نشر هنري كيسنجر مقالته الأخيرة يوم الأربعاء 3 فبراير 2010 في صحيفة الواشنطن بوست ، وهو يطالب الرئيس اوباما بالتركيز على السياسة بدل الانسحاب . وكيسنجر كان ولم يزل خبيرا في الشؤون الخارجية ، ثم وزيرا للخارجية الأمريكية 1973- 1977 على عهد الرئيس نيكسون ، وقد تمّكن من معرفة دول منطقة الشرق الأوسط كمهندس سياسات ، وخبير جيوستراتيجيات ، وأستاذ تنظير الرؤية المستقبلية لها . انه اليوم ينتقد السياسة الأميركية لأوباما بصدد الانسحاب العسكري من العراق ، ويعتبره لا يفقه شيئا في الأهمية الجيوستراتيجية للعراق ، كونه لم يقّدم شيئا قويا ، كلاعب رئيسي في المنطقة لما بعد الانسحاب ! وان خطابه الرسمي الطويل الممل على مدى 71 دقيقة ، لم يحمل شيئا مهما عن العراق الذي ذكره أكثر من مائة مرة ، وهو يعكس تراجع إدارته عن شأن العراق ، ومستقبلها معه وطبيعة علاقتها به .. ويستفهم كيسنجر عن ” استبعاد العراق عن مناقشاتنا ، فان حقيقته ما برحت تقتحم وعينا ” ، كما يقول .
قرع كيسنجر اليوم ناقوسا كان قد قرعه من قبله بعض المختصين المستقلين الوطنيين العراقيين ، فالانسحاب الأميركي سوف لن يغّير من جيوستراتيجية العراق حتى مع تغيّر السياقات ، ويستطرد بالقول أن العراق ، وهو ميزوبوتيميا ، أي بلاد ما بين النهرين ، له موقع استراتيجي مركزي لكل المنطقة منذ آلاف السنين ، وان مصادر ثرواته لها تأثير بالغ على بلدان بعيدة .. ويضيف بأن التقسيم بين العالمين السّني والشيعي يمر عبر العراق ـ حسب تعبيره ـ ، وهو خط ليس مرسوما في الهواء ، وإنما موجود الآن حي يرزق على الأرض ، بل وان بغداد اليوم تمّثل مركزية ثقله ، بمعنى أنها الفاصلة بين عالمين اثنين . أما المحافظات الكردية في شمال العراق التي تنعم باستقرار نسبي ، فان اضطرابها هو انعكاس لوجودها بين تركيا وإيران ، وهما خصمان لدودان يتنافسان منذ القدم على العراق . وعليه ، فان من الغباء إبقاء العراق في حالة فراغ أمام عدة صراعات مصيرية ! وينبه كيسنجر عن عدم احتمالية جعل العراق ينعزل عن حقيقة الصراع الذي يمتد بواسطة ما اسماه بـ ” جهاد الثورة الدينية ” !
وفي رأيه ، فان الحسم سيكون في العراق ، وسيتأثر التوازن السايكلوجي في الحرب المعلنة ضد الإسلام الثوري ـ حسب تعبيره ـ ، خصوصا عندما يسود الاعتقاد بأن الانسحاب الأميركي من العراق هو التراجع الأميركي عن كل المنطقة وعدم تحمّل أعبائها ! إن العراق اليوم ، لم يعد مادة حية للنقاشات السياسية الأميركية . وفي الوقت نفسه ، هناك اهتمام ميداني ببلدان أخرى تعيش ظروفا حرجة باستثناء العراق. ويرى كيسنجر إن تطور العراق سوف يساعد في تحديد علاقة أميركا بالتيارات التي ستحكم المنطقة مستقبلا . وهنا ، ينبغي على إدارة أوباما أن تعيد استكشاف طريقها ، لجعل العراق يستمر في لعب دور مهم في الإستراتيجية الأميركية. ليس من الضروري قيام المسؤولين الأميريكيين الكبار بزيارات قصيرة إليه ، ولكنهم عمليا بحاجة إلى مفهوم استراتيجي لكل المنطقة ، فهي مهمة جدا ، ولكن يهددها الشبح الإيراني بشكل متزايد !
يطرح كيسنجر حلوله ، إذ يطالب ببناء ” توازن في العراق إزاء إيران ” ، مؤكدا ان إعادة حقائقه الجيوبوليتكية تمّر من خلال توازنه الداخلي بين أبناء مكوناته من دون هيمنة طرف على طرف آخر . إذ تلك الهيمنة خلقت اضطراب التوازن مع إيران ، وخصوصا من قبل أصحاب العلاقة القديمة معها ، وهم يحكمون اليوم بديمقراطية جزئية على حد قوله ! إن ” تراصفهم مع طهران ضد الداخل ، سينتج عنه تحول جذري في ميزان المنطقة ، نكون نحن الاميركان وراء حصوله ” . ويعتقد كيسنجر أن تلك الحصيلة التي ستحدث في العراق ، ” ستؤثر عميقا على منطقة الخليج .. فضلا عن لبنان الذي تعشش فيه دولة ممّولة إيرانيا في داخل دولة ” ! هنا ، يدعو كيسنجر الولايات المتحدة، أن يكون لها دور مهم في إحداث تطوّر معتدل ، وخلق توازن سياسي محلي وخارجي في العراق .. مشّددا على إن إدارة أوباما مشلولة في مسالة التفاوض مع إيران لاحتواء انتشار الأسلحة النووية. كما يعالج كيسنجر هذه القضية بإيجاد حلول لها ، سواء بالدبلوماسية أو بـتطورات أخرى .
إن استقرار المنطقة، سوف يتأثر بشكل حاسم من خلال القدرة على إحداث توازن استراتيجي بين إيران والعراق. ومن دون هذا التدبير، فإن المنطقة تندفع الآن نحو مخاطر غير محدّدة، لأنها تقع فوق كومة متفجرات يمكن أن تحولها إلى مصهر لإشعال الحرائق. وأضاف قائلاً: إن التعابير الرسمية الأساسية للإدارة الأميركية تتعلق تقريباً بالقلق النسبي من الانسحاب. وقال إن ” أميركا تحتاج إلى أن تبقى لاعباً دبلوماسياً فعالاً. وحضورها يجب أن يفهم على أنه ذو غرض لما بعد الانسحاب ” . ويختتم كيسنجر مقالته قائلا بأن ” تعبير الالتزام السياسي بشأن المنطقة مطلوب. وفي تنفيذ إستراتيجية الخروج من العراق، ويجب أن نتأكد أن الإستراتيجية ستبقى مرتبطة بالخروج! وأخيرا أسأل كيسنجر : هل باستطاعة أميركا الانسحاب من العراق من دون إستراتيجية تبقي العراق مرتبطا بها ؟ ولكن السؤال : ما طبيعة تلك ” الإستراتيجية ” عندما تتحفز إيران لملأ الفراغ ؟ وما علاقة ذلك بالإستراتيجية الأميركية في أفغانستان ؟ ولماذا لم تحسن خلق بدائل أخرى في كل من العراق وأفغانستان وما بينهما إيران ؟ صحيح أن المنطقة فوق كومة من المتفجرات ، ولكن من صنع ذلك كله يا كيسنجر منذ أن كنت احد صناع الاستراتيجيات الأميركية وواحدا من صناع القرار حتى يومنا هذا ؟!
نشرت في البيان الاماراتية ، 24 فبراير 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …