ اكثر من نصف قرن علي العام 1955 ! كنت اتمني ان تكون منصفا، وانت تعالج المواقف المصطدمة، او التي كانت في طريقها للاصطدام .. كنت أتمني ان تقول بأن من اكبر فجائع العرب في القرن العشرين تدخلات احدهم بشأن الاخر، وكأن ليس لكل دولة عربية خصوصياتها وسياساتها ازاء الاقليم والعالم .. وتعال يا سيدي لأسألك سؤالا واحدا لا غير : انت الوحيد في هذا العالم الذي أتيت بكل هذه المعلومات عن لقاء نوري السعيد بجمال عبد الناصر من دون ان اجدها لدي غيرك ابدا .. فانت الذي أتيت بهذه الشهادة وانت الذي تحاكم مضمونها .. كنت اتمني عليك فقط ان تثبت لنا صحة ما قلته .. كنت اتمني ان اجد للزعيمين صورة فوتوغرافية مشتركة، وهما علي ركبهما يبصان علي الخارطة .. كنت اتمني عليك ان تثبت لنا صحة ما قلت من مفاوضات الطرفين مدعوما بمحاضر رسمية، حتي نعرف ما قاله كل من الزعيمين للاخر .. وليس من الصواب ان تحدث هكذا جلسات رسمية بين اكبر رأسين عربيين من دون اية محاضر رسمية ..؟؟ والا كيف يمرّ ذلك علي دولة مصر، وهي العريقة في مثل هكذا امور منذ بدأ تشكيلها الحديث علي يد مؤسسها محمد علي باشا في مطلع القرن التاسع عشر؟؟
المصريون ورقي آداب التعامل
ليس من باب اللياقة ولا من باب الدبلوماسية ولا من باب الاتيكيت ان يخاطب الرئيس جمال عبد الناصر ضيفه نوري السعيد بـ ” يا اخ نوري ” من دون القاب ولا اية صفة ادبية او اجتماعية .. اذا كان لا يؤمن بألقاب الباشوية او البهوية او غيرهما .. فهذا شأنه الشخصي هو نفسه .. ولكن حتي في مصر نفسها، وبالرغم من إلغائه لمثل هذه ” الالقاب “، فان المجتمع المصري، لم يزل محافظا حتي اليوم علي ارقي اساليب التعامل في ما بين الناس .. وان الصغير لابد ان يحترم الكبير .. وان المضيف لابد ان يحترم الضيف !! هكذا هي طبيعة الناس في مصر، فليس من آداب المجاملة بين الكبار يا هيكل ان يفتقدوا لغة التخاطب بهذا الشكل، خصوصا أن الرئيس جمال عبد الناصر كان برتبة بكباشي او بنباشي في حين ان الباشا نوري السعيد كان برتبة فريق اول اركان حرب .. وان الاخير يكبر عبد الناصر باكثر من ثلاثين سنة .. فهل يعقل ان يتم التعامل بهكذا طريقة غير لائقة؟ وهل هذه هي شيم المصريين في التعامل حتي مع خصومهم؟ ومن الطبيعي ان يمتعض أي مسئول عربي يحمل تاريخا طويلا علي كاهله، ويعد نفسه واحدا من أبرز الزعماء عندما يلقي ترحيبا دوليا منقطع النظير به وبمكانته، ولكنه يفتقد ذلك لدي ضابط صغير شاءت الأقدار ان يكون سيدا لمصر .
الملك فيصل الثاني
من قال لعبد الناصر ان عُمْر الروس ما هييجوا للمنطقة؟ هل قرأ التاريخ الحديث جيدا، وادرك ان الروس لهم مطامع كبري في الشرق الاوسط؟ هل قرأ تجاربهم المضادة لكل من تركيا وإيران؟ هل عرف برؤيتهم القديمة الي العراق منذ القرن التاسع عشر؟ هل قرأ تقارير القناصل الروس من مدن الشرق الاوسط، وخصوصا من العراق الي العاصمة الروسية بترسبورغ؟ ألم يكن الروس هم الاقرب الي المنطقة من الانجليز والفرنسيين والالمان والأمريكان؟ من جعل عبد الناصر يمتلك هذه الثقة العالية بالروس عندما يقول لنوري باشا : ” عُمْر الروس ما هييجوا لكم عُمْر الاتحاد السوفييتي ما هييجي لكم .. “؟ هل عرف عبد الناصر خطط السوفييت لما بعد الحرب الثانية؟ ويفترض عبد الناصر ان جاء الروس الي العراق او الي حدود العراق .. فان الموضوع لن يبقي بتاع العراق وبتاع نوري السعيد؟ من اخبر عبد الناصر بذلك؟ لقد تعَّرض العراق علي امتداد خمسين سنة لهزات تاريخية مدمرة .. ولكن بقي موضوع العراق بتاع العراق ! هل من السهل نشوب حرب نووية بسبب العراق؟ طبعا، ان حدثت حرب، فسوف تكون اكبر من طاقة المنطقة، ولكن لماذا لم يتم تدارك الخطر؟، قال له ده ثلاثين ميلا، قال له يا أخ نوري إذا اخترقوا الثلاثين ميلا دول وجاءوا علي حدود العراق ما يبقاش الموضوع بتاع العراق وبتاعك وقتها حرب نووية، أنا عايز أقول لك إنه لن تحدث حرب وإذا حدثت حرب في هذه المنطقة فالمعركة سوف تكون أكبر جدا من طاقتنا ومن قدرتنا فما فيش داعي نعمل خطط عليها ( كلام عبد الناصر ) . هنا أسأل : اذا كان ما فيش داعي نعمل خطط .. فما هي خطط عبد الناصر التي يمكنها ان تواجه التوقعات العراقية .. علما بأن ما يعرفه نوري السعيد عن العراق، لا يمكن ان يعرفه عبد الناصر ابدا؟؟ وان الاوضاع التي عليها العراق هي غير الاوضاع التي تعيشها مصر ..
أين الخطة الموازية؟
كنت اتمنى علي عبد الناصر، ان يواجه نوري السعيد بخطط ليست موازية او متوافقة، بل بخطط بديلة .. كنت اتمنى علي عبد الناصر ان يدرك بأن نوري السعيد لم يكن يحمل خطة منفردة لمواجهة الاتحاد السوفييتي، بل يحمل مشروعا اقليميا لصون العراق الذي بدا لا يستطيع المواجهة لوحده ليس ازاء السوفييت، بل ازاء وضعه الجغرافي والاقليمي بشكل خاص .. كنت اتمنى علي الرئيس عبد الناصر ان يدرك فحوي الرسالة التي ابلغها نوري السعيد للصاغ صلاح سالم .. كنت اتمنى ان يكون الصاغ صلاح سالم رفقة نوري السعيد في مصر، وهو يواجه عبد الناصر . هنا نسأل هيكل : اين هو الصاغ صلاح سالم الذي كان مسئولا عن الملف العراقي، وقد قضي اياما في ضيافة ملك العراق بمدينة سرسنك؟ لماذا حضر علي صبري، ولم يحضر الصاغ صلاح سالم؟ ارجع لأتساءل قائلا : اذا كان نوري السعيد يعمل علي اقامة حلف بغداد الذي واجه معارضة شديدة من عبدالناصر، فهل قدم الاخير مشروعا موازيا من الناحية الاستراتيجية .. ام اكتفي بترديد واصرار علي ان ميثاق الضمان الجماعي العربي هو الوسيلة الوحيدة لذلك؟ ماذا يمكن ان يفعله الضمان الجماعي العربي بالنسبة للعراق ومشكلاته الصعبة؟ ربما كان نوري السعيد مندفعا ومخطئا من الناحية القومية باتجاه تأسيس حلف جماعي اقليمي ودولي بالاعتماد علي الغرب .. ولكن الايام التالية قد اثبتت ان العراق لا يمكن ان تحّل مشكلاته الصعبة اقليميا ودوليا الا ضمن خطة اقليمية ودولية تحفظ له توازنه داخليا واقليميا ودوليا .. ولكن كان يقف ضد التيار الثوري والقومي الهادر الذي تزعمه عبد الناصر، فنجح الاخير في سحق نوري السعيد، فانهار كل شيء علي حساب دفع الشعب العراقي فواتير تاريخية من دماء أبنائه وخسران موارده وتأخر بنيوياته .. ولله في خلقه شؤون .
تعاظم مكانة العراق النفطية وتفاقم الصراع من حوله
اذا كانت الثقة قد تزعزعت بين اكبر قوتين عربيتين او بالاحري بين نظامين عربيين .. فما الذي يمكن لمصر عبد الناصر ان تقدّمه للعراق وهو يزداد اهمية من الناحية الاستراتيجية دوليا واقليميا، خصوصا ان مكانته النفطية كانت تزداد يوما بعد آخر .. ان ما حدث في العراق علي مدي خمسين سنة لاحقة، ومنذ تغيير النظام الملكي فيه الي نظام جمهوري عام 1958 يوحي بأن العراق كان ولم يزل بحاجة ماسة وضرورة قصوي الي ان يؤمن نفسه ازاء جيرانه في الاقليم اولا، والي ان يسود الاستقرار الداخلي فيه نظرا لكثرة مشاكله الداخلية التي لا يدركها الا من عرف تكوين العراق الحديث معرفة دقيقة . انني واثق بأن هيكل قد غّير نظرته بالكامل ازاء موقف نوري السعيد .. وواثق ايضا بأن هيكل قد اعاد النظر بالكامل من موقف عبد الناصر .. كما قال هيكل ذلك، ولكنه ليس باستطاعته ان يبوح بحقائق بدت واضحة تمام الوضوح بعد خمسين سنة من صراع تلك الايام بين مصر والعراق .. ليس باستطاعته ان يقول بأن للعراق خصوصياته التي لا يمكن ان يجَّرد منها .
التجارب الثورية والمؤامرات والانقلابات .. ماذا تحقق منها؟
واذا اقتنعنا بأن نوري السعيد كان علي خطأ في كل تقديراته وخططه .. فما الذي حدث للعراق علي امتداد نصف قرن من رحيل نوري السعيد حتي يومنا هذا؟ وهل نجحت اية تجربة قومية تاريخية قادها عبد الناصر او غيره من الزعماء الثوريين القوميين او التقدميين؟ هل حققت الثورة العربية بأشكالها وايديولوجياتها المختلفة للعرب عموما ايا من التحرر والاستقلال والتطور ضمن الاساليب التي اتبعت انقلابيا وثوريا؟ هل استطاعت الدول العربية ان تحيا علي امتداد نصف قرن مضي من دون أي دعم مقدم من هذا او ذاك من القوى الكبرى؟
هل تخلصت الانظمة الثورية العربية من المؤامرات الداخلية والخارجية؟ هل تخلَّص العرب في نصف قرن من مؤامرات احدهم علي الآخر؟ اذا كان نوري السعيد قد اتهم مرارا وتكرارا بحبك المؤامرات ضد سوريا مثلا .. فهل بقيت بقية الدول العربية، بما فيها العراق بعيدا عن مؤامرات جمال عبد الناصر؟ اذا كان نوري السعيد قد تآمر ضد جمال عبدالناصر وبمساعدة الغرب، فهل تخلَص العراق لاحقا، علي امتداد حكم الزعيم عبدالكريم قاسم 1958 – 1963، وحكم الرئيسين الاخوين العارفيين 1963 – 1968 من تأثير مؤامرات جمال عبد الناصر وجهاز مخابراته، وخصوصا باعداد اكثر من محاولة انقلاب عسكري ضد النظام الجمهوري في بغداد بعد مصرع نوري السعيد وتصفية النظام الملكي بالعراق عام 1958 .. فما الجديد الذي خرج به عبد الناصر حول ذلك الحلف .. علما بأن هذه الرواية التي ساقها لنا هيكل قبل سنين قد كذبناها في كتابنا ( تفكيك هيكل ) وطلبنا من السيد عبد المجيد فريد ان يقدم شهادته حول الموضوع ما دام لم يزل علي قيد الحياة وله طول العمر .. ولكن لا هيكل أجاب عن أسئلتنا، وآثر السكوت .. ولا عبد المجيد فريد ادلى بشهادته حول موضوع حمولة طائرة مصرية من أطنان الوثائق التي قال هيكل بأن القيادة المصرية قد أخذتها منذ اليومين الأولين على انقلاب 14 تموز / يوليو 1958 في العراق؟ ولقد طلبنا من السلطات المصرية ان ترجع تلك ” الوثائق ” الي العراق ان صدق هيكل في قوله .. ولم نجد أي رد فعل ازاء ذلك ايضا .. معنى ذلك ان ليس ثمة حقيقة ذكرها هيكل سابقا في كتاباته .. فكيف سيكون صادقا، وهو يروي لنا قصة الصراع بين عبد الناصر ونوري السعيد ؟
انتظروا الحلقة القادمة
نشرت على جريدة روز اليوسف المصرية ،العدد 1474 – الخميس – 29 أبريل 2010
، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وأيضا على صفحة تجمع الدكتور سيار الجميل
http://www.facebook.com/group.php?sid=ef680591def239dac31065b4f16482c3&gid=48810538237
ملاحظة : لا يسمح بإعادة النشر تحريريا أو الكترونيا ، إلا بترخيص خطي من المؤلف والناشر .