الرئيسية / افكار / سايكلوجية الشماتة وثقافة الانتقام

سايكلوجية الشماتة وثقافة الانتقام

عندما أقرأ ردود فعل الخصوم على أعدائهم .. أو انتصار الفرقاء ضد بعضهم الآخر ، أجد أن الشماتة أو التشّفي .. تعبير عاطفي محموم ويائس يترجم حالة الانتقام والوصول إلى ذروته بالتمتع السادي ، ويحوّل الإنسان إلى حالة من النشوة والفرح ، إذ يحقق للشامت ما كان ينتظره من خصمه أو عدوه ، جراء هزيمة أو انتكاسة أو أزمة أو فشل أو خسارة .. وانتهاء بالموت . فالشماتة والتشفي هما عكس التسامح والتعاطف والمشاركة . وإذا كان هذا يحدث بين الأفراد ، فهو يحدث بين المجتمعات والدول . وإذا كنا نقرأ عن شماتة شعب ضد شعب آخر ، فهل يمكن أن يحدث مثل هذا الاضطراب الخلقي والإصابات السايكلوجية البائسة عند أبناء بلد واحد ، أو ملة واحدة ، أو قومية واحدة ؟
إن شماتة الحسّاد تأتي عاطفيا دوما ضد أصحاب الثروات ، كما يذكر اوتوني وآخرون ، وترتبط به شماتة الأغبياء الذين يعلنون عن حقدهم ضد الناجحين والمتفوقين ، كما يذكر باريت وجماعته ، في حين أن شماتة المنتقمين الذين يعلنون عن فرحهم ورقصاتهم ضد الفئات العليا وأصحاب الجاه والسلطان ، كما يقول فون دايك ، وثمة تصنيفات أخرى للشماتة ! إن الشماتة التي نجدها بين أعداء حقيقيين ، أو خصوم سياسيين ، أو فرقاء مؤدلجين .. لا يمكن أن نجدها عند كل الشعوب .. فثمة مجتمعات لم تعرف تواريخها الأحقاد ، ولم تتوارث ثقافيا الأخذ بالثارات ، أو أنها ربّت أبناءها على سايكلوجية الكراهية والانتقام . وثمة مجتمعات لا تعرف إلا روح التعاون والتسامح بين أبنائها .. بل يقول الكاتب الإسرائيلي بن زئيف أن إسرائيل رّبت أبناءها على التسامح في ما بينهم قبل التعاون ، فلا تعاون من دون سماحة في مجتمع متنوع إزاء خصوم موحدين !
إن مجتمعات أخرى لا تعرف إلا فلسفة التعاطف مع الآخرين في أزماتهم ومشكلاتهم . بل ثمة تربية أخلاقية تتوارثها الأجيال في عدم خلق الخصوم والأعداء . ولكن ثمة ثقافات أخرى ، تستغل الظروف ، لتعمل على بث روح الشماتة والانتقام عبر وسائل إعلامية حديثة ، أنها مجرد ممارسة سايكلوجية لا أخلاقية ، حتى إذا ما تعّرض إلى أزمة أو مشكلة .. تجد الآخرين ينكلون به أفظع تنكيل ، ويظهرون على الملأ تشفيهم وانتقامهم ! بل ويزيدون على الحالة أشياء كبيرة تعبيرا عن شماتتهم ، فتنتقل مشاعرهم التنافسية إلى هياج فظ وعواطف لا أخلاقية !
إذا كنت افهم ذلك معبرا عنه في صحف أجنبية ، كونها تحمل إغراضا سياسية وأهدافا إعلامية ، وتبثّ المشاعر السيئة من اجل كسب العالم ، وإذا كنت أدرك ما الذي يعّبر عنه الخصوم والأعداء ، وخصوصا في ثقافات متوارثة لشعوب ، أو في دعايات سياسية لدول .. فأنني أدين تماما أن يتم تبادل التشفي بالانتقام ، أو إعلان الشماتة لدى العرب والمسلمين .. أو تنكيل احدهم بالآخر ؟ ربما الأسباب مادية ، وربما سياسية أو إيديولوجية ، وربما ثقافية واجتماعية متوارثة ! فمجتمعاتنا كلها قد ترّبى أبناؤها على الانتقام واخذ الثأر ، وربما التشفي بالآخرين ، وتوزيع الشماتة بشكل مازوشي أو بأسلوب سادي .. إنني أجد حالات من التعاطف بين دول وشعوب ، وخصوصا عندما يتعرّض احدها إلى نكبات وحروب وأزمات .. أما أن يصل حجم الأحقاد والانتقام إلى التشّفي وإعلان النشوة بشكل مفضوح ، فهذا ما لا نجده الا عند شعوبنا حيث بدت مجتمعاتنا منقسمة جدا وهي تغطي نفسها بالحرير !
إن الدبلوماسية بين الدول العربية وأكذوبة جامعة تجمعهم ، قد انكشفت مرارا عما يسود من كراهية فظيعة بين مجتمعات كّنا نصفق للوحدة التي تجمعها ! لم تتعلم الأجيال لا في بيوتها ولا مدارسها وجامعاتها ومؤسساتها ، ولا في خطب قادتها معاني التسامح والتعاطف .. لا اذكر ان العرب يتعاطفوا مع بعضهم الآخر أبدا .. اذكر انهم شمتوا بحكام العراق عندما سحلوا في الشوارع ! واذكر أنهم شمتوا باللبنانيين ، عندما حارب هؤلاء بعضهم بعضا .. وجلسوا يتفرجون على العراقيين وهم يتساقطون في الحروب ! وقالوا للفلسطينيين : اذهبوا لوحدكم قاتلوا إنا هنا قاعدون ! وشمتوا بالكويت عند غزوها! ومؤخرا وجدتهم شمتوا بوزير ثقافة مصري كونه لم يصل إلى إدارة اليونسكو ! ومؤخرا أجدهم يشمتون بدبي كون بعض شركاتها مرت بأزمة مالية مؤقتة ! أو يفرحون بنزاع كروي بين دولتين عربيتين لهما تاريخ عضوي مشترك !
لقد تربى هؤلاء على روح الانتقام والقتل والموت .. اذكر أن رؤساء دول كانت تبّث روح التشفّي والشماتة في خطاباتها على الملايين .. اذكر أن روح الانتقام قد غرست في مجتمعاتنا منذ أزمان طوال ، من دون أية سياسات تربوية أو إعلامية تقف ضد هذه الأمراض القاتلة .. بل العكس ، زادت مستوياتها بفعل وسائل الأعلام الحديثة التي أخذت الآن على عاتقها هذا الدور البدائي الذي لا تعرفه إلا المجتمعات المكروهة . ولقد وجدت انه بالقدر الذي يخاصمنا العالم جراء مصالحه العمياء وبكل الوسائل البشعة ، فان مجتمعاتنا يأكل بعضها بعضا ، وثمة طوابير خامسة وسادسة تنخر بنيوياتنا ، وتكره وجودنا ، وتمقت تاريخنا وتراثنا .. واجدها تلعب لعباتها الدنيئة في الأزمات ! إن ثمة عقليات لا تمتلك الصلاحية للعيش والتعاطف والشراكة وذكر المعروف ، إنها ناكرة للجميل ، بل أنها قد افتقدت منذ زمن طويل حيوية البقاء والتعايش مع بعضنا الآخر ، إن مجتمعاتنا كلها بحاجة إلى ثورة قيمية وتربوية وأخلاقية وحضارية ، وان تزيح العقليات والأمراض التي تفتك بها .

نشرت في البيان الاماراتية ، 16 ديسمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …