تبدد هرمونية التعايشات
عندما يختلف المرء سياسياً أو فكرياً مع أفراد معينين أو جماعات محددة، فلا يمكن له أبداً أن يتحول مشروع الاختلاف في الرأي أو توضيح الأخطاء في المعلومات.. حتى وإن كانت شروخاته كبرى وثقيلة إلى مشروع هدم وإقصاء لذوى القربى كلهم وإهدار للمكان الذي يقطنونه بكل جمالياته وعبقرياته وإسقاط لكل الشراكات القديمة، فناء لكل روح الألفة والتعايشات التاريخية والعناصر المشتركة.. وعندما تصل درجة العداء إلى حدودها القصوى بين طرفين متلازمين حينا ومفترقين حيناً آخر، فليس من المعقول أن تبدد كل منظومات القيم الجميلة وتهدّم كل معاني الحياة السامية. إذ لسنا نحن اليوم بالأوصياء على التاريخ كله، فثمة أجيال قادمة لابد لها من التعايش الحقيقي وبناء حياة المستقبل. ومهما بلغت درجات الغلو بنا اليوم، فلا يمكننا أبداً أن نصبغ حياة الطرف الآخر كلها بأسوأ الأوصاف، فهذا هو أقصى درجات السلبية وأقصى درجات التمرد الذي لا نتائج يمكن أن تجنى منه غير زرع الكراهية وتضخيم الأحقاد إلى الدرجة التي سيتأثر بها أبناء الأجيال القادمة.. ومهما بلغ حجم المثالب عند أقوام معينة، فإن فيها حجوماً أخرى من مظاهر الخير وزهرة الأعمال وطيب الأفعال وحسن المناقب التي لا يمكن نكرانها، وهذا ما يميز كل مجتمع من مجتمعات الدنيا قاطبة أو أي مجتمع في حياتنا العربية التي لا يمكن أبداً نكران انتمائنا التاريخي والاجتماعي لها حتى وإن غدونا أمماً وشعوباً وقبائل افترقت وضاعت بها السبل بعد تاريخ طويل من الشراكة والانسجام في مجالات لا حصر لها.
أين الحقائق ؟ أوهام أم أحلام ؟
عندما تربينا نحن أبناء جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتشبعنا إبان عقدي الخمسينيات والستينيات إلى حد غير معقول، بل إلى حد مهووس بالأفكار القومية إذ كانت العروبة بالنسبة لنا وللجيل الذي سبقنا مسألة حياة أو موت.. ولا يمكن لأي عاقل أن ينكر هذا ليس من خلال السياسات العربية وبياناتها، بل حتى في أناشيدنا المدرسية وتربيتنا البيتية، في سماعنا للأغاني الوطنية وترديدنا للأدبيات العربية ومشاهدتنا للأفلام والمسرحيات القادمة كلها من مصر.. وقراءتنا للروايات والقصص الفنية والتاريخية وإنصاتنا للإذاعات والخطب السياسية الرنانة.. وخصوصاً تلك المذاعة على موجات عدة، سياسياً وإعلامياً والتي لم تكتف باسمها فقط بل تضفى عليها صفة العروبة وتذيلها بالتمجيد والخلود وكل الأوصاف المقدّسة.. اليوم، نعيش مرحلة تاريخية صعبة جداً افترقت فيها التوجهات والسياسات وتصادمت فيها المصالح الذاتية.. وستطيب الأوضاع وتعدل المسارب بعد زمن عندما يشعر الفرقاء بأن من المصلحة المشتركة عدم التدخل في شئون الآخرين من طرف وعدم كيل الشتائم والسباب وكل البلايا من طرف آخر!
إن قراءتي التاريخية المتواضعة قد علمتني بأن العرب- مع احترامي لهم- عندما يتدخلون في أي حالة عربية قد دولت فليس من ورائهم إلا الإخفاق! ولم يزل العرب حتى هذه اللحظة لا يدركون إبعاد معضلاتهم وشأنها المعاصر وقضاياها المتعددة! فالشأن العربي اليوم له تعقيدات ضخمة، وأن الخطاب الثقافي ينبغي أن يعبّر عن واقع مرير سياسي وأمنى واجتماعي وله مخاطره وأن معضلاته الصعبة لها حساسيتها التاريخية والأمنية.. فليس من المنطق أن يأتي أي كاتب عربي ليوزع أحكامه الشخصية أو ليثير شعارات ونداءات أو ليتبنى مواقف وهتافات.. كلها ستؤثر كما هو حال بعض القنوات الفضائية العربية في ذلك الشأن العام! المطلوب من الإخوة العرب سواء كانوا مفكرين وأكاديميين وكتاباً ومثقفين أن يجلس أحدهم من وراء البراري والبحار ويكتب أفكاراً وتحليلات في الصحف والمجلات منطلقاً من مرجعيات الماضي، أو يتفلسف سياسياً على شاشات الفضائيات في شأن هذا أو ذاك، فهذا هو عين الخطأ وخصوصاً إذا ابتعد الكتاب العرب عن الأمانة والحيادية والموضوعية وعن النزاهة وعن الأفق الواسع!
ثنائية الأضداد فى كل مكان
إنني أصعق كل يوم، وأنا أتصفح ما ينشر في الصحف العربية، أو ما يذاع ويبث محلياً وفضائياً.. لترى سيل السباب والشتائم الرخيصة التي تنال من هذا الطرف أو ذاك.. والمشكلة أنهم ليس بمقدورهم أن يحققوا أغراضهم بوسائل سلمية وحوارية وحتى جدلية فى إطار الاختلاف السياسي والفكري.. وعليه، فإن هكذا اتهامات سوف تزيد من شروخ الثقافة العربية التي لها شراكتها المعنوية والقيمية والأخلاقية والتاريخية برغم كل التباينات والاختلافات.. ربما اهتزت قناعاتي بالفكر القومي العربي، ولكن ثوابت العروبة راسخة وعميقة الجذور عندي ولا يمكن أبداً تشويهها بمثل هذه الاتهامات التي ستفقدنا أصدقاءنا وأحباءنا كلهم.. فليس من المعقول أن أخلط الخبثاء بالطيبين، ولا الصادقين بالمنافقين، ولا العقلاء بالمجانين، ولا المخلصين الأوفياء بالغادرين التعساء.. لا يمكننا أن نعمم الأشياء، ونكتب هذيانا، ونقيم الدنيا ولا نقعدها بالسباب والشتائم المقذعة! من قال بمثل هذا المنهج وهذا التفكير؟ ربما كانت هناك أساليب لم نرض عنها منذ خمسين سنة وحتى اليوم تصدر من هذا الطرف أو ذاك سواء عن إعلام إذاعي، أو سياسات رسمية، أو خطط أمنية، أو ملاحقات مخابراتية.. فهل يمكننا أن نتخذ مواقف تعسفية من المجتمع كله؟ وربما كانت هناك بضعة مواقف سياسية معينة لهذا الطرف من ذاك.. أو إجراءات أمنية في مطارات هذا البلد، وموانئ تلك أو غير ذلك، ربما تجعلني أكفر حتى بعروبتي، ولكن ما ذنب المجتمعات العربية كاملة؟ وما ذنب كل مثقفيها ونخبها الذكية؟ وما ذنب الناس كل الناس في أعماق مدننا ومجتمعاتنا؟ لقد مررت بتجارب شتى مع إخوة عرب منذ أكثر من أربعين سنة، فكان منهم الصديق الصدوق الذي لا أنساه ولا يمكنني أن أنسى وقفاته الأصيلة معي في السراء والضراء، ولكن بالوقت نفسه، كان هناك الخصم اللدود الذي يحارب الأذكياء حتى في رزقهم.. ولكن كل هذا وذاك لا يقودني إلى أن أجعل من نفسي عدواً لبلد كامل مهما كانت المواقف السياسية لذلك البلد، وأنا أدرك تمام الإدراك أن في مجتمع من مجتمعاتنا الملايين من الطيبين والأوفياء الذين يعشقون هذا البلد أو ذاك أو أي بقعة أخرى من الأرض العربية.
من أجل قيم حضارية عليا!
ان القيم الحضارية العليا لا تمنعنا أو تمنع أي واحد منا في مجتمعاتنا أن يخالف الآخر وينتقده ويوضح له بعض هناته وأخطائه أو يقّوم له بعض وجهات نظره أو منهجه أو حتى طريقة تفكيره.. وسواء كانت الخلافات فكرية أم سياسية أم معلوماتية، فالأمر لا يمكن أن يفتح باباً واسعاً للقطيعة أو يؤسس مشروعاً بائساً للردح كما هي عادة السياسيين في مماحكاتهم وشتائمهم ومخاطباتهم.. ولقد وجدت هذا واكتشفته في السنوات الأخيرة، فتجد الأمر في ثقافتنا العربية وكأن النقد- كما يتصورونه- مشروعاً للهدم والانقسام لا طريقاً للتعايش والتفاهم، فليس من المعقول أن تبقى ثقافتنا العربية المعاصرة وريثة لعصر السكونيات والبلادة والتقاليد البالية فى مثل هذا المستوى من الاضمحلال والبذاءات.. لقد اكتشفت لأول مرة بأن لا فكر حضارياً ناضجاً يحكم العلاقات العربية النظيفة حتى بين المثقفين الذين يتبجحون بالتنوير والحرية والتقدم، بل هناك مجموعة سياسية ملغمة يحتويها هذا ضد الآخر، وكلها تتحدث عن القيم والأخلاق والأساليب الديمقراطية والتوجهات الحضارية!
وأخيراً: ما الذي يمكنني قوله؟
إن فسحة الحريات وهوامشها جمعاء لا تمنحنا الحق نحن العرب أبداً بالتطاول والشتم وكيل الأوصاف السيئة بحق شعب كامل أو مجتمع معين.. أو حتى بتيار أو فصيل أو نخبة كما اعتاد العرب ذلك في كتاباتهم وإذاعاتهم وخطاباتهم! فالأمر لا يحتاج في ثقافتنا العربية الحديثة إلى كل هذا التدافع وإلى كل هذه القطائع وإلى كل هذه الفظائع، فما يتصف به هذا من فضائل وحسنات ربما لا أمتلكها، وما لدى من مواصفات ومميزات ربما لا يمتلكها.. فعلام كل المشاحنات والإساءة والاحتداد؟ ولكن مع كل هذا وذاك أقول بأن من الشيم العربية القديمة: العفو عند المقدرة ومشروعات التسامح بعيداً عن الأحقاد والكراهية التي لن تجلب غير الفرقة والانقسامات والتناحرات والتي تزدحم كثيرًا في كتب التاريخ وهى تتحدث عن العرب شعوباً وقبائل وفصائل.. فهل سيبقى العرب على حالهم منذ ولدوا على وجه هذه الأرض حتى اليوم، أم سترتقي بهم التجارب المريرة والاجتهادات الناصعة إلى مصاف الحياة الجديدة؟ إن أوضاعهم اليوم لا تنم عن أي قطائع بينهم وبين تقاليدهم وعاداتهم.
ولا أعتقد بأن التجارب سترتقي بهم إلى مصاف الرقى ماداموا يصرون على الخطأ ويدافعون عن الجلادين ويمنون أنفسهم بالأوهام، ولم يتخلص أكثريتهم من المازوشية وشتم الآخر والنرجسية وتأليه الذات والاستبداد بالرأي والبحث عن المصالح الخاصة واستعراض العضلات بإيهام الناس عن التنوير والحرية والتقدم، إنها دعوة صريحة من أجل تصفية القلوب والاستماع للنقد ومكاشفة الحقائق وإيقاف الشتائم والسباب.. إن مجتمعاتنا لابد أن تأخذ دورها الحقيقي في العالم المعاصر ويكفيها خمولاً وضياعاً.. فهل ستتغير الصورة كاملة على امتداد ثلاثين سنة قادمة؟ وهل ستتخلص مجتمعاتنا قاطبة من كل الترسبات القديمة؟ نأمل بحدوث ثورة في التحولات نحو الأفضل.؟
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4269 – السبت الموافق – 3 أبريل 2010
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …