مرّ يوم السبت الثامن من مارس الجاري 2009 ، كما يمر أي يوم كل عام .. مرّ كيوم عادي كبقية الأيام من دون أن يقف العالم كله تحية لنصفه الآخر .. أو أن يقف كل الرجال في هذا الوجود ليؤدوا تحية حب وعرفان وتقدير لنصفهم الآخر .. انه يوم المرأة العالمي الذي اهتمت به عدة مؤسسات كبيرة في العالم احتراما وثناء للدور الذي تضطلع به المرأة هذا اليوم . فضلا عن أدوارها العظمي التي قدمتها على مر التاريخ ، خصوصا إذا علمنا أن التاريخ الإنساني كله قد مر من خلال الجسور التي بنتها المرأة نفسها من اجل الحياة ، واستمرار ليس وجودها حسب ، بل من اجل روعة معانيها الخصبة .
كنت مدعوا صباح يوم السبت الماضي 8 مارس 2009 إلى احتفائية دولية كبرى أقامها بهذه المناسبة ، الاتحاد النسائي الفيدرالي العالمي للسلام ، وعلى القاعة الكبرى لمطعم كنديانا بمدينة تورنتو بكندا .. كنت المتحدث الثاني ، وقد خصصت كلمتي عن المرأة في الشرق الأوسط .. إنني مؤمن ، انه مهما كانت هناك من تباينات اجتماعية ودينية وتاريخية وثقافية بين المجتمعات في رؤيتها للمرأة ، وكيفية التعامل معها ، فان المرأة إنسان ، وهي من دم ولحم وأعصاب ، وهي الأم والأخت والحبيبة والزوجة والجدة والجارة والمعلمة والطبيبة والشاعرة والاديبة .. الخ ، إذ وقفت المرأة ، ولم تزل ، إلى جانب الرجل عبر التاريخ الإنساني ، وشاركته كل المحن والرزايا والآلام ، كما انتصرت له في كل ما تحقق من نجاحات وانتصارات .. إن المرأة لا يمكنها أبدا أن تبني حياتها من دون الرجل والعكس صحيح . وإذا كان البعض يرّوج عن اختلاف العادات والتقاليد في المجتمعات حول المرأة ، فان كل الشرائع الإلهية والمدنية قد ضمنت للاثنين حقوقهما وواجباتهما .
دعوني ومن اجل أن لا تتبدد تلك ” الفرصة ” الرائعة التي جمعتني بتلك النخبة من نسوة ورجال في مناسبة يوم المرأة العالمي أن أسجل مختزلا ما دار من أفكار مهمة جدا ، لابد أن يتأمل فيها الجميع من اجل إيجاد حلول واقعية للمشكلات التي تتعرض لها علاقة الرجل بالمرأة في مجتمعاتنا .. أفكار ستفيد حتما المرأة في هذا العالم ، وخصوصا في عالمنا نحن في الشرق الأوسط أن تضيع منها ، والمرأة بحاجة للعناية بها والوقوف إلى جانبها .. نظرا لما تعانيه من عقم هذه الحياة التي تحياها في اغلب مجتمعاتنا .. بل ونظرا لما تحتاجه أساسا من حقوقها المهضومة في مجتمعات ذكورية تحجر عليها ، وتقمعها ، وتضطهدها ، وتأكل حقوقها علنا ، بل وحتى تستلب حياتها ! لقد غدت المرأة في كل هذا العالم مادة دسمة للاستلاب ، لأسباب وعوامل مختلطة ، نشأت من خلال التناقضات المعقدة في كل المجتمعات .
حقوق المرأة .. حقوق الإنسان
لقد أكدت الآنسة نيكول كربلن ( مستشارة منظمة حقوق الإنسان ) عن أن حقوق المرأة لا تنفصل عن حقوق الإنسان ، فما دمنا نؤمن بحقوق الإنسان في الوجود ، فعلينا الأخذ بحقوق المرأة ، وما دامت حقوق الإنسان غير مفعّلة في اغلب المجتمعات البشرية ، فان المرأة ستبقى تعاني من القسوة والوحشة والآلام والإباحة .. إن المرأة لا يمكنها أن تقدّم لهذه الحياة ما عليها من واجبات إنسانية سواء في بيتها ، أم في تربية أطفالها ، أم في كل ما تتطلبه منها الحياة ما لم تشعر أنها قد نالت حقوقها كانسان .. حقوقها كاملة معنوية ومادية .. إن العالم لا يمكنه أن يتحرك نحو الأمام ما لم يوفر للمرأة حقوقها . إن الأمثلة والشهادات التي تصل منظمة حقوق الإنسان العالمية عما يجري من اضطهادات بحق المرأة في مجتمعات على هذه الأرض .. إنما تقشعر منها الأبدان سواء من خلال مافيات الدعارة ، أو أسواق النخاسة ، أو اضطهاد الأطفال ، أو استخدامهن كدروع بشرية ، أو قنابل موقوتة ، أو استلاب أعراضهن غصبا .. ناهيكم عن قتل النساء بتهم الشرف ، وضربهن واهانتهن ، وقلة من دول العالم لها تشريعاتها التي تحمي المرأة حماية حقيقية ، فمثلا في الجارتر الكندي ، للمرأة ضماناتها كاملة ، ولا يمكن للرجل أن يتجاوز حدوده معها ، أو يعتدي على حقوقها ، أو يضطهدها أبدا .. والمرأة الكندية لا يمكن أن تتعرض للتحرش أبدا حتى إن كانت وحيدة تمشي في أي شارع من الشوارع بعد منتصف الليل ! إن العالم كله بحاجة إلى أن يحس بمعاناة المرأة أين ما وجدت على هذه الأرض مقارنة بتجارب أفضل .
المرأة الافريقية والآسيوية
اما الكاتبة الصحفية والمؤلفة المعروفة راحيل رضى ( وهي من أصل باكستاني ) وناشطة جدا في مسائل عديدة ، بعضها يخص المرأة في العالم الإسلامي ، فلقد تحدثت باستفاضة عن غيبوبة الوعي عند المرأة في العالم الإسلامي ، وان المرأة المسلمة مقتنعة عن جهالة بما هي عليه ، وليس بحقوقها الطبيعية كانسان لابد أن يحفظ نفسه وجسده من الدمار .. إن الأرقام التي تّم عرضها ، مذهلة حقا ، تلك التي تتحدث عن اجتياح الايدز لمجتمعات افريقية كاملة بسبب العلاقات الجنسية ، وان آلاف النسوة والأطفال يموتون يوميا بسبب الايدز ، ذلك أن الوعي منعدم تماما في أفريقيا .. وان المرأة تدفع الأثمان الغالية من حقوقها الإنسانية بسبب جهلها الكامل ، وانعدام قدرتها في الحفاظ على جسدها ! أما في القارة الآسيوية ، فان أوضاع المرأة اليوم تمر بأزمات عصيبة ، بسبب انعدام قدرتها على مواجهة الحياة الصعبة ، وانصياعها لكل استلاب الرجل ، وفضاضته وجهالته وغطرسته .. وانتقدت بشدة انتشار مافيات للمتاجرة بأجساد النساء في دول متعددة من بينها دول آسيوية .. إن العالم مطالب اليوم بتشريع قوانين حماية للمرأة في أي مكان .. وان الدول الإسلامية مطالبة أيضا بتشريعات تمنح المرأة حقها في إبداء الرأي ، وحقها في الاختيار ، وحقها في الانفصال ، وحقها في التربية والتعليم ، وحقها في العمل ، وحقها في ردع من يتجاوز عليها .. ربما كانت المرأة في العالم الإسلامي هي غيرها في أماكن أخرى في العالم ، ولكن منح حقوقها الإنسانية ، وجعل إرادتها بيدها ، سوف لا يخلق منها أنسانا فاسدا كما يتخّيل البعض ذلك ، إذ تبقى ثمة خطوطا حمراء لن ولم تتجاوزها أبدا .
المرأة في مجتمعات الشرق الاوسط
أما المرأة في الشرق الأوسط ( وكان ذلك عنوان مداخلتي ) ، فان معاناتها كبيرة جدا ، وخصوصا في اغلب مجتمعات المنطقة .. ربما ازدادت معاناة المرأة في هذه المجتمعات منذ ثلاثين سنة ، عما كانت عليه سابقا ، إذ كانت المرأة سابقا مقبلة على حياة العصر وعلى الحياة المدنية ، وشهدت كل من عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي نقلات نوعية في مكانة المرأة وحقوقها ووظائفها وتحررها الذي نادى به بعض المفكرين العرب والأتراك منذ بدايات القرن العشرين .. إن أمثلة ونماذج تاريخية من رائدات للحركة النسوية قد برزن منذ قرابة قرن وأكثر ، مثل : ماري تيريز الأسمر من العراق ، وخالدة أديب من تركيا ، وهدى شعراوي وعائشة تيمور من مصر ، وروز اليوسف وسيليا مالك من لبنان ..الخ إن المرأة في البلاد العربية اليوم ، تعيش اضطرابا اجتماعيا وثقافيا بسبب الانتكاسات التي عانت منها ، وبسبب تراجع مجتمعاتنا عن سيرورتها في التقدم . إن زيادات كبيرة لحالات الطلاق ، فضلا عن معاناة المرأة من الحروب والاضطرابات السياسية .. فضلا عن انتشار أنواع جديدة من الزواجات لم تكن مألوفة في السابق بسبب عوامل اقتصادية ، أو للالتفاف على الكبت الجنسي والمحرمات الاجتماعية ! إن الوقائع الجديدة تكشف عن مظاهر جد سلبية ، وعن إمراض اجتماعية وسايكلوجية تجتاح مجتمعاتنا ، وعن حالات قتل وحالات انتحار .. وإذا كانت المرأة ضحية أولى لها ، فان الأطفال هم الضحايا الحقيقيون مما يشكّل جناية تاريخية على مستقبلنا في المنطقة عموما . لقد قلت : إن المرأة في مجتمعاتنا قاطبة ، إن عوملت بالحسنى وتعلمت ، وربيت تربية جيدة ، ممتلكة إرادتها ، وشعرت بدفء وثقة واحترام وحب الرجل وحنانه ، فستكون وفية ومخلصة ، لها إبداعاتها ، فالمرأة عندنا ، ذكية جدا ، وربة بيت ممتازة ، ومربية أجيال .. تعرف كيف تتصرف ، بل ولها القدرة على مجابهة التحديات مهما كانت صعبة ! إضافة إلى أن مجرد تمتّعها بالمعرفة والتكوين والاستقلالية سيجعلها تقدم إبداعاتها بمختلف العلوم والآداب والفنون . إن أقصى ما تطمح إليه المرأة في مجتمعاتنا إصلاح الأحوال الشخصية لها ، وتحديث القوانين التي تتناول علاقتها بالمجتمع والحياة .. وكسر كل الحواجز التي تقف في الضد منها ، وتحّد من قابلياتها وإبداعاتها ..
خمسة مبادئ : الاحترام / الثقة / التعاون / الشراكة / العاطفة
إن ما قدمّه ديفيد سكار ، ( وهو فنان دولي شهير ) من بناء صورة مثلى للمرأة في العالم ، فلقد حكى في البداية تجربته الذاتية ، ومن ثمّ قدّم نماذج حقيقية لعلاقة رائعة بين الرجل والمرأة .. ربما اختلفت معه بعض المشاركات ، ولكن الصورة عنده تتشكّل أساسا على خمسة مبادئ أوجزها بقاعدة احترام متبادل بين الرجل والمرأة ، فالأطفال إن تربوا على ذلك ، فسيكونوا ممتازين في تكوين علاقاتهم ، وبعكسه يكونوا مرضى ! ثم شدد على الثقة في تأسيس العلاقات الحميمية بين أفراد الأسرة كاملة . وقال بمبدأ التعاون بين الاثنين الرجل والمرأة حتى في كل الأعمال دقة ، ثم الشراكة ، إذ لا يمكن للرجل أن يستعبد المرأة لمصالحه ، ولا يمكن للمرأة أن تستغل الرجل لأغراضها .. ثم أكد على مبدأ العاطفة الذي يختزل بكلمة صغيرة جدا ، ولكنها من اكبر وأروع ظواهر الحياة الإنسانية ، إنها ( الحب ) ..
واخيرا ، ما الذي يمكننا ان نفعله ؟
هنا ، دعوني أقول ، انه مثلما احتفى العالم بهذه المناسبة ، احتفاء كبيرا ، ليتعلم منها كثيرا .. علينا أن نتعلم أشياء اعتقد إنها أساسية وجوهرية في حياتنا كلها . إن أي مشروع يخدم المرأة في مجتمعاتنا ، ويصونها ويحافظ على حقوقها وواجباتها .. فان ذلك مدعاة لإصلاح مجتمعاتنا قاطبة مما تعيشه اليوم . إن أي انفراج تعيشه المرأة وإبعادها عن الآلام والمعاناة سيقلل من فجوة الأخطاء التي تمارس اليوم في اغلب مجتمعاتنا ، وسيقلل من الأمراض النفسية والكبت الجماعي .. إن منح المرأة الثقة وان تمارس خياراتها في الحياة ، وتوفير فرص العمل أمامها ، سيجعلها سيدة نفسها ، وسيمنحها القدرة على أن تقول ( لا ) لكل من يريد استغلالها واستلاب اعزّ ما تملكه ومن ثم سحقها ! إن الضرورة باتت ماسة لمعالجة قوانين الأحوال الشخصية في مجتمعاتنا بحيث تمنح المرأة من خلالها حقوقها كلها من دون أي استلاب.. ومن دون جعلها ناقصة أو غير عاقلة ! ناهيكم عن تأسيس جمعيات ومنتديات وبرامج إعلامية ترعى قضاياها ، وتدافع عنها أمام ما تتعّرض له من مشكلات وتحديات ليس في الشرق الأوسط حسب ، بل في كل العالم .
نشرت في الأصل على موقع إيلاف ، 11 آذار / مارس 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
اللوحة للفنانة رؤيا رؤوف
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …