علينا أن نسأل سؤالا مباشرا وصريحا : هل هناك إرادة جماعية لتأسيس إستراتيجية عربية بعيدا عن أية انقسامات وأجندات ؟ هل اقتنعنا بأن مصيرنا محكم بشراكة أساسية لصنع تاريخ جديد ؟ هل صعَدَ المعتدلون نحو مطالب الممانعين ؟ وهل نزِل الممانعون إلى ما يؤمن به أصحاب الاعتدال ؟ هل كان مجئ اوباما سببا في مصالحات شكلية ؟ لقد تابعت موضوع المصالحة العربية ، فلم أجده يشغل حيزا من اهتمام الصحافة الغربية! إذ يبدو حتى الآن بأنها مصالحة داخلية غير مقنعة.. وسواء كانت بإرادة داخلية ، أم بمباركة خارجية ، فان أهم ما يمكن الاستفسار عنه : هل أنها تعّبر عن مصالح سياسية محلية خاصة بهذا البلد أو ذاك ، أم أنها تشكّل إرادة إستراتيجية في موافقة كل من التيارين المنقسمين المتباعدين والمتنافرين على صفحة مبادئ وثوابت مشتركة ؟ إن تاريخنا المعاصر حافل بالتنافرات والمقاربات .. بالانقسامات والمصالحات حتى دعيت مرحلة كاملة بـ ” الحرب العربية الباردة ” في الأدبيات الغربية وخصوصا تلك التي شهدها العرب إبان الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي .
إن المشكلة الأساسية في وجود تيارين مضادين في الحياة السياسية العربية يصلان إلى حد التناحر مرة ، وينزلان إلى حد تبويس اللحى مرات أخرى ، تكمن في طبيعة الرؤية إلى أهم معضلات المنطقة بأسرها .. ويبدو أن ثمة أسبابا خارجية وإقليمية هي التي تحرك المواقف الداخلية بين البلدان العربية التي لم تخرج على العالم بإستراتيجية حقيقية باستطاعتها الوقوف أمام الآخرين الذين لهم وصايا وأجندات خطيرة في شؤوننا الداخلية .. إن كل بلد عربي لا ينطلق إلا من خلال مصالحه ، لا من خلال مصالح جمعية قوامها ما اصطلح عليه بـ ” الأمن القومي العربي ” منذ أكثر من خمسين سنة . إن المصالحة لا يمكنها أن تكون راسخة إن بقيت قناعات المشاركين مختلفة بشأن الصراع العربي الصهيوني ، ومشكلة سلام الشرق الأوسط ، ودور إيران في الشأن العربي سواء بإبعادها أم بالتحالف معها .. ثم هواجس الخوف وفقدان الثقة بسياسات الولايات المتحدة التي لا يعرف احد من القادة والزعماء العرب كلهم : ما الذي تريده من المنطقة ؟ لم يعد احد يطمئن لتلك السياسات التي لا يعرف احد إلى أين ستقودنا رفقة متغيرات إسرائيل الجديدة على الساحة ، وما الذي يمكن عمله إزاء مسألة شائكة لا يمكن المصالحة من دون أن تحسم ضمن ثوابت ينبغي الاتفاق عليها ، وهي : هل الخيار ، تسوية سلمية يكرس العرب كل إمكاناتهم من اجل تحقيقها ، أو هو طريق المقاومة المسلحة الذي يتبناه اليوم الشارع السياسي فكرا وشعارات .. وإذا كان الخيار الأول لا يقبل إيران مهما كانت سياساتها ، فكيف سيقبل دخولها في تحالف إقليمي مع العرب ؟ وإذا قبل الممانعون إيران كونهم يتفقون وسياساتها ، فهل يقبلون تدخلاتها في اغلب الشؤون العربية بدءا بالبحرين وانتهاء بالمغرب التي أعلنت عن قطع علاقاتها الدبلوماسية معها ! ؟ وأيضا : هل يمكن لدول الطوق كلها اليوم فتح جبهة صراع ضد إسرائيل ؟ وهل أن مصر والأردن مستعدتان لإلغاء معاهدتيهما مع إسرائيل من اجل الممانعة ؟
إن الأمور ، أما أن تناقش بثوابتها أم لا تشغلنا صغائرها .. هل مصر مستعدة لخوض حرب مقاومة ضد إسرائيل ؟ كما تطالب الجماهير العربية ؟ ما الذي صنعته المؤتمرات العربية سوى الحلقات المفرغة من جولات مكوكية لهذا الوزير أو ذاك ، وإنتاج المزيد من الشعارات الواهية التي لا يؤمن بها أصحابها ! إن الدعوة إلى تحكيم العقل والضمير .. دعوة رائعة من اجل ” تجاوز الخلافات لصالح استعادة التضامن العربي حرصا على مصالح العرب وكرامتهم ” .. ولكن ما الآليات ؟ ما سبل التلاقي وما أسباب الخلاف ؟ هل ثمة إستراتيجية معينة معلنة ، أو خفية يتفق عليها الجميع من اجل القضاء على الخلافات لا بتجاوزها فقط ! ومن اجل العمل المشترك نحو غايات عليا، لا من اجل تضامن فارغ المضامين ؟ إننا نسأل : هل المسألة تبادل وفود فقط ونقل رسائل تطمينية ؟ هل مشكلة ( الأمة العربية ) تنحصر في اعمار غزة ؟ أم معالجة الأسباب التي كانت وراء انسحاق غزة ؟ هل التوافق العربي هو مجرد التقاء بين تيار الاعتدال وتيار الممانعة ؟ أم الأمر اكبر واخطر واشمل بكثير مما نتصور ؟ إننا نتمنى أن تسفر جهود المصالحة عن إستراتيجية بإمكانها صنع قرارات موحدة ، لا عن رغبة واهية في ردم هوة الخلاف بين التيارين ؟ ماذا تنفعنا الرغبة تلك والقناعات تمشي في طريق آخر ؟ ماذا تنفعنا الرغبة ، وكل من التيارين قد وضع بيضه في سلال مختلفة للآخرين ، وهم أنفسهم ليس باستطاعتهم حمل تلك السلال ؟ إنني مؤمن جدا بتشكيل إستراتيجية عربية ينتظرها كل الشرفاء بعيدا عن المناخات السائدة والموبوءة بعوامل الفشل .. إنني مؤمن بأن الانتصار على الانقسامات والتمزقات ، لا يمرّ إلا من خلال مشروع شراكة مبدئية مستقبلية ، كنا قد نادينا به منذ زمن بعيد.. ولكن أن يجرى البحث عن رغبات وتطبيع مناخات وتأدية مصالح آنية .. وان نضحك على أنفسنا بالتغاضي عمّن يتلاعب ليس بقدراتنا بل حتى بأهوائنا ومشاعرنا .. فان أي دعوة مصالحة سوف لا يكتب لها أي نجاح ، إن لم تكن نابعة من صفحة ذكية الأبعاد والعمل ضمن ثوابتها لخمسين سنة قادمة ! فهل للعرب القدرة على العمل والتنفيذ ؟ ومتى ينتصرون بوجودهم من خلال شراكة مصيرية بعيدا عن الشعارات والرغبات والأهواء ؟
البيان الامارتية ، 11 آذار / مارس 2009
وتنشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …