كان الكثير من العراقيين قد صفقوا لتجربة انتخابات 2005، كونها ستنقذهم على مدى أربع سنوات مما كانوا عليه، ودوما ما يكون الأمل، أو حتى الحلم، سباقا كي يفرض نفسه على الواقع. ومرت أربع سنوات صعبة على العراقيين بكل المقاييس، إذ لا يمكن للإنسان أبداً مهما بلغت به السذاجة، أن يصفق لواقع يحكمه الانقسام، وتتنازعه الفوضى، وتسيره الإرادات الخارجية.
لقد كانت تجربة العراقيين مريرة جدا، سواء في ظل سلطة تشريعية يمثلها برلمان ضم نوابا اتهم بعضهم بالإرهاب، وبعضهم بانعدام الأهلية والكفاءة أبدا، ولم تأت غالبيتهم إليه، إلا من أجل النفوذ والمال والمنافع الشخصية.. أما السلطة التنفيذية التي انبثقت بعد تلك الانتخابات، فكانت ممثلة لأحزاب منقسمة على نفسها وتحكمها النزعة الطائفية والجهوية، من دون أي مشروعات وطنية!
وكم أمل الناس خيراً في إجراء إصلاحات دستورية، وتغييرات سياسية، وتصويبات لأخطاء لا تغتفر من الناحية الأمنية، إلا أن الفشل قد رافق تلك التجربة، ولم تكن ناجحة بأي مقياس من المقاييس. ليس في إنقاذ العراق من ورطاته الكبرى التي خلقتها عوامل داخلية وإقليمية وخارجية، بل في التخفيف من مشكلاته الصعبة، سواء الموروثة منها لما قبل عام 2003، أو المستجدة لما حصل بعد ذلك!
إن كل ما تحقق من إيجابيات يدّعي حصولها بعض المنتفعين أو بعض الساذجين، لا يمكنها أن توازى بحجم المثالب والسلبيات التي يعيشها العراق. من قال إن الإرهاب قد ذهب من دون رجعة، وسلاسل التفجيرات والقتل والذبح لم تزل شاخصة حتى الآن؟ من قال إن الحكومة العراقية قد عالجت الفساد المستشري في كل مفاصل العراق؟ بل وإنها كانت هي نفسها تحارب كل من يحاول نقد الفساد والفاسدين..
إن الفساد السياسي والامني والإداري والاقتصادي والمالي، قد وصل حتى النخاع من دون أن يعترف به المسؤولون عن البلاد! ماذا فعلت الحكومة العراقية من إصلاحات في الخدمات العامة التي لم تزل بائسة جدا، وهي غارقة بأعلى الإيرادات التي وصلت الخزينة على مدى أربع سنوات مضت. من دون أن يحاسبها أحد حتى الآن؟ أين ذهبت وارادات العراق النفطية الهائلة؟ إذا كانت الحكومة محاربة وغير مقبولة عربيا وإقليميا، فهل لكونها منتخبة من شعب العراق أم أنها غير مؤهلة للتعامل مع كل الأطراف؟
اليوم يقال إن العراق على مفترق طرق صعبة، كما قيل كذلك قبل أربع سنوات مضت.. واليوم، ربما تكون المعادلة قد تغّيرت قليلًا عما كانت عليه وقتذاك، ليس بتغيير الرؤية والمناهج والمشروعات التي طالب بها الوطنيون المستقلون، وليس بتغيّر الوجوه والأحزاب والتشكيلات، فهي كلها تعبير واضح عما كانت عليه الحال قبل أربع سنوات.. ولكن بالتعويل على أبناء الشعب العراقي، الذين ربما تغّيرت رؤيتهم عما كانوا عليه من اندفاع قبل أربع سنوات! التعويل على إرادة جديدة لعراقيين لا يمكن أن تشتريهم من خلال ولائم، ولا من خلال توزيع هدايا، ولا من خلال ترهيب ديني، ولا من خلال عمى طائفي.. عراقيون يدركون جيدا أن أغلب المرشحين لهم طموحاتهم في السلطة والنفوذ والمنافع الخاصة، ولكنهم ربما يحددون اختياراتهم لمن هو أكثر قدرة من غيره على خدمتهم وخدمة العراق.. عراقيون يعرفون جيدا أن حملات انتخابية وبرامج دعائية تنفق عليها الملايين من هنا أو هناك لا تعرف مصادرها، ولكنهم يدركون أن البعض من المرشحين لم يزل نظيفا حتى اليوم.. عراقيون يعلمون جيدا سر اللعبة التي يلعبها كل من يسعى للسلطة بأي ثمن كان، ولكنهم ربما باستطاعتهم أن يقولوا كلمتهم من دون أي خوف أو وجل.. عراقيون يؤمنون بأن إرادتهم المثلومة ربما سينالها تزوير هذا الطرف أو ذاك، ولكن عليهم أن يكونوا أوفياء لوطن ذبحه الأشقياء..
عراقيون يكتشفون مع الأيام، كيف خدعوا لأول مرة باسم الطائفية والانقسامية والتخندقات والميليشيات والإرهاب.. وهم اليوم أكثر حرية في أن يكونوا الأساس في إنقاذ العراق لأربع سنوات أخرى.. عراقيون يميزون اليوم تماما بين المرشحين جميعا، وخصوصا المعروفين منهم، وكم قدّم كل واحد منهم للعراق والعراقيين.. فلا يمكن أن يلدغوا من جحورهم مرتين!
عراقيون يفهمون اليوم كيف مّرت عليهم قبل أربع سنوات شعارات طائفية، ومؤامرات تقسيمية، ونزعات حزبية، وأفكار شوفينية.. فهل لهم اليوم منظار أوسع على فهم الأمور! عراقيون عاشوا حربا أهلية قاسية أثارتها سياسات داخلية وإقليمية وخارجية.. وهم اقدر اليوم على تمييز ما جرى، ويدركون من الذي ساهم في قتل أبنائهم، وتحطيم عاصمتهم، وإشعال مدنهم، وتخريب اقتصادهم.. عراقيون اكتشفوا أسرار الفجائع التي قامت بها أحزاب دينية أو طائفية أو شوفينية.. وهم ينشدون اليوم حكما لا يمثله رجال دين، ولا متعصبون طائفيون، ولا قتلة مارقون.. عراقيون لم يعد بمقدورهم تحّمل عصف الخراب، وحرائق الحروب، وفجائع الإرهاب، وشناعة الفصل الطائفي والعنصري، وتدخلات الآخرين في شؤونهم.. وطغيان الفساد، ومأساة الاحتلال على أرضيهم، مهما كانت طبيعة ذلك الاحتلال دوليا أم إقليميا..
عليهم أن يعيدوا التفكير وهم يهرعون قريبا إلى صناديق الاقتراع ليختاروا ممثليهم في مجلس للنواب.. وأن تنبثق حكومة قادرة على تنفيذ مصالحهم والحفاظ على أموالهم وتطوير بلادهم.. إن العراقيين اليوم، لا أقول عند مفترق طرق، بل عليهم إشعال شمعة يمكنها أن تضيء الظلام.. وربما سيقف كل العالم على مفاجأة عراقية من نوع جديد!
نشرت في البيان الامارتية ، 3 آذار / مارس 2020، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …