الرئيسية / افكار / الأعراف الجميلة وانحسار الاستنارة

الأعراف الجميلة وانحسار الاستنارة

يرتهن التقّدم دوما بالحداثة ، بدءا بحداثة الشكل ومرورا بحداثة المضمون ، ووصولا إلى الحداثة في العلاقات والتصرفات والخطاب والتفكير والإنتاج .. علما بأن ذلك ” التقدّم ” لا ينفي البتة كل رائع وجميل ومخّلد من الأعراف الإنسانية الخيرة في مجتمعاتنا ، وحسن علاقاتنا مع بعضنا البعض ، وقوة أساليب تعايشاتنا ، وكل ايجابيات موروثاتنا الرائعة في الجيرة ، والصحبة ، والمساعدة ، والعون ، والعطف ، والتآخي ، والعفة ، والنخوة ، والحمية ، وإغاثة الملهوف والشجاعة ، مع الحياء ، والكرم ، وغض الطرف ، واحترام الكبير ، والعطف على الصغير، وحماية الملل ، وحسن الكلام ، ومهذّب الألفاظ ، وجميل التصرفات ، ومكارم الأخلاق ، وكل صفحات العلاقة بالحسنى .. وصولا إلى الضمير الحي ، والإحساس بالخطأ ، وعدم جرح المشاعر ، والالتصاق بالوطن والحياة البيتية ، والانتظام بالحركة الكشفية ، والاهتمام بالرياضة ، والفن ، والمسرح ، والشعر ، والأدب والكتاب .. وكيفية الأكل ، وأدب المائدة ، وآداب الحديث ، والكلام وأصول المجالسة ، ثم العناية بالصحة ، والأسنان ، والتفتيش على نظافة الأيدي والأظافر .. الخ من العادات المتحضرة .
لقد انحسرت كل هذه العادات والتقاليد المتمدنة اليوم ، في مجتمعاتنا ، باختلاط الأمور ، واضمحلال الحياة ، وانخفاض مستويات المعيشة ، واضمحلال التربويات المدرسية والجامعية ، وانتشار الفقر والبطالة ، وقبح السكن ، وسوء سياسات الحكومات ، وبلادة الأنظمة السياسية بعدم الاهتمام بالإنسان والمجتمع ، فساء التفكير ، وانحسرت القيم المدينية على حساب الانغلاق والوقوف ضد الاستنارة .. إنني مؤمن إيمانا حقيقيا بأن مجتمعاتنا من الصعب تغييرها اليوم، أو إحداث أي ثورة في تقاليدها الصعبة نحو الأفضل.. فهي تعتقد اعتقادا راسخا ، إن مجرد أخذها بالتغيير ، فسيفقدها التغيير أخلاقياتها ويلحقها بالغرب وهي شديدة الكره للغرب !
إن ” التقاليد البالية ” مصطلحا ومفهوما ، قد سمعنا بها منذ أكثر من خمسين سنة مذ تربينا في مدارسنا الأولى ، وقد استخدمه رجالات الفكر والتربية العرب الأوائل الذين كان لهم باع في تحديث الأفكار والانتقال من القديم إلى الحديث . وربما كانت الأجيال السابقة تتقبل هذا ” المفهوم ” كونها مؤمنة بالتغيير وبناء المستقبل ، ولكن الجيل الجديد لم يعد يتقّبل أبدا مثل هذا المفهوم، كونه يترّبى اليوم على تقاليد بالية، وتقترن الحداثة عنده بالتغريب ، ومثل هذا ” التفكير ” جناية بحد ذاته بحق مصيرنا ، مع تفاقم تناقضات حياتنا ورؤيتنا إلى العالم الحديث من زاويتين متباينتين !!
إن النغمة الشائعة التي آذت واقعنا ، وأضرّت بمصيرنا ، وهي التي تتهّم كل من يريد الإصلاح والتغيير نحو الأفضل بتهمة الإعجاب بالغرب والانبهار بتقاليده .. وهي تهمة ساذجة وكافية لسحب البساط من تحت أرجل كل المستنيرين والمصلحين الحقيقيين، وتجعلهم في أعين الناس مجرّدين من وطنيتهم وأصالتهم ، ومن التصاقهم بواقعهم ، ومن همومهم ومعاناتهم . وهذا اخطر ما يواجهه التغيير ، ومن أسوأ العقبات التي تقف إزاء التحولات . أن مجتمعاتنا بقدر ما لديها من خزين ايجابيات من مكارم الأخلاق .. تزدحم اليوم باسوا أنواع المعاملة ، والتفكير المغلق ، والرؤية الضيقة للحياة والرؤية للآخر ، مع انتفاخ حجوم التخلف والدمار في العلاقات العامة والتعامل بين المرأة والرجل وحياة الطفولة المعذبة والشيخوخة المضطهدة .. رفقة حزمة هائلة من التقاليد السلبية التي لا يمكنها أن تستقيم أبدا مع ركائز الحياة المدنية الحديثة ..
إن أشرس حملة يتعّرض لها التفكير المدني والنهضوي في مجتمعاتنا من قبل أناس لا يؤمنون ابدأ لا بالإصلاح ولا بالتحديث ، ولا بالتغيير ولا بالتجديد ، بل أنهم يدينون الاستنارة ، ويعتبرونها خطرا على المجتمع ، بل ويصنفون دعاتها ذيولا للغرب وعبّادا للحضارة المادية الغربية . إن ” التقاليد ” المتوارثة لم تزل تعتز بها الشعوب والمجتمعات قاطبة ، ولكنها مجتمعات حيوية ومتجددة نجحت في استئصال كل ” البالي ” و ” الرثّ ” و ” المتخلف ” و ” المكروه ” منها حتى تلك المجتمعات الآسيوية القديمة .. في حين أن أغلب مجتمعاتنا ، تغرق يوما بعد آخر في ” المتهرئ ” من العادات والتقاليد السيئة ، بل وأخذت تغوص في بحر من إذكاء للأعراق والشوفينية ، والتمذهبات الطائفية ، واستشراء الكراهية والإعجاب بالذات ، وهي مرشّحة لصراعات داخلية دينية وطائفية دموية لا سمح الله .. في ظل انقسامات فاضحة من تقاليد هذا ، وطقوس ذاك تختلط المقاييس ، بحيث غدت بعض التقاليد طقوسا مقدسة لا يمكن الاقتراب منها ، ويطالب كل المتزمتين بالدفاع عن كل أدرانها دفاعا مستميتا !
إنني أدعو مخلصا كل المسؤولين ، والحكومات ، وأجهزة الإعلام لتغيير مفاهيمها السائدة ، وأساليبها المتبعة ، وإن ترى خيرا في الاستنارة بديلا عن الظلام ، وإشاعة التنوير بديلا عن الظلام والتخلف والتزوير.. من خلال رياض الأطفال والمدارس والجامعات .. فضلا عن وسائل الإعلام المرئية خصوصا .. لإعادة زرع القيم الخيرة ، والأفكار المستنيرة ، والوعي بالحياة المنتجة والمواطنة .. الخ إن مدارسنا وجامعاتنا بعيدة عن كل المناهج المتطورة ، وان شاشات التلفزيون العربية لا تعرف اغلبها إلا الثرثرة والشعوذة والإدمان على المسلسلات ونشر الأوهام وبث المعلومات والأفكار الخاطئة .. ؟؟ وعليه ، هل ستجد مجتمعاتنا طريقها نحو الاستنارة على أيدي المصلحين والمسؤولين المدركين ؟ هل يمكن لقوى الظلام والتخلف أن ترفع كل أيديها من السيطرة على تربوياتنا ووسائلنا الإعلامية ؟ هل من معالجات هادئة لكل الانحرافات المعاصرة المنتشرة في دنيا جديدة ، ستقودنا إلى التفكك والتشرذم في عالم لا يعرف الرحمة ؟

نشرت في البيان الاماراتية ، 22 ابريل 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …