إن أساليب الردح والشتائم تثير السخط ، وتأخذ لها طابع التناقضات الصارخة ، وتأجيج الاحتدام بين أهل البلاد ! والمثير حقا أن تجد بعض السياسيين يؤمنون بالتقدمية والديمقراطية والتمدن ، ليصبحوا اليوم ليس أبواقا لهذا أو ذاك ، بل غدوا مادة سهلة للاستلاب السياسي وهم يهرجون مع المهرجين ويرقصون مع الراقصين في عرس مجنون .. وكم كنت أود أن أجد هؤلاء يترفعون عن الابتذال السياسي وعن- الأساليب الوضيعة التي يمارسها المتخاصمون على حلبة الصراع .. لم نجد مفكرا أو شاعرا أو أديبا أو عالما متخصصا .. في كل تجارب العالم الديمقراطية ، يمارس مثل هذا العهر الذي يمارسه بعض المثقفين العراقيين ، وهم يعتقدون أنهم يمارسون دورهم في بناء العملية السياسية ، في حين أنهم كانوا وما زالوا وراء كل الخراب الحاصل ، بسبب ما ينشرونه ولما يتلفظون به ولما يحلمون بحصوله .. إنهم يعبّرون فعلا عن سوء ما تربوا عليه من أحقاد ، وهم لا ينظرون إلى الواقع بمنظار الوطن الكبير الذي يستوعب الجميع بلا أي نعرات طائفية ، ولا أي جنايات شوفينية ، أو تعصبات قومية ، أو صراعات الأغلبية والأقليات ..
إن العراقيين بحاجة إلى الحوار البناء لا إلى لغة الشوارع .. إنهم بحاجة إلى الهدوء والسكينة في معالجة شؤونهم لا إلى تأجيج الأحقاد وزرع عوامل الفتنة .. إنهم بحاجة للوصول إلى حدود دنيا من قبول احدهم الآخر ، قبل أن يعيشوا الحريق والصراع وتكريس الانقسامات بحدودها العليا التي وجدنا كم نتائجها مريرة وثمارها متعفنة .. ليعرف كل عراقي أن ليس في استطاعته أن يقتلع العراقي الآخر من مكانه ومن وجوده .. ليعرف كل عراقي حجمه عندما يخاطب العراقي الآخر .. ليعرف أن العراق ليس له وحده ، بل لكل العراقيين .. ليدرك القادة العراقيون الجدد أن ما يزرعونه من أعمال ، وما يحققون من أفكار ومشروعات .. هي التي تخدمهم ، ولن يخدمهم المهرجون والشتامون واللكامة والمتربصون والمتذللون .. وأقول لبعض المثقفين والكتاب المعروفين ، كونوا اكبر من هذه الأساليب التي تمارسونها .. كونوا اكبر من الميادين التي تتبضعون منها .. كونوا اكبر من هؤلاء الذين تدافعون عنهم واكبر من الذين تنالون منهم .. كونوا حياديين وتعلموا برغم شيخوخة أغلبكم ، كيف يكون كل العراقيين في عقولكم وضمائركم .. وينبغي عليكم أن لا تقدحوا في أسماء معينة وتمجدوا أسماء آخرى .. فمن الأشياء التي تسيئون بها إلى أنفسكم وتواريخكم الشخصية ، تصفيقكم لهذا وشتمكم لذاك .. اكتبوا ولكن بلا تشهير .. اكتبوا ولكن بلا تشخيص .. اكتبوا ، فان اختلفتم مع هذا أو اتفقتم مع ذاك ، فقدموا البدائل ، وعالجوا الأفكار ، وقدموا المقترحات .. ودعوا الأجيال تتعلم منكم لغة الحوار الهادئ ، دون أن تجعلوا ألسنتكم أو أقلامكم سكاكين ومباضع للموت وكأننا في مجزرة مليئة بالقصابين .
نشرت في جريدة البيان الاماراتية ، 17 آذار / مارس 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com