الحلقة 29
الغيبوبة العربية عن المشهد الدولي
بين الذات والهوية
تقول مستطردا: “وأنا هنا ما بتكلمش علي بلد عربي بالذات أنا بتكلم علي العالم العربي كله وعندما أقصد بلد محدد بالذات أقدر أتكلم عليه لكن مش عاوز حد يتصور ولأسباب منطقية جدا بأني.. لأني بتكلم من مصر يبقي كلامي كله بالدرجة الأولي مُنصب إلي مصر، أنا بأتكلم أنا قلت المرة الماضية إن أنا قومي عربي باتكلم عن الأمة العربية وباتكلم للأمة العربية وأنا يمكن حد يقول إنه العصر مبقاش عصر لا وطنيات ولا عصر قوميات وإنه اللي بيتكلموا وطنية أو قومية متخلفين (Alright) أنا معترف قد أكون متخلف وأنا معنديش اعتراض علي هذا..” (نص هيكل).
أستطيع القول، وأنا واثق مما أقول، أن هيكل من أبعد الناس عن فكرة القومية العربية ومن ابعد الناس عن فكرة الوطنية المصرية.. فالرجل من أقرب الناس إلي فكرة الذات.. ذات هيكل نفسه والتي تتعاظم نرجسيتها إلي حد القداسة. لم تتكلم يوما بمنطق قومي أبداً، إلا علي عهد الرئيس عبد الناصر لضرورات انت تعرفها! أما وقد فحصنا كتبك وأحاديثك التي جاءت بعد العهد الناصري، فلم نجد ما يميزك قوميا.. إنك دوما ما تتكلم عن حالات معينة لهذا البلد أو ذاك، أو هذا الحاكم أو ذاك.. صحيح أن جل ما تدور حوله هو مصر، ولكن بدوافع لا تتسق مع كل أبناء مصر تاريخا وكيانا ووجودا.. إنك مع مصر لمرحلة أو عهد سياسي معين، ولكنك ضد تاريخها الحديث لرفضك إياه جملة وتفصيلا! وأستطيع القول إنك قد ضيعت المشيتين، فلا أنت بقومي عربي، ولا بوطني مصري.. إنك تسكن مصر، ولكن لم تكن يوما مع تطلعات شعبها، ولم تقدم يوما شيئا له خصائصه عن المجتمع المصري.. لقد شغلتك الدولة المصرية عن المجتمع المصري، وشغلك نظام الحكم عن نسيج أوضاعها التي تردت منذ خمسين سنة.. إنك دوما تتطلع بعد أن يأخذك خيالك كي تكون سيدا لمصر ولا غير مصر.. إنك لم تعلن يوما عواطفك القومية مع أي جرح عربي ينزف، وإن حكيت شيئا، فمن اجل هدف سياسي معين! بل أجدك تعلن شماتتك بالآخرين سواء في حروبهم أو في لهيب الفتن التي يعيشونها..
أين أنت من التكوين القومي؟
إنك لم تتكلم في يوم من الأيام عن بنية عربية مجسمة، ولكنك تطرق في كل حين باب دولة معينة لتنال منها، أو أن ثمة دولا عربية تؤرقك دوما، فكثيرا ما تجعلها مادة دسمة كي تستلب منها تاريخها، وتشوه أبعاد منجزاتها.. إنك قليلا ما تردد مصطلح (الأمة العربية)، فلا تزايد علينا هنا أو هناك! وردا عليك، أسألك: من قال لك إن من يتكلم بالوطنية والقومية هو من المتخلفين؟ ما هذا “التوصيف” الذي لا يستقيم أبدا مع طبيعة الأشياء؟ إذا كان المد القومي العربي قد انحسر منذ ثلاثين سنة، بفعل الهجمة الدينية والطائفية، فليس معني ذلك أن الأوطان قد ماتت، ولا النزعة الوطنية غدت متخلفة؟ لماذا تعترف بأنك متخلف؟ ولماذا لا تعترض علي هذا التوصيف السقيم؟ لماذا لا تقدم أي اعتراض؟ بمعني أنك قد آمنت بما آمن به السفهاء والجهلة الذين لم يعودوا يؤمنون بالأوطان وبالتراب.. وقد هرعوا إلي انتماءات لا أول لها ولا آخر! هل أصبحت أنت أيضا تضحك على الموسيقار سيد مكاوي وهو ينشد: الأرض بتتكلم عربي؟
لا اعتراض عليك يا هيكل إن تكلمت عن العالم العربي، أو عن مصر، أو عن أي بلد عربي.. الخلاف ليس هنا، ولكن الخلاف ينصب علي مصداقية ما تقول، وأيضا علي افتقاد المنهج وبالتالي افتقاد السياق الذي يضر بالمعاني أو يهشم المعاني أو يضيعها.. إن اعتراضنا علي عدم استقرارك في موضوع معين بكل جوانبه.. وانت القادر علي أن تبقي نفسك داخل أي سياق، بدليل إن اخترت أحدا ليكون مادة شخصية لك، فإن باستطاعتك أن ترفعه إلي السماء أو أن تنزله إلي الدرك الأسفل.. أن كلا منهما باستطاعتك أن تتلاعب بأخبارك عنهما من دون أن نقف علي أي معلومات دقيقة ومن دون وجه حق أبدا. وسنري أنك غير مستقر علي ادعائك الكلام عن العالم العربي، فسرعان ما تذهب هنا أو تشرد هناك، ثم تعود إلي مصر في نهاية المطاف. إن مصر حاضنتك الاولي والأخيرة، وانا واثق أن هيكل يعيش مع مصر، فهو ابن حقيقي لمصر، ولكن في إطار افكار تسيطر عليه منذ بداياته الاولي، ولا يستطيع التحرر منها ابدا! إن هيكل مشوش التفكير دوما، فهو يترفع، كما هو واضح، عن القومية العربية.. وهو ينال من مصر دوما إن استطاع دون أن يفصل العامل الشخصي عن الموضوعي أبدا.. إنه غير مستقر علي ذوات وشواهد معينة، ودوما ما تكون أجنبية وغير مصرية أو عربية أبدا.. إذ إن انعدام استقراره يجعله يستدعي ذاته مرات ومرات.. ويدخل نفسه في الموضوع، وكأنه مشارك في صنع حدث أو شاهد علي حدث لم يشهده.. وإن شهده، فليس من العقل أن يشارك فيه!
العرب لم يعودوا لاعبين سياسيين في العالم
يقول هيكل: “أنا وعدد من الدبلوماسيين العرب سمعوا مسئول كبير في الأمم المتحدة بيقول لنا ببساطة كده إن العرب لم يعودوا لاعبين سياسيين في العالم ولا في منطقتهم لا علي المستوي الفردي ولا علي المستوي الجماعي، وأنا مش عايز أسمي أسماء لكي لا أحرج أحد أنا باخد مسئولية ما أقول لكنني لا أحمله للآخرين..” (نص هيكل).
أسألك: هل قال هذا المسئول الكبير في الأمم المتحدة شيئا نادرا لم يعرفه الجميع؟ إذا كنت أنت قد سمعته، فمن هم بقية الدبلوماسيين العرب الذين سمعوا مثل هذا الأمر الخطير؟ وهل هو أمر خطير إلي درجة تجعلك مش عايز تذكر أي اسم من الأسماء؟ وسواء ذكرت أم شخصت، فهل هذا الأمر سيكون مثار إحراج لأحد؟ ما معني أنك تأخذ بمسئولية ما تقول، ولكنك لا تحمله للآخرين؟ إذن، ما معني ما تتحدث عنه؟ وما معني أن تتحدث في هذا الموضوع؟ وهل أن غيبوية العرب عن الساحة السياسية الدولية مسئولية فلان أو علان.. أم أنه مسئولية المنظومة العربية قاطبة، لكي تنهار بالشكل الذي هي عليه الآن؟ وتعال يا هيكل لأسألك سؤالاً واحداً: متى نجح العرب في استقطاب العالم.. وإذا كان العرب قد عرفوا كيف يلعبون في السياسة إبان النصف الأول من القرن العشرين مقارنة بمن أتي ليحكم ويتسلط في النصف الثاني منه! فإن العرب لم يستقطبوا العالم معهم في أية لحظة تاريخية علي امتداد مائة سنة مرت!
مسألة الإصلاح
يقول هيكل مستطردا: “القضية المهمة إنه بسبب عجزنا عن الإصلاح وبسبب عجزنا عن إن إحنا نلحق بالعالم أو حتي نبص لعيوبنا ونقدرها ونحاول أن نسبق إحنا محدش قرأ بالقدر الكافي بيان الثمانية هذا البيان طلع ومعه ملحقاته، الحاجة الخطيرة أو اللي أنا مش يعني بأستغرب عليها إنه هذا البيان بيحدد مسئوليات محددة يسندها إلي بلاد غربية معينة بمعني إنه هذا البيان وأنا يعني هنا مضطر أقول إنه علي سبيل المثال يتكلموا علي البيان نص البيان بيتكلم علي ضرورة إصلاح كل إيه؟ بيتكلم علي ضرورة الإصلاح البرلماني والحزبي القانوني والقضائي التعليمي والإعلامي حقوق الإنسان وحقوق المرأة الإذاعة والتليفزيون وكل اللي إحنا عاوزينه طيب مش بس كده لو إنه بيقول والله ده كله محتاج لإصلاح كنت فهمت لكن هو يسند مسئوليات معينة إلي دول معينة بالذات يعني معني بيقول إيه مثلا بيقول إنه والله فرنسا هتتولي الإشراف علي الإصلاح الإداري والقضائي في سوريا إنه إيطاليا مسئولة عن النظام القضائي في أفغانستان إنه إنجلترا هتشوف جرائم العنف وجرائم في الشرف في الأردن إن إنجلترا هتشوف الإعلام العربي وإنها هتكلف الـ(BBC) في الجامعات العربية إنها تعمل برامج شبه أكاديمية لإعادة تدريب إعلاميين عرب، ألمانيا هتعمل مسئوليات اليابان هتاخد مسئوليات محددة وهكذا قُسِم العالم العربي والاختصاصات الداخلية فيه الإصلاح علي الدول واحدة واحدة باختصاص معين، لما الـ (BBC ) خدت الإعلام أنا فوجئت بإنه مش فوجئت يعني واحد صحفي مصري مهم ونقابي كلمني في التليفون إمبارح وبيقول لي الـ(BBC) هتعمل برنامج كبير قوي لتدريب الصحفيين في العالم العربي وعلي فكرة أنا بأقدر الدور اللي بتعمله (BBC) ولو إني عندي تحفظات علي الجهات التي تقف وراءها وده مش عيب يعني.. لأنه الدول مش مؤسسات خيرية الدول مؤسسات مصالح يعني فبيقول لي إنه الـ (BBC) هتعمل برنامج إعادة تدريب وأنا شايف إيه اللي حاصل متابع إيه اللي جاري وهم بيسألوا إذا كان ممكن حضرتك تفتتح هذا الموسم قلت له أنا مع الأسف الشديد لا أستطيع وشرحت له أسبابي لكن إحنا حتي مش بس هم بيكلَّفوا دول أخري بتُكلَّف بمهام محددة لإصلاح عالمنا ولكنه هناك أيضا رغبة في الاستعانة بمن يقدر منا إنه يوظَّف في هذه المسائل” (انتهي النص).
بيان الثمانية
هل يتصور هيكل أنه الوحيد المتابع لما يجري في العالم؟ لقد تابعنا ما تضمنه بيان الثمانية ما بين 8 ـ 10 يونيو 2004، وكان يعني بحد ذاته استجابة لدعوة الرئيس الأمريكي جورج بوش، حين عقدت قمة الدول الصناعية الثماني، وكان موضوع الإصلاح ضمن جدول للأعمال، ولكن ليس أساسيا أو رئيسيا فيه لما يعانيه الواقع العربي، ولكنه أخذ حيزا مهما علي جدول أعمال القمة. ولقد انتهي مؤتمر القمة إلي صياغة تقرير حول خطة “إصلاح” أوضاع الأنظمة والشعوب ومشكلات الثقافة العربية الإسلامية، بما يؤمن الظروف الملائمة للتغيير.
السؤال: هل كان ذلك لمصلحة مجتمعاتنا ودولنا؟ أم كان من اجل مصالح الحياة البشرية في العالم المتغير كله؟ أم جاء ذلك من اجل مصالح أو بالأحرى تأمين وتمكين مصالح الدول الثماني في منطقتنا عموما؟ أم انه قد جاء استجابة للحد من المخاطر المحتملة التي تجدها هذه الدول الثماني انها ستأتي علي أيدي عناصر وقوي عربية وإسلامية؟ لقد عالج بعض الكتاب والمتابعين والمحللين العرب وغير العرب هذه المضامين.. تلك المعالجات التي لم يطلع ــ حسب زعمي ــ عليها الأستاذ هيكل، والا ما معني قوله ” محدش قرأ بالقدر الكافي؟ وهل هو نفسه قد قرأها بالقدر الكافي مقارنة بقراءة الأستاذ عوني فرسخ في مقالته “إستراتيجية الهيمنة من بنرمان إلي بوش”؟ إن الرجل قد أشبع الموضوع درسا ومقارنة وخرج بنتائج ممتازة، وكان له موقفه الصريح في هذا “الموضوع”.. ولا نعرف بعد إعادة قراءتنا لهيكل في النص اعلاه: هل هو موافق علي ذلك أم مخالف له؟ ما الذي يريد قوله؟ من هذا الذي كلمك في التليفون من الـ»بي بي سي« وهو مهم ونقابي؟ وماذا قال لك؟ لم أجد أي توضيحات بشأن ما تقول! انت تقدّر الدور الذي ستقوم به الـ»بي بي سي« ولكن لماذا حوّلت الموضوع كله إلي ذاتك الشخصية، كونهم قد سألوا حضرتك أن تفتتح هذا البرنامج.. وانت قد تعززت وتمنعت وشرحت لهم أسبابك! طيب اذا كنت قد وافقت وقدرت الدور الذي ستلعبه الـ»بي بي سي« في إصلاح الاعلام العربي.. فلماذا تقول إن لك اسبابك في عدم افتتاحك للبرنامج؟ كنت أتمني عليك ألا تقحم نفسك في موضوع تطرقت إليه، ولكنك لم تعالجه معالجة صريحة كما عالجه غيرك من الكتاب العرب.. كان عليك أن تقول من هو الذي كلمك في التليفون.. ومن هو الذي دعاك.. إن صناعة الأخيلة وترجمتها وتسويقها علي الناس شيء.. وأن مبدأ الصراحة واقرار موقف من هذا “الموضوع” شيء آخر! وهل تعتقد أن مشروع الاصلاح الذي تبناه مؤتمر قمة الثماني كان حقيقيا وأنت الذي اجهضته.. أم انه كان ضمن حملة أمريكية قادها الرئيس جورج بوش الابن من أجل اهداف إعلامية.. لا اساس لها من الصحة؟ ومن مصائب القدر أن الذي تقوله وتحكي فيه تتناساه أو تنسي أنك قلته بعد زمن قصير، كون ما تقوله لا أساس له من الصحة. وأخيرا، إذا كان المشروع جادا علي أيدي الدول الثماني.. فلماذا أصبح في خبر كان اليوم؟
مصر.. مرة أخرى
نتابع هيكل الذي وعدنا بأنه سيتكلم عن كل المنطقة، وليس عن مصر بالتحديد.. نجده ينتهز الفرصة ليعبر عن رأيه في أوضاع مصر، أنه ينتقل من موضوع عام إلي موضوع خاص عن غزة واعمار غزة، وينتقد الدور المصري انتقادا شديدا كونه دوراً أمنياً وليس دور اعمار، وهو يقول بعد أن يسهب بكلامه: “طيب إذا كان لم نعد لاعبين في المنطقة وإذا كانت أدوارنا أدوار أمنية وعلي فكرة غزة مهياش موضوع جديد أنا قبل كده من سنوات طويلة نسبت للرئيس ميتران وهو صحيح إنه رابين قال له مرة إنه كل ليلة بيحلم بغزة لما كان رابين رئيس وزراء يعني وإنه يتمني يحلم ويمكن بالتمني إنه قطاع غزة كله غرق في البحر بكل من فيه عشان يخلصه لكن بيصحي الصبح يلاقي قطاع غزة لا يزال في مكانه لا غرق ولا الناس اللي فيه اختفوا في البحر..” (نص هيكل).
بالرغم من إنه لا معرفة كبيرة لي حول هذا “الموضوع”، ولكن ماذا كان هيكل سيفعل لو كان رجلا مسئولا؟ وأي دور سيقوم به؟ وما هي الافكار الجديدة التي يحملها كي يكون القادة العرب من أمهر اللاعبين في المنطقة؟ طيب، وإذا كان الرجل يحمل هكذا فكرة نقلا عن الرئيس ميتران.. فما الذي ينفعنا من هذا القول؟ وهل باستطاعة رابين أو غير رابين أن يخفوا قطاع غزة وكل أهلها بين طيات البحر.
نشرت على جريدة روز اليوسف المصرية ،العدد 1408 – الخميس – 11 فبراير 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وأيضا على صفحة تجمع الدكتور سيار الجميل
http://www.facebook.com/group.php?sid=ef680591def239dac31065b4f16482c3&gid=48810538237
ملاحظة : لا يسمح بإعادة النشر تحريريا أو الكترونيا ، إلا بترخيص خطي من المؤلف والناشر .
الحلقة 30
اللحظــات الفـارقـة
يبدأ هيكل موضوعه بقوله “إحنا فات علينا في العصر الحديث في واقع الأمر ثلاث لحظات فارقة كان ممكن فيها الأمة تعمل اللي تعمله..” (النص).. فماذا أقول؟
يصنّف هيكل اللحظات التاريخية الثلاث في تاريخ الشرق الأوسط إبان القرن العشرين بكل ما نتج ما بعد الحرب العالمية الأولي وهي اللحظة الأولي، ثم ما نتج ما بعد الحرب العالمية الثانية من الحرب الباردة وهي اللحظة الفارقة الثانية، ثم نهاية الحرب الباردة في السبعينيات وهي اللحظة الفارقة الثالثة.. دعوني أحلل هذا “الموضوع” الذي بدأ هيكل يلوك فيه وقد أخذه مني بوضوح عندما قدمته تاريخيا في تقسيم الأجيال، خصوصا من كتابي “تفكيك هيكل” (نشر عام 2000) من دون أن يشير لا من قريب ولا بعيد إلي أي مرجع.. رجع هيكل بعد اختلاسه الأفكار التي طرحتها عليه في كتابي ضد أطروحاته، ليركّب عليها من عندياته الأمثلة الفاشلة التي لا تتفق وسياقات الأطروحة التاريخية فيما يسمي بتحقيب التاريخ العربي والإسلامي.. إنه أخذ مني وباع علي، ولكن من دون أن يحدد ما الذي يريد الوصول إليه.. إذ دوما ما يترك ما يقوله من دون أي نتائج عامة يريد الوصول إليها، أو أي استنتاجات يستنبطها بنفسه ليقدمها ضمن سياق الآراء التي يمكنه تقديمها.
البؤس التاريخي
ولما كانت الأطروحة التي قدمتها منذ زمن طويل تقسم تاريخنا المعاصر إلي ثلاثة أجيال يبدأ كل جيل بلحظة تاريخية فارقة، فإن هيكل غاب عنه منطلق تحقيب المرحلة، وجاء ليسوّق بضاعته التي ما انفك يرددها علي الناس.. بحيث أثار مللهم وضجرهم كثيرا.. ولقد دخل الموضوع بالنص التالي وهو يتساءل: كيف وصلنا نحن إلي هذه اللحظة البائسة من حياتنا العربية؟ قائلا: “أنا السؤال اللي وقفت عنده المرة اللي فاتت هو إحنا كيف وصلنا نحن إلي هذه اللحظة عايز أقول إيه؟ عايز أقول إنه في حياة الأمم والشعوب لحظات فارقة تستطيع فيها هذه الشعوب أن تمسك مصائرها وأن تعقلن الفوضى الطبيعية في الأمور طبيعة التاريخ تدفق تيارات اقتصادية عسكرية.. دول طالبة مصالح دول غازية.. بطالة موارد تجارة اللي إحنا عاوزينه لكن حركة التاريخ المتدفقة عادة فوضي ودور البشر ودور الإدارة السياسية في التعامل مع هذه الفوضى هي محاولة عقلنة هذه الفوضى حنلاقي باستمرار انه الأمم في حياتها لحظات فارقة إذا تنبهت لها وإذا استطاعت انها تستعمل هذه اللحظات يبقي قيادات هذه الأمم النخب في هذه الأمم مهمتها الإدارة السياسية والإدارة السياسية بمعني عقلنة التطورات الجارية عقلنة التيارات المتدافعة عقلنة الأحداث المتصادمة عقلنة القوي إلي آخره.. (نص هيكل) “.
هنا يبدأ القول كي يضع مسئولية البؤس التاريخي الذي يعيشه العالم العربي علي كل الأجيال السابقة، من دون أن يحدد درجة الخطأ أين تكمن.. ومن دون أن يشخّص درجة الصواب أين كانت! ومن دون أن يحدد العوامل الأساسية للنهوض أو الانحطاط.. إنه يحاول أن يجيب عن سؤال يفكر فيه اليوم وبعد التي واللتيا: كيف وصلنا إلي هذه اللحظة اليوم؟ نجده يحاول الإجابة عن السؤال بشكل تهويمي كما قرأنا قبل قليل.. من يعقلن الفوضى الطبيعية يا هيكل؟ هل كانت إرادة الشعوب وتفكيرها واحدة علي مدي الزمن؟ مصالح دول غازية إزاء دور الإدارة السياسية في التعامل مع هذه الفوضى.. ماذا تريد أن تقول؟ من يحاول عقلنة الفوضى؟ اجب.. أفصح! لحظات فارقة في حياة الأمم، وأعتقد أن العرب قد انتبهوا لها من حين لآخر وتطالب بالإدارة السياسية، وتعرّفها لنا بأنها عقلنة التطورات الجارية.. عقلنة الأحداث المتصادمة.. عقلنة القوي!! من تخاطب؟ هل تخاطب قيادات الإدارات السياسية؟ أم تخاطب الناس العاديين؟ هل تخاطب الحكام والقوي الحاكمة؟ كنت أتمني أن تقارن نماذج عقلانية في تاريخنا المعاصر بنماذج متهورة وفوضوية علي امتداد القرن العشرين.. كنت أتمني ألا تأتي ـ كما سنري بعد قليل ـ لأسماء ثلاثة ملوك، وجعلت خراب الدنيا علي أيديهم، من دون أن تذكر أي اسم من الحكام شبه المجانين الذين حكموا العالم العربي.. من دون أن تذكر أي حاكم جعل الأوهام حقائق أمام العرب وتعامل معها علي أنها مسلّمات، وصعد بهم يهيم في السماء، فإذا به يسقط ومعه يسقطون.. دون أن تري ما صنعته الأيديولوجيات المستوردة بتفكير أجيالنا.. أي عقلنة للفوضى التي زرعها ضباط أحرار جاءوا من ثكنات عسكرية ليحكموا مجتمعاتنا بلا مؤسسات علي امتداد زمن طويل؟ أي عقلنة للفوضى التي كرستها أحزاب شوفينية مخادعة؟ أي عقلنة للفوضى التي نشرتها منظمات إرهابية وعناصر ثورية.. لماذا لم تتكلم عنها؟ لماذا لذت بالصمت عن أجهزة مخابرات عربية لدول بوليسية، وقد جنت تلك الأجهزة علي كل المعارضين السياسيين؟ لماذا قتل (او: انتحر) البعض من شخصيات الماضي القريب، وقد توضّحت علاقاتهم بأجهزة مخابرات داخلية وأجنبية؟
اللحظة الفارقة الأولى
يقول هيكل ويعيد ويكرر (واعتذر من القراء الكرام من تكرار هذه الموضوعات التي يبدو أنها قد قضت مضجع الرجل منذ الهوس الثوري الذي عاشه قبل خمسين سنة).. دعوه يعيد ويكرر قائلا: “اللحظة الفارقة الأولي في اعتقادي هي اللحظة الفارقة التي تلت الحرب العالمية الأولي، الحرب العالمية الأولي حصل فيها إنه والله الإطار الجامع للعالم العربي كان هو الخلافة العثمانية والخلافة العثمانية انتهت فيه دول كانت خرجت من الخلافة لكن وفيه دول كانت بعدت عن الخلافة وفيه دول كانت لا تزال تابعة للخلافة وكانت فيه دول بتطالب بالتبعية للخلافة بالعودة للخلافة ثانية لكن في الحرب العالمية الأولي انتهت الخلافة وبدأ الإرث الإمبراطوري للخلافة العثمانية بدأ يوزَّع علي بريطانيا وفرنسا.. ” (نص هيكل).
الجيش البريطاني يدخل بغداد 1917
ثلاث أسر حاكمة تقض المضاجع!
تستطرد قائلا: ” فإحنا كنا قدام لحظة فارقة وكان فيه مطالب وطنية سابقة في مصر وفي سوريا وفي العراق إلي آخره حصل في هذه الفترة إنه كان هناك ثلاث أسر راغبة في إرث الخلافة وبنفس المنطق، أسرة محمد علي مستندة إلي ظل مآذن الأزهر موجودة وراها، الهاشميين مستندين إلي نسب لرسول الله صلي الله عليه وسلم، السعوديين مستندين إلي واحد إنهم في شبه الجزيرة العربية ثم بعد كده في مكة والأرض المقدسة وبعد كده جه البترول فأنا قدام ثلاث أسر عملت إيه؟ متقدرش تقف قدام الدول القادمة المنتدبة اللي ورثت الخلافة الإسلامية سابت لها الخلافة واحتفظت بالإسلام سابت السلطة واحتفظت بشكل السلطة، أخدت هي الهيلمان والصولجان وسابت الأرض والحكم والسلطة إلي حد ما للقوي القادمة في الانتداب وعملوا شبه صفقة عمامة الخليفة العثماني وسيفه عند سواء الملك فؤاد أو الملك عبدالعزيز أو الشريف حسين وأولاده فيما بعد وأما السلطة الحقيقية قد فضلت للإنجليز أو الفرنساويين وده طبيعي كان طبيعي جدا لأنه لا يمكن تصور إنه من نظام خلافة عثماني جامع اسمي أو فعلي في بعض البلدان العربية تنتهي ثم ندخل إلي وضع والله ألاقي فيه ناس بيتكلموا عن الدستور وعن القانون وعن فيه ناس.. “(نص هيكل).
هنا أرد عليك: تغيب قليلا أو كثيرا، ثم تعود إلي الأسر الثلاث والرءوس الثلاثة والبلدان الثلاثة.. وكأن هؤلاء الثلاثة قد سببوا مشكلات الأمة العربية.. وسببوا لها كل الفواجع والنكبات والهزائم.. دعني أحاكم النص قليلاً ثم أرجع لك ثانية. ان المطالبة بالخلافة التي كانت رمزا دينيا لم تكن إلا مجرد حالة من إضفاء الشرعية منذ أحقاب طوال .. فالكل يعلم، أن الخلافة ماتت فعليا منذ سقوط العباسيين في بغداد وسقوط الفاطميين في القاهرة.. وأن بقاء الخلافة في القاهرة في ظل المماليك لم يكن إلا رمزًا تاريخيا للمشروعية الدينية لكل الدول التي استمدت منها الاعتراف ، ولقد انتهت على يد السلطان سليم الأول عام 1517 . ما معني أنها أخذت الهيلمان والصولجان وسابت الأرض والحكم والسلطة إلي حد ما للقوي القادمة في الانتداب؟ هل هذا كلام عقلاء عندما تستهين بأدوار تاريخية كان لها رجالها ونخبها السياسية، خصوصا في مصر والعراق وبلاد الشام؟ لقد اعتبر الأعداء قبل الأصدقاء، والخصماء قبل الإخوة في العروبة . أن رجالات الأمس العرب علي أيام الانتدابين البريطاني والفرنسي كانوا رجال دولة من الطراز الأول.. وإذا كان الشريف حسين قد فشل في مشروعه العربي نتيجة عناده وإصراره علي إرادته، فلقد نجح أولاده في تأسيس كيانات من العدم.. وإذا كنت تعيب علي فؤاد الأول خضوعه للبريطانيين، فلم يكن وحده في الميدان، إذ كانت مرحلته تعج بأسماء سياسيين كبار كانوا وراء نهضة مصر إبان عهده.. وإذا كنت تعيب علي عبدالعزيز آل السعود جملة من المعايب، فيكفي أنه نجح في تكوين دولة ووحد أقاليم وقضي علي سلالات حاكمة في الحجاز وحائل وعسير.. الخ
خطوط رسمتها ثلاث أسر حاكمة في التاريخ
وتبقي يا هيكل تنال من هؤلاء الذين لا أدري ما الذي فعلوه بك حتي تعلن حربك المجنونة ضدهم.. لنستمع إلي قولك التالي:”بدري لسه كان لكن في كل الأحوال إحنا لقينا إنه والله فيه قسمة للسلطة لكن المطالب الشعبية لا تزال بتعبر عن نفسها سعد زغلول في مصر مثلا بيتكلم دستور لكن الملك فؤاد بيتكلم ذهنه في خلافة وفي الشام تقريبا ناس بتروح للشريف حسين وهم بيتكلموا في حرية واستقلال إلي آخره والشريف حسين وأبناؤه بيتكلموا علي وضع ملكي أو شبه ملكي، إخونا اللي راحوا للملك عبدالعزيز وهو شخصية تاريخية مهمة بالتأكيد واحد زي أمين الريحاني لما راح شافه في ذلك الوقت بيتفرج أو بيشوف أو بيكتب علي شخصية ضخمة جدا لكنه بتتكلم علي زي ما روزفلت وصفه فيما بعد وقال عليه المتوحش النبيل بتتكلم علي رجل له قيمته أنا باعتقد إنه عمل دور مهم جدا في التاريخ لكنه ما يستطيع أن يستوعبه من عصره له حدود يعني.. ” (نص هيكل).
هنا أقول: مهما انتقدت انتقادك الساخط ضد هؤلاء الثلاثة، فيبقوا أنهم قد رسموا خطوطًا واضحة في التاريخ.. كّل في موقعه، وسواء كانوا خلفاء أو ملوكًا.. سواء كانوا سليلي أسر حاكمة أو كانوا زعماء قبائل، فهم انتصروا سياسيا. إن عهد فؤاد الأول يبقي عهدًا زاهيا ، ووصلت مصر إلي أقوي الأدوار في حياتها السياسية، وشهد البرلمان المصري فيها أعلي درجات القوة مع تبلور نخبة سياسية وفكرية لم تحظ بها مصر لاحقًا.. أما الشريف حسين، فيكفي أنه أعلن بعد مرارة وتعاسة ما مورس ضد العرب من قبل الزعماء الاتحاديين الاتراك، خصوصًا جمال باشا السفاح بإعدامه نخبا من الشهداء العرب الشباب ولم يكن كلهم يشتغل بالسياسة، بل كان فيهم عدد كبير من أدباء ومثقفين.. كان رد فعل الشريف حسين قويا ، وترجم ذلك ولده الامير فيصل بعلاقاته مع الجمعيات العربية السرية والعلنية .. أما عبدالعزيز آل السعود، فيكفي ما أوردت بحقه من إيرادات. وعليه، لماذا تناقض نفسك هنا؟ الشخصية الضخمة والمتوحش النبيل قد أنجز دورًا مهمًا جدًا في التاريخ. وعليه، فيستوجب أن تسكت بعد اليوم! ولكن يبقي عدوك المصري اللدود شاخصًا أمامك لتنال منه ومن أسرته دومًا.. ومهما قلت وستقول عن الملك فؤاد الأول فإن عهده يعد من أفضل عهود مصر في التاريخ الحديث.
معضلة فؤاد: لا يعرف العربية!
تقول عنه مستطردًا: ” لكن ومع ذلك فكل هذه التطورات في اعتقادي كانت طبيعية لكن نتيجة ده إن أنا لقيت عندي خلفاء بيتكلموا باسم الإسلام، الملك فؤاد مكنش بيعرف عربي الملك فؤاد العربي بتاعه كان مكسر وأنا لا أظن إنه في حد غير الساسة اللي قابلوه مباشرة سمعوا منه لأن الملك فؤاد عاش حياته مع أبوه الخديو إسماعيل في إيطاليا منفي وعاش شبابه ضابط في الجيش العثماني اللي عاشر الجيش النمساوي الألماني وبعدين جاه بقي الملك عاش في مصر فترة مع مجتمع معين في مناخ معين ولما وصل للمُلك بيتكلم علي خلافة وهو لا يعرف عربي بيتكلم عربي مكسر يعني، ابنه الملك فاروق بقي بيتكلم عربي هايل عربي بلدي لكن ده موضوع آخر قضية أخري، الملك عبدالعزيز أنا باعرف إنه ممكن قوي يتكلم شرع وممكن يتكلم قوة رئيس بدوي شيخ قبيلة ويقدر يعمل إلي آخره لكن في حدود..” (انتهي نص هيكل).
باستطاعتك اختزال كل منجزات مصر علي عهد فؤاد الأول كونه يتكلم “عربي مكّسر”.. كنت أتمني أن تتكلم جملة مفيدة واحدة بالعربية المبسطة يا هيكل! كنت أتمني عليك أن تقول إن زعماء آخرين كانوا يهذون لساعات طوال بأسلوب بلدياتي من دون أن يقولوا جملة واحدة مفيدة باللغة العربية! زعماء عرب عديدون هم من أصلاب عربية وعاشوا في بيئات عربية.. لكن تخونهم لغتهم العربية. فهل لم تجد في بحثك عن زلات فؤاد إلا لغته العربية؟ يا أخي أعود اليك لطلب منك قراءة ما كتبه الصديق المؤرخ لبيب يونان رزق في كتابه عن فؤاد الأول.. وأن تتخلص من هذا الحقد الأسود ضد فؤاد الأول.. وسواء تكلم بالفصحى أو تكلم بالمكسّر أسألك يا هيكل سؤالاً واحدًا وان تجيب إجابة قاطعة غير ملتوية ، ومن دون لف ولا دوران : هل أحب فؤاد الأول مصر حبًا جمًا وعمل من أجلها أم لم يحب مصر، ولم يعمل من أجلها طوال حياته؟
وإذا كان فؤاد الأول لا يعرف العربية، وهو من أصل غير عربي، فما بالك نري زعماء عرب اقحاحا منذ خمسين سنة لا يعرفون الكلام بالعربية، بل لا يجيدون القراءة العربية! أما “فاروق” الأول، فهو ليس قضية ثانية.. بل إن “فاروق” أحب مصر وعمل من أجلها، ولكن خانته ظروفه وعلاقاته وسلوكياته وأولئك الذين تعامل معهم.. إن عهد فاروق هو امتداد طبيعي لعهد أبيه.. وإذا كان فؤاد الأول يمالئ الإنجليز، فإن فاروق كان شوكة في خاصرتهم، وتاريخه يشهد بذلك! إن الأخطاء السياسية لا يمكن أن يتحملها شخص واحد، بل يتحمل مسئوليتها أشخاص كثر.. ولو كانت الأخطاء يتحملها شخص واحد، فإن هزيمة 1967 كان سيتحملها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وحده، وان الأخطاء السياسية هي غير الهزائم العسكرية، ولنا أن ندرك أن الإنجليز كانوا سيرحلون عاجلا أم آجلا من كل المنطقة، بدليل رحيلهم من مشيخات الخليج العربي وغيرها.. وأن الفراغ سيملؤه الأمريكيون، ولكن ما حدث من انقلابات عسكرية كافية لتحويل تاريخ دول مهمة عديدة في المنطقة من أنظمة دستورية مستقرة إلي أنظمة فوضوية ثورية..
انتظروا الحلقة القادمة
نشرت على جريدة روز اليوسف المصرية ، العدد 1417 – الاثنين – 22 فبراير 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وأيضا على صفحة تجمع الدكتور سيار الجميل
http://www.facebook.com/group.php?sid=ef680591def239dac31065b4f16482c3&gid=48810538237
ملاحظة : لا يسمح بإعادة النشر تحريريا أو الكترونيا ، إلا بترخيص خطي من المؤلف والناشر .