د. سيّار الجميل الموقع الرسمي لـ (د. سيّار الجميل)
عندما قرأت خطاب السيد محمد حسنى مبارك – رئيس جمهورية مصر العربية – الذي ألقى في المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الأفريقي الذي انعقد في كمبالا عاصمة أوغندة قبل أيام، وهو يشتكى من مصاعب الهجرة الداخلية للأفارقة لمصر، قلت لنفسي: أعانك الله يا مصر.. ألا يكفيك ما لديك من المشكلات.. حتى تقتحمك مشكلات أخرى؟! وتذكرت ما كانت تروج له الصحافة العربية، وصحافة مصر بالذات قبل نصف قرن.. أيام حركات التحرر ووقوف العالم الثالث إلى جانب أفريقيا بكل ثقل سياسي ومالي وإعلامي! كنا قبل قرابة أربعين سنة، ونحن الشباب فى مقتبل العمر، نقرأ في الصحف والمجلات، ونسمع في الراديو والإذاعات خطبا ومقالات يكتبها ويذيعها رؤساء وإعلاميون وكتبة ومثقفون كلها توهمنا أن المستقبل القريب هو للقارة السمراء.. قرأت ذات يوم في جريدة مصرية شهيرة وبقلم أحد يدعى أنه إمبراطور الصحافة العربية أن القرن القادم ويقصد به القرن الحادي والعشرين سيكون من نصيب عظمة القارة السمراء التي ستتفوق على العالم كله من خلال انتصار حركات التحرر فيها وسعيها الحثيث للتخلص من الاستعمار والتخلف!
كنا نصدق الأقوال والأوهام تلك، بل استحدثت في جامعاتنا العربية مادة دراسية في كليات الآداب عنوانها حركات التحرر، تنصب أغلب مادتها على أفريقيا، ويتغزل الأساتذة والمثقفون سواء كانوا من الماركسيين أو القوميين أو الناصريين العرب بتلك القارة السمراء ممشوقة القوام والتي ستنهض من كبوتها قريبا لتتقدم على كل العالم!
هل من إعادة للتفكير؟!
كان ذلك كله حلما جميلا فى أن نرى كلا من شعوب قارتي آسيا وأفريقيا سيكون لها شأن عظيم في القرن الواحد والعشرين، وإذا كانت آسيا قارة عريقة ومتنوعة بثقافاتها وحضاراتها وثقلها السكاني ومواردها الأساسية، فإن أفريقيا لا يمكن أن تضاهى آسيا، ولكن كانت تلك الدعايات مجرد أوهام يزرعها كل من كان يلحق بهذا الطرف أو ذاك من قوى الحرب الباردة في العالم، ولمصلحة هذا الطرف أو ذاك من إعصار ذلك الزمن الكاذب! وإذا كان العقلاء اليوم يعيدون التفكير فيما كان وما كان يجرى مقارنته بما هو حاصل اليوم علي أرض الواقع، فسيكون صاحب رأى سديد بإعادة تقويم التفكير من جديد، ولكن المشكلة في اثنين لا ثالث لهما أولهما أن تصر على أن ما كان يجرى من تجديف هو الحقيقة بذاتها، وثانيهما: أن تسكت وكأن دماغك مغسول ومعصور مائة مرة، وإن سئلت أجبت بأن الاستعمار هو السبب!
أفريقيا أكبر مسلخ بشرى فى التاريخ!
لقد رضخت شعوب أفريقيا لهيمنة استعمارية طويلة في كل جزء من أجزائها ولأزمان طوال، وكانت أفريقيا السمراء مسرحا للنهب المنظم الذي لم يقتصر على مواردها الطبيعية وثرواتها الاقتصادية، بل طال حتى البشر.. واعتبرت أفريقيا أكبر مسلخ بشرى عانت منه شعوبها الأمرين على امتداد تاريخ طويل ليكونوا عبيدا وزنوجا واستخدمتهم كل القوى الاستعمارية التي هيمنت عليهم، وغدوا بضاعة في أقذر سوق للنخاسة البشرية وكانوا يقاسون من الآلام والمكابدات المبرحة، بل اعتبرهم أدولف هتلر من أحط الكائنات البشرية فى أخس تصنيف عرقي للبشر.. صحيح أن الأفارقة الاستوائيين جنوب الصحراء لم يكونوا بأصحاب حضارات، ولكنهم من دون شك، كان لكل شعب من شعوبهم القبلية ثقافته وفولكلوريته مهما كانت بدائية.. وكان الأحرى بأولئك الذين أوهموا العالم بدعاياتهم أن أفريقيا ستتسلم مقاليد العالم فى القرن الواحد والعشرين، إدراكهم العميق لكل من الواقع والتاريخ وما ستنتجه الأيام مقارنة بشعوب أخرى مختلفة تماما عن الأفارقة.
العالم الثالث وحركات التحرر فى أفريقيا
لقد نجحت حركات التحرر الأفريقية من الاستعمار بفعل التأثيرات السياسية والإعلامية في قلب مشروعات الحرب الباردة والصراع الذي كان يدور بين العالمين الاشتراكي والرأسمالي مع ظهور كتلة العالم الثالث التي تزعمها منذ الخمسينيات قادة ذلك المشروع الذي أُسْمى بحركات التحرر من الاستعمار، ومنهم: عبدالناصر ونهرو وتيتو وسوكارنو ومكاريوس.. أما الأشد تأثيرا فكان يتمثل في قوة المنظومة الشيوعية ممثلة بالسوفييت والماويين وكاسترو وأسطورة جيفارا وكيم إيل سونج وهوشى منه وأنور خوجة.. إلخ، فضلا عن التأييد الساحق الذي كسبته تلك الحركات من القوى التقدمية في العالم بما فيها تلك الموجودة في غربي أوروبا. وفى أفريقيا السمراء باستثناء تجربة بن بيللا التحررية في الجزائر وتجربة نيلسون مانديلا الإنسانية فى جنوب أفريقيا، فإن أغلب تجارب أفريقيا لا يمكنها أن تصل إلى مستويات نضالية عالية المستوى، خصوصا انتقال العالم بعد الحرب العالمية الثانية للتخلي عن الاستعمار القديم الكولونيالى عسكريا إلى الاستعمار الجديد + الإمبريالي سياسيا.. وأن تصفية الاستعمار لمستعمراته قد حان أوانها بضعف كل من بريطانيا وفرنسا، كي تحل الولايات المتحدة قوة عظمى في العالم. إن أوضاع أفريقيا لم تتحسن في أي يوم من الأيام، فلقد كانت ولم تزل مشروع نهب جغرافي منظم لقوى خفية ودول عديدة.. وهى تنتقل بأحوالها من سيئ إلى أسوأ! ولقد قامت إسرائيل ولم تزل بنقل كل اليهود الفلاشا من الأفارقة إلى إسرائيل لحمايتهم أولا، وتعزيز كيان إسرائيل ثانيا.. فى حين تعيش الدول الأفريقية في حالات مرعبة من التناحرات والانقسامات سواء في السودان المعرض للتجزئة، أو نيجيريا أو مالي وتشاد وصولا إلى بلدان غربي أفريقيا وانتقالا عبر أفريقيا الاستوائية إلى دول شرق القارة.
المساءلة التاريخية
الآن، علينا أن نسأل أولئك الذين أوهمونا كثيرا بأدوار أفريقيا السمراء عالميا.. وكذبوا على العالم كله وتكلموا من دون معرفتهم الحقيقية بما يمكن أن تغدو عليه الأحوال في قارة كانت ولم تزل تأكلها التمزقات القبلية والمجاعات والبؤس والفقر والأمراض؟ ما الذي حدث بعد انتصارات حركات التحرر تلك؟ أين هي ثروات أفريقيا الضخمة على مدى خمسين سنة مرت، ونحن ندرك كم تمتلك أفريقيا من ثروات كالماس والبترول والمياه والغابات واللحوم.. إلخ ! لماذا عاشت شعوب أفريقيا السمراء ولم تزل تحت خط الفقر تنتهكها المجاعات والأمراض والأدران إلى حدود لا يتخيلها إنسان ! من الذى ساسها من القادة الطغاة والمجانين الذين أذكوا الصراعات والحروب الأهلية؟ ماذا فعلت منظمات عديدة تحدثت باسم أفريقيا مثل الوحدة الأفريقية والاتحاد الأفريقي؟ لماذا تسجل فى أفريقيا أكبر نسبة في العالم من الهجرة الداخلية وصلت اليوم إلى حدود 23 مليونا من البشر وهم يعانون من شظف العيش؟! ما الذي جعل المرأة الأفريقية ممتهنة ومباحة ومنتهكة وتعبث بها كل الكائنات؟! إذا كانت بعض دول أفريقيا قد مارست التجارب الديمقراطية، فأين نتائجها على أرض الواقع؟ لماذا لم تزل العديد من شعوب أفريقيا عرضة للانقسامات القبلية والصراعات المحلية.. إن تجربة رواندا المأساوية لا يمكن أن تمحوها الأيام أبدا! ما سر اختراق إسرائيل للعديد من دول أفريقيا السمراء التي كان لها تاريخ مشرف إبان حركات التحرر؟ لماذا بقيت أغلب مجتمعات أفريقيا السمراء غارقة بالتخلف وتعبث بها إرادات الآخرين؟ لماذا كانت دول أفريقيا ولم تزل تعيش على مساعدات الآخرين لها منذ أن تحررت حتى يومنا هذا؟! إذا كان الاستعمار قد مارس سلخا بشريا لزنوج أفريقيا منذ أزمان طوال..
واستخدمهم فى أعمال السخرة طوال أعمارهم، وتلك جريمة لا يمكن أن تغتفر.. فما الذى يجعل شبابا أفريقيا اليوم يمارس شتى الطرق غير المشروعة للهروب من أفريقيا السمراء إلى كل من أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية؟! لماذا كانت أغلب دول أفريقيا السمراء المتحررة تقف مع العرب وقضاياهم، عندما كان المال العربي يتدفق عليها.. وعندما انقطع ذلك المال، أصبحت القضايا العربية لا تهم حتى الأفارقة؟! وأسأل أيضا: لماذا تعانى اليوم دول عربية جنوبى البحر المتوسط قاطبة من هجرات ونزوح الأفارقة إليها بطرق غير شرعية، ومصر على رأس القائمة التي تستضيف قرابة 36 قومية من المهاجرين الأفارقة، وتتحمل رفقة بلدان عربية أخرى تداعيات الأحداث المرعبة التى تجتاح أفريقيا اليوم؟!
وأخيرا: ما الذي أقوله؟!
إن القارة السمراء بحاجة إلى استراتيجيات جديدة، وسياسات جديدة، ونظم جديدة.. لقد أصبحت الأدنى فى عالم الجنوب إزاء عالم الشمال. إن أفريقيا ينبغي لها إيجاد أي نوع من التعاون بين شعوبها، وأن تركن لإيجاد حلول حاسمة لمشاكلها الصعبة وانسحاقاتها المريرة.. وألا تبقى بضاعة رخيصة بأيدي الجهلاء، أو ميدان مساومات بين الدول الكبرى. إن منظماتها التي تشكلت منذ أربعين سنة مضت، لا تستطيع أن تقدم شيئا حتى اليوم، لا للدول ولا للمجتمعات.. فهل ستتغير الأوضاع شيئا فشيئا نحو الأفضل؟ هذا ما نأمل تحقيقه جميعا.؟
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية 31 أكتوبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …