مقدمة : غيبوبة العقل
كم هي حاجة مجتمعاتنا العربية قاطبة الى العقل والادراك ومسالكه الحيوية المتمثلة بالمنطق ، والفكر المعاصر ، والتفكير الحر ، والرؤية الواضحة ، ومناهج النقد ، والافكار الجريئة ، وخلق الجديد ومشروعات الابتكار مع اتساع الافق .. فالعالم ، بمجتمعاته المنتجة ، يتقدّم الى الامام بشكل عاجل لا يمكن اللحاق بكل منجزاته وابداعاته واستحداثاته .. ان ” الفكر” غير ” التفكير ” ، وان لا ابداع في الاول ان لم يشتغل الثاني بشكل انساني وعملي صحيح .. كما يصطلح على ذلك اغلب علماء الاجتماع والفلاسفة من المعاصرين الذين يهتمون اليوم بامرهما كثيرا ، باعتبارهما يقودان حركة اي مجتمع معاصر الى الامام بمعزل عن كل من يريد جذبه نحو الماضي .. وكما نعلم ان الزمن قد تجاوز الماضي اليوم بكل متغيراته الجذرية وتبايناته الفكرية وتشيؤاته المادية .. وان الانسان بات لا يستطيع ان ينفصل ابدا عن حياة هذا العصر ومنتجاته وابداعاته وكل مخترعاته وتطوراته في كل مجالات الحياة . إن حجم ما يعالج من موضوعات في هذا الذي يسمونه (فكر ) في مجتمعاتنا لا يتناسب ابدا مع ما يحتاجه الواقع المضني المتهالك الذي نعيش مآسيه ونعاني من اوصابه ومشكلاته التي لا اول لها ولا آخر .. ونحن ندرك بداياته المحددة وانطلاقاته المعينة ومدي متطلباته الاساسية في التغيير الجذري ، والامر يختلف بالنسبة للنهايات التي سوف لن تنتهي..
ان الفكر الناضج والحيوي يبقي مدى التاريخ حيا لا ينضب ولا يموت.. وقد آلت مجتمعاتنا الى النكوص بفعل جملة عوامل اجتماعية وسياسية وتاريخية ، وغدا الناس في فكرهم وتفكيرهم اليوم اشبه بمقلدين مغيبين عن الوعي الواعي بنفسه ، بل ويخشى كل انسان من الاعلان عن اي فكرة جديدة ، ناضجة وحيوية ومدنية يحتاجها الجيل الجديد .. وغدت اساليب التربية والتعليم بليدة ومتخلفة على اشد ما يكون التخلف ، وبدت تصرفات المجتمع تملؤها العواطف الساخنة ، والاوهام الكاذبة والتناقضات المخيفة ، فهي مترنحة وفوضوية والناس فيه الي شحوب كأنهم يتحشرجون في طريقهم الي الموت بعد ان عصفت بهم الاقدار ذات اليمين وذات الشمال من دون ان يعرفوا من اين يبدأ طريقهم!
محنة الوعي والثقافة والانتاج في مجتمعاتنا
الحياة في كل منطقتنا بما فيها العربية والايرانية والتركية .. وما يلحق بها او يتعايش معها من ثقافات للاقليات الاجتماعية الاخرى .. انها في الحقيقة ، ثلاث اكبر ثقافات في الشرق الاوسط ، ستمضي من سييء الي أسوأ وستبقي مفتوحة لكي تتلقي المزيد من الضربات الموجعة من دون ان يستفيق اصحابها ابدا من نومهم.. قال لي صاحبي: بل هم احياء لكنهم كالاموات.. قلت: ستبقى هذه المجتمعات تعاني من المحن واضراب الاحن وهم يشيعون انفسهم الي طيات الثري من دون ان يفكروا يوما بأن يكونوا من اصحاب العقل والرشاد والتفكير المعاصر والتمدن ليعترفوا في لحظة واحدة انهم من المذنبين ، ومن دون اي احساس بما آلت اليه اوضاعنا على ايديهم ! ان المجتمعات في منطقتنا أخذت تدور حول نفسها منذ ثلاثين سنة مذ هّبت عليها رياح التعّصب والتواكلية والتكفير والانشغال الاجتماعي والسياسي بالعواطف بديلا عن العقل ، وبالتقاليد بديلا عن الابتكار .. انها تحاول ان تعيش مخيالها الذي يجعلها تفكر بمثاليات نفسها وانها الافضل في هذا الكون .. فضلا عن كونها واقعة تحت سطوة عاملين خطيرين اثنين : الدولة المزيفة والاعلام الكاذب وبكل ما يرّوجه كل منهما من ثقافة الممنوعات ، والمحرمات ، وتقييد العقل ، وتقييد الحياة ، وتحريم مناهج وقراءات ورؤى واساليب تعتبرها مجتمعاتنا اليوم هي المشرعة للبحث عن حقائق الاشياء .. والحقيقة حتى العادية مغيبّة وراء طيات الادمغة البليدة . وساهم في دفع هذه الغوائل ضد الفكر الحر مجموعات من الكتّاب الذين سّموهم بـ ” المفكرين ” والذين رّوجوا على مدى ثلاثين سنة مضت كل المضّادات للحياة الحديثة تحت شعارات وحجج كسيحة .
هول التناقضات وزحمة الثنائيات والمزدوجات
اذا ما قيض لمن يتابع ويتدارس بعد ان يتأمل المسيرة الفكرية لمجتمعات كل المنطقة في القرن العشرين فسيري العجب العجاب من هول التناقضات وزحمة الثنائيات التي يعج بها تفكير الناس ، وكلما يتقدم الزمن نحو الامام سنجد ازدياد شرخ الهوة بيننا وبين العالم .. لقد كنت قد عالجت هذا ” الموضوع ” في العديد من المقالات قبل عشرين سنة ، بل وثمة تحليلات موسعة يتضمنها كتابي ( التحولات العربية : اشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل ) المنشور عام 1997 . ان التفكير الوهمي الذي يسود مجتمعاتنا سيبقى سائدا ومكرسا للهزائم والانقسام والتشرذم والتخلف .. انه يقضي على كل تفكير مخالف له في الحياة ، وهو عقيم لا ينجب المبدعين ولا يعتني بالرائعين ولا يسمح بأي حريات ويحارب الاستنارة والانفتاح ويتسلط على كل ما هو مدني وحضاري .. انه سيلتقط الرؤي ويتلهف لمن سبقه ويسير علي الخطوات المتعبة نفسها من دون ان يرسم له اي منهج جديد في التفكير ولا اي مشروع جديد في الرؤية والحياة.. ربما سيبرز هنا او هناك من له القدرة ان يخرج من الدوامة البلهاء ، وسيغدو متحررا ليلحق وبشجاعة بالغة بالاحرار وبالثقافة المدنية وبالتفكير المدني وسيكون جزءا من النخبة الرائعة ويترك هذا الخليط العجيب من الملايين الذين يعيشون الاوهام وهم يستمعون الى قادة وزعماء وكتّاب وصفوا انفسهم برواد وبمثقفين ومفكرين وهؤلاء هم الذين اساؤوا الي التاريخ والواقع وهم يسمون انفسهم بـ(المفكرين او المثقفين ) الذين لا يدركون اولويات المعاني والاشياء وهم ينفخون انفسهم بالالقاب العلمية او بصفات المختصين او بمناشيتات الاعلاميين المزيفين! وليس لهم الا التنطع على شاشات الفضائيات او استعراض تخلفهم على صفحات الصحف والمجلات .. او القاء مواعظهم وانشائياتهم السمجة في ندواتهم ومؤتمراتهم التي لا تعد ولا تحصى .. واذا جادلتهم بالتي هي احسن ، فاما اتهموك في دينك او تعرضوا لشخصك باقبح الصفات !
التفكير في سجن رقم واحد
انهم لا عقل لهم .. وهم لا يفكرون بحرية .. انهم يؤمنون بالمطلقات ولا يدققوا في نسبية الامور .. انهم من ابعد الناس عن قراءة الفلسفات ومناهج العقل .. انهم لا يؤمنون بالتفكير العلمي .. وعلييه ، فهم لا يدعون الى اي فكرة ناجحة تنشر علي الناس ولهم القدرة في محاصرة كل الاكفاء والاذكياء والموهوبين والمبدعين.. لتهميشهم او تهجيرهم او حتى سحقهم ان اتيحت الفرص امامهم .. وتجدهم اليوم وقد غدوا مجموعات من المافيات ، فهم يتلاعبون بمصالح انبل وسائل الفكر والتفكير واجهزة التربية والتعليم .. لا يريدون ان ترتسم الافكار الجديدة في تشكيلاتها وبنيوياتها.. وهناك من هو مسلط علي النابهين تجدهم عصابات سياسية واعلامية وجامعية وقلوبهم شتي.. تجدهم غرقي بكل الموبقات: يحاصرون فكرة الحقيقة ويحقدون علي نخبتها العليا ، ويكرهون الاحرار كراهية عمياء ، كون اي انسان حر لا يفكر وهو في سجن رقم واحد ، اذ انه يفكّر ولكن ربما في معتقلات من نوع آخر .. انهم يستخدمون ببساطة كل فنون الارتداد والتراجع: حظر قضائي ، وقهر اجتماعي ، وعهر سياسي والاتعس هو التسلط الايديولوجي او الطائفي .. التهم جاهزة بكل اوصافها التعيسة والجارحة لكل من يقف معترضا علي هذه الحال والاحوال.. وكم كاتب ومفكّر ومبدع وفنّان .. ذهب ضحية تلك الاحقاد والخصومات عندما يخالفك احد برأيه، فيصبح وكأنه صاحب مثالب او كأنه من عتاة المجرمين.. واصعب الامور عندما يسكت المفكر الحر والكاتب الشجاع عن مأساة شعب ! او انحدار مجموعة مجتمعات .. ثمة نقطة اخرى من مأساة العقل وخذلانه عربيا متمثلا ذلك بافتقاد الروح الجماعية لدى النخب العاقلة .. ان الفردية والانانية هي سمة عربية في مجتمعاتنا اليوم ، اذ افتقد العمل بروح الفريق ، بل ولم اجد اي تعاون او تعايش لدى النخب العاقلة لاسباب فكرية وسياسية بالدرجة الاولى .
شحوب الفكر في مجتمعاتنا .. لماذا؟
نعم انه شاحب ما دام لا يعبر عن الواقع المضني تعبيرا ملتزما وامينا وحياديا وصادقا.. لقد نخرت الايديولوجيات والتحزبات السابقة كل منطلقاته الاساسية واولوياته الحقيقية ، وقد اختلطت الامور بعضها ببعض آخر، فالمؤسسات العلمية في منطقتنا بائسة تمام البؤس والاعلام في منطقتنا بكل اصنافه ووسائله واجهزته وشبكاته ينتسب الى اطراف لها اجندات ومصالح سياسية او فكرية معينة .. قد وصل الي درجة من التفاهة والبشاعة بحيث غدا يشوه ويسمم عن قصد وسبق اصرار كل الصفحات البيض التي سيمتلكها الجيل الجديد باسم التقاليد مرة وباسم الدين مرة اخرى وباسم التاريخ والسياسة والسلطات مرات اخرى .. اصبحنا نجد من يسمّون انفسهم كتابا كبارا ومحللين سياسيين واستراتيجيين لا يعرفون الا اللف والدوران من دون ان يعلموا الاساليب الجديدة والمبتكرات الرائعة ودون ان يكونوا بناقدين شجعانا .. ودون ان يفكروا يوما بكيفية الانفصال والقطيعة عن كل خطايا القرن العشرين .. بل ودخل المعترك اناس بلا عقل ، فهي لا تفقه معنى الكتابة ولا اصول التفكير ، ولا اساليب التحديث بل ولا حتى المعاني الاساسية التي كانت تتربى عليها الاجيال السابقة ، وكلها معاني وطنية ومدنية وجمالية وبنائية ونهضوية حضارية .. بل وكان بعضها ينادي بالحريات والتقدمية والاشتراكية ..
البدائل الكاذبة باستعادة التفكير المدني والنقد الحقيقي
لقد اعلن رسميا واعلاميا في العديد من المناسبات خلال السنوات العشر الاخيرة عن اجراء تغييرات واصلاحات وبدائل لدى عدة اطراف ، وكلها لا تنتهي الى اية حقائق ولا يصار لها اية قوانين .. ولم نجد اية ممارسات من اجل انقاذ الاجيال الجديدة من اوضاع قاتلة بانطلاق ثورة علمية في اصلاح التربويات والمناهج الدراسية ، وباءت كل النداءات العربية التي اطلقها بعض العقلاء العرب بالفشل ، وذهبت صيحاتهم ادراج الرياح . لقد اصبح الشغل الشاغل للساسة والكتاب والاعلاميين والمعلمين والجامعيين .. ان يشاركوا في هذا العرس المجنون ليشاركوا بكل زيفه من دون اي تفكير نسبي ، ولا اي شرط فكري ، ولا اي افق مستقبلي .. انهم فرحون بما آلت اليه اوضاعهم التي رسمها وقادها كل الماضويين الذين قبضوا على انفاس الحياة من خلال سلطاتهم المرعبة في المجتمع على امتداد كل المنطقة منذ ثلاثين سنة بالضبط ، وغدت لهم مؤسساتهم العنقودية المزدحمة برجال سلطة اجتماعية قاهرة قبل ان تصبح مقاليد الدول بأيديهم ، فكيف يمكننا ان نتخيل الاوضاع ، وقد غدت دولنا قاطبة بأيدي هؤلاء كالذي حدث في دول معينة وهي اساسية في المنطقة ومنذ العام 1979 ؟؟ وهذه نقطة جديرة بالاثارة لكل ابناء المجتمع بدءا بالقادة وانتهاء باصغر المواطنين . لقد غدا الناس يغرمون بحضور الندوات والمهرجانات وكأنها احتفاليات اجتماعية من دون ان يفكروا قليلا ما الجدوى من سماع بيان سياسي مجلجل ؟ وما نفع القاء قصيدة شعر ساخنة ؟ وما تأثير اغنية عاطفية يعيدونها ويصقلونها ببلادة وجنون؟! اما ما يسمي بالبحث العلمي ، فلقد ضحكنا علي انفسنا طويلا نحن العرب ـ مثلا ـ ولم تزل جامعاتنا تتنطع بهذا الذي يسمونه (بحث علمي) وكم استهلكت الاخلاق في خضمه؟ وكم سرقت جهود وافكار باسمه؟ وكم نشرت مجلات ودوريات واعمال مؤتمرات لا فائدة منها البتة؟ لسبب بسيط واحد هو ان العملات الرديئة طاردة دوما علي مدي عقود من الزمن لكل العملات المنتجة والمبدعة الناصعة والجيدة من اماكنها الحقيقية..
لا معالجات حقيقية من دون نقد حقيقي
الناقد عندنا لا يستطيع العيش في اوساط الذين لا عمل لهم الا كيل المديح وهز الرؤوس او وسط اقوام من المنافقين والكسالي والاغبياء.. انه يعرفهم لا يقرأون ولا يهتمون ابدا وتجدهم يعلنون بكل صفاقة عن توزيع احكام بالجملة علي هذا وذاك.. الضحية من يقول كلمة حق في هذه ( الامة العظيمة )! الضحية من لا يجامل علي حساب مشاعر الاخرين! الشجاع هو الضحية دوما في حياة هذه ( الامة المجيدة ).. انه الذي يكشف ما استطاع من التزييفات التي تصل الي حد الجبن عند الاخرين من الذين يتربعون في اماكنهم ويوزعون احكامهم وسفاهاتهم! المفكر الحقيقي من استطاع ان يعالج النصوص والاقوال ، وجملة مقول قول الخطاب بكل جرأة ومضاء ، ودقة وصبر ، ويكتشف الحقائق ويعلنها من دون ان يلتفت الي هذا وذاك.. المفكر الحقيقي هو من يهتم بالمعلومات لا بوجهات النظر، انه يؤسس علي الاولي ويحترم الثانية.. وكم نجد من موضوعات مكررة في حياة هذا الفكر ( العربي خصوصا ) الشاحب ويا للاسف الشديد.. تجدهم يقّلد احدهم الاخر ، ونادرة هي فرص الابتكار بعد تحليل التناقضات والكشف عن الاخطاء ، واسداء الحلول ، وتقديم المعالجات.. وكما يحدث في كل الفنون (الادبية) والمنتجات (العلمية) انحسر امر المقروءات علي حساب اي نوع من الكتابات ، وندرت الاعمال المترجمة عن اللغات الاساسية الحية في العالم، وتقلصت حتي تلك القراءات التي يستلزم من المثقف العناية بأمر اقرانه ومنتجاتهم.. تجد عقدة ( الخواجا) من جانب وعقدة ( الملالي ) قد تمكنتا في اعماق هذه السيول العارمة من نخب الكتاب والمثقفين والمعلمين والمهنيين او من يسمون انفسهم باعضاء المجتمع .. وعلي الرغم من تلك العقدة الخفية القديمة او هذه العقدة المستحدثة ، فالكل يلعن الغرب ليل نهار ولا يميزون ابدا بين مجتمعات الغرب وبين سياسات دوله! كما ان مجتمعاتنا باتت لا تميّز بين المعاني والتشيؤات ولا تعرف كيف ولدت مجتمعات معاصرة منتجة وذكية في عالم اليوم وهي غير محسوبة على الغرب ابدا .. بل انها في اقصى الشرق البعيد !
خذلان العقل وتيّبس الواقع
إن ما انطلق مشّوها بعد العام 1919 قد ناضل في ظل مناخ ليبرالي مستنير الى حد كبير ، ولكن ما فرض على مجتمعاتنا بعد العام 1949 من انقلابات عسكر ومؤدلجات وخطابات وشعارات قد اضّر بها ضررا كبيرا ، ولكن الفجيعة ما هيمن على مجتمعاتنا المعاصرة بعيد العام 1979 من اطواق فقهية وطائفية وولائية وسلطوية ومذهبية وامنية ورقابية وحزبية وجماعاتية تكفيرية وقوى شوفينية عديدة قد زادت في خذلان العقل في مجتمعاتنا التي طوقتها الايديولوجيات المستوردة والتافهة والرومانسية البليدة منذ اكثر من خمسين سنة وخصوصا بعد العام 1949 حتي غدا اليوم عند بدايات القرن الواحد والعشرين يخشي علي نفسه من ظواهر لم تكن موجودة في ما مضي من الايام.. ومثلما عشّشت في النفوس والمشاعر الساخنة تعبيرات كالخيانة والرجعية والعمالة.. الخ في قواميس الكتاب والمفكرين القوميين والراديكاليين التقدميين ، ولا ادري لماذا تركوا استعمالها اليوم .. شاعت اليوم تعبيرات مثل التكفير والردة والضلالة والمروق على الدين والخروج عن الاجماع .. الخ وكلها تكشف عن وجوه تختفي وراء اقنعة ايديولوجيات سياسية هشة باسم الدين ، وهي لا تقاوم هذا الواقع.. او انها تعيش وراء جدران السلطويات المتنوعة في كل من الدولة والمجتمع.. وحيث تبلورت للوجود نخب شابة جديدة من جيل جديد، فلقد ورثت الانماط نفسها والعادات ذاتها، ولكنها اليوم تعيش فراغا قاتلا بين واقع موبوء بكل الامراض السيئة وبين متغيرات صاعقة هي بمثابة صدمات قوية جدا. وعليه، فالمطلوب هو الوعي والقانون والمجتمع المدني للبدء من جديد على تنوير العقل والانفتاح علي حياة هذا العصر الجديد الذي لا يمكننا مقاومته ابدا، والا يضحك علي الناس من يقول بأنه سينعزل عن روح هذا العصر وهو لا يشعر بأن كل معطيات هذا العصر تحاصره وهو المستفيد منها اولا وآخرا ، بل واتحدى اي منعزل عن حياة هذا العصر ان استطاع ان يحيا 24 ساعة فقط من دون ما ينتجه هذا العصر!
هل من احتضان بدائل جديدة ؟
هذا هو السؤال الحقيقي الذي لابد من التفكير به ، والاجابة عليه مع طرح نوعية تلك البدائل، فالدنيا تمشي الي الامام ولا يمكن ارجاع القديم الي قدمه ابدا.. هل ستتوفر اكثر من ارادة اجتماعية جديدة في منطقتنا تعلن بكل وضوح عن اجندة مستقبلية؟ هل من بداية لزمن تشيع فيه النقدات الحقيقية ويتوفر فيه قدر من الحريات والجرأة وان تكون هي نفسها رقيبة لاعمالها؟ وليس معني استخدام الحريات ان يتحول الناس الي لوحة سوريالية من المضحكات المبكيات كالتي تمارسها اليوم بعض القنوات الفضائية الفوضوية او اغلب اجهزتنا الاعلامية والثقافية بكل جهالة اعلامييها وتنطع ضيوفها.. فالمخفي كان اعظم. ان ابعاد الفكر المعاصر في مجتمعاتنا عن شحوبه يستلزم اساسا ان يبعد كل من المفكرين والمثقفين والساسة والمهنيين من ابناء النخب الحيوية عن السايكلوجيات والعادات السيئة الموروثة ، وان يكونوا ملتصقين حقيقيين بواقعهم المضني لا ببهرجة التلفزيونات والندوات او بخطابات ومواعظ المتخلفين ! علي من يحمل رسالة شريفة وامينة باسم الفكر واستعادة الوعي ان يبعد مشاعره عن روح الاحقاد والكراهية وعن الدهاليز المظلمة التي لم تجد النور ابدا .. عليه ان لا يجحد اعمال غيره من اقرانه.. وان يحترم الرأي الاخر ، ولا يبخس باية بضاعة كانت الا بعد فحصها وتبيان مثالبها.. علي امثال هؤلاء من سدنة الايديولوجيات التي تتبناها مراكز بحوث ومؤسسات ومنظمات وجماعات واحزاب.. ان تبتعد عن التفكير السوقي ، والبضاعة الفاسدة ، والشعارات العتيقة.. عليهم الابتعاد عن العفرتة والزقاقية والابتذالية والمجونية والتكفيرية والممانعة والتشهير والكوميديات الهزلية بعرف العقلاء.. ان يتخلصوا من الدعايات المجانية والخطابات السيئة واساليب التعتيم علي الصرحاء الطلقاء الاحرار من علماء ومختصين وادباء ومثقفين ومبدعين حقيقيين.. عليهم التخلص من الببغاويات والتكرار والترديد واليات التقليد ناهيكم عن جلافة التفكير والادانة ، وعن سرقة الافكار والمجهودات عن الآخرين.. كما ان بعضهم بات يعلن ، من اجل تسويق نفسه ، انه صاحب شهادة دكتوراه وهو كاذب على نفسه وعلى الاخرين .
انني اذ اختتم هذا ” الخطاب ” النقدي ، اعد قرائي الاعزاء بالرجوع اليه كرات اخرى لمعالجته بشكل موسّع .. وان لم اوزّع اي فسحة للامل ، فان التطلعات لا يمكنها ان تزدهر الا عند الشروع بالتغيير . ان ضرورات التغيير ينبغي ان يؤمن بها اغلب الناس من اجل ان نستعيد النزعة البنائية والحضارية والمدنية التي لا سبيل لمجتمعاتنا وتقدمها وازدهارها الا من خلالها . فهل تعلمنا الدرس من كل ما حصل عبر اكثر من ثلاثين سنة من النكوص والشحوب والذبول ؟ انها مأساة العقل المفقود والمغّيب والمهاجر في مجتمعاتنا جمعاء .
www.sayyaraljamil.com
ايلاف ، 22 اكتوبر 2008 . ( يذكر المصدر ايلاف في حالة اعادة النشر ).
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …