ليس من شك في أن أية محاولة للتعمق في تاريخ العراق والعراقيين تفضي إلى كشف كثير من طاقات أدبية وعلمية وسياسية نهضت سريعا في العراق لكنها سرعان ما انطفأت وهي في أوج عطائها ، مما يجعلها حتما خالدة في مملكة الروح المجسدة للعدل والنضال والثقافة حتى ولو افتقرت ، لزمن ٍ قصير أو طويل ، إلى قصور الذاكرة التاريخية أو إلى قصور ذاكرة المؤرخين العراقيين أيضا .
من تلك الطاقات العراقية الوهاجة ، كان علي الجميل الموصلي (1889- 1928 ) الذي تجمعت معلومات تاريخية كثيرة حوله لتعلمنا بشيء عن تجربته الشخصية وتجرده عن المصالح والمناصب . كذلك لتخبرنا عن نهج عمل بموجبه خلال حياته القصيرة التي أنتجت عطاء كبيرا عن الناس والتاريخ في مجتمعه الموصلي . كان عطاؤه في بدايات القرن العشرين ، اطلعتُ على بعض منه من خلال جهود حفيده الدكتور سيار الجميل وهو يبحث في التاريخ الموصلي وفي الوثائق العائلية ليكشف لنا ليس عن مواهب متفجرة حسب ، بل عن معارف متنوعة اتسعت وتجددت خلال فترة قصيرة من عمر علي الجميل وعن تواصله الإنساني الذي جعله مصدرا ، لا غنى عنه ، في أي اقتراب من تاريخ الموصل .
من صفاء فعاليات هذا الرجل أود التركيز على نقطتين :
الأولى : نزوعه نحو كتابة الأدب كوسيلة تنوير .
الثانية : نشاطه السياسي كمقوّم أساسي في عملية التنوير .
أن رغبة وفعاليات علي الجميل وبحثه عن المعرفة دفعته إلى المساهمة في تأسيس ( النادي العلمي في الموصل ) عام 1919 بعد احتلال الانكليز لهذه المدينة كمحاولة منه لجعل هذا التجمع محفزا ومحركا أساسيا لـ” الجماعة الوطنية ” في مواجهة ” الآخرين المحتلين ” . وليس من شك أن هذه الخطوة جاءت متوافقة تماما لخوض معترك أيام صعبة ومعقدة مرت بالعراق في تلك المرحلة ، كما أنها جاءت متجاوبة مع الحس الوطني العام في مدينة شمالية من العراق ( الموصل ) ضمن نموذج تعبيري يربطها مع وعي و نشاطات وفعاليات مماثلة جرت في بغداد والبصرة والنجف ومدن جنوبية أخرى سائدة بنفس الظروف ونفس العوامل ونفس المواجهات . بمعنى أن النادي العلمي في الموصل كان حلقة وثيقة من سلسلة الحلقات التنويرية التي انتشرت في تلك الفترة ، ليس في العراق حسب ، بل في سوريا ومصر وغيرهما من البلدان العربية .
مع الأسف الشديد أن الاستقصاء الوطني المطلوب عن ( النادي العلمي في الموصل ) وعن الشخصيات المسيحية والإسلامية التي ساهمت بتأسيسه لم يكتمل ، بعدُ ، رغم أهميته التوثيقية في الحياة الثقافية العراقية ورغم عناصره الإيجابية التي شكلت جزءا من تاريخ النضال التنويري المتعدد الأهداف خاصة إذا ما عرفنا أن ( النادي العلمي ) كان قد اصدر مجلة بنفس العنوان ، كتب فيها العديد من المثقفين الموصليين مقالات ودراسات أصيلة ومواقف حاولت تجديد العراق وتجديد نظرة العراقيين إلى الحياة ، مما قد يحقق مهمة وضع نتاج تلك المرحلة تحت يد الباحثين والدارسين في هذه المرحلة . فتاريخ العلوم والآداب والسياسة في العراق ليس منفصلا عن حلقاته وليس مستقلا عن مكوناته مما يجعل دراسة وعرض ونشر تراجم بعض الرجال المثقفين جزءا متحركا من تاريخ الثقافة في العراق كله . هناك قصور كبير ، كما هو معروف ، ليس في دراسة الذاتية الثقافية الموصلية فقط بل قصور في دراسة الكثير من جوانب القيم والتراث الروحي والفكري والنضال في العراق كله .
من المفيد حتما دراسة موروث الراحل علي الجميل لكشف حيثيات تعاقب الزمان الثقافي العلمي في الموصل وفي بلادنا كلها ، خاصة إذا ما عرفنا أن ( النادي العلمي ) كان له امتداد في النشاط الوطني داعيا إلى العمل الوطني والى التجديد والتطوير مساويا في إنتاجه وإبداعه لما أنتجته مؤسسات ومنظمات أخرى مماثلة في عدد من المدن العراقية الأخرى ، مما جعل قوات الاحتلال الانكليزي تقدم على خطوة إجرائية بإغلاق هذا النادي وتغلق مجلته أيضا .
صار ( علي الجميل ) نتيجة لنشاطه في ميادين واسعة شخصية عراقية مثيرة لكثير من الجدل ليس فقط لكونه يشكل ، مع النادي العلمي ، امتدادا زمانيا ومكانيا للقوى الأدبية والثقافية والسياسية الناهضة في تلك الفترة ، بل لكونهما ناشرين للمشاعر والأفكار الايجابية بين الوطنيين جميعا . وهذه ظاهرة يخشاها دائما كل محتل ومستعمر في مناخ مثل مناخ العشرينات في العراق . وبسبب وجود أزمات أخلاقية دائمة بين زمر ضيقة الأفق ومحدودة الرؤى في حالات سياسية واجتماعية شديدة الارتباك والتعقيد في الحياة السياسية العراقية في تلك الفترة فأن ( علي الجميل ) لم يسلم من لعبة الاتهامات السياسية ولم يسلم من تهم باطلة غير مدعمة بحجج وبراهين مما لم يكن لها أي تأثير سلبي في مكانته في مستوى النخب الموصلية الواعية ولا في مستوى الشارع الجماهيري .
يبدو لي ، من خلال قراءتي القليلة والبسيطة ، ان شخصية الراحل علي الجميل ليست من ذلك النوع من الناس المولعين بالشعارات السياسية البراقة بل هو من نوع المثقف الهادئ الذي وضع لنفسه برنامجا يعبر عن فهمه الخاص لتطور الوضع الاجتماعي والثقافي والسياسي في مجتمع مدينة الموصل التي لم تخل في مطلع القرن العشرين من حركات متنوعة الرؤى والأهداف ربما كان اغلبها مفتقرا إلى إستراتيجية فعالة قادرة على التعبئة الجماهيرية مما جعل ( علي الجميل ) باحثا عن أسس التمييز بين الشعارات السياسية وبين الرؤية الثقافية المتنورة والصحيحة .
هذا النقطة بالذات تحتاج إلى البحث العميق والى الدراسة والتحليل لمعرفة المنبع الأصلي لإرث ٍ ثقافي ٍ موصليٍ يعكس إشكال وجواهر الفهم السياسي التلقائي لموجودات الحركة الجماهيرية في الموصل خلال تلك الفترة . فهل يأتي يوما ما ، منهج في جامعة الموصل ، مثلا ، أو في منظمات أو مراكز أبحاث أخرى ، لدراسة عملية تنويرية تاريخية مرت بها مدينة الموصل لتكشف التوظيف الايجابي للنادي العلمي ومؤسسه علي الجميل وغيرهما ممن ساهم في سياق نشاطهما ، في العشرينات وما بعدها ، لاستيعاب ما عرفته الموصل من الفعاليات المنطقية والجدلية في الثقافة والسياسة لتكشف للأجيال الجديدة جزءا من حجر البنية العراقية في ذلك الزمان القلق ..
لا أظن أن أحدا يستطيع ، أن يبدأ بقوة ، للتحقيق في الأهداف الجزئية والشاملة التي سعى من اجلها علي الجميل غير حفيده المؤرخ والموسوعي الأستاذ الدكتور سيار الجميل الذي تساعده عوامل كثيرة على دراسة الوقائع الأدبية والسياسية التي انغمر فيها جده علي الجميل في فترة زمنية كان فيها الوعي الوطني والقومي والشعبي محدودا ، مما يحتم ضرورة دراسة نشاط هذه الشخصية الموصلية الرفيعة ليس من خلال درجة نضاليته التنويرية حسب ، بل من خلال دور خطابه في تحريك الثقافة والأدب بين صفوف أفراد الأجيال اللاحقة من الأدباء والمفكرين ورجال الوعي السياسي في الموصل والعراق كله . خصوصا إذا ما عرفنا أن علي الجميل كان واحدا من المؤمنين بفرضية الدور الذي تلعبه الأحزاب والمنظمات الوطنية انطلاقا من فهمه وإيمانه بالعلاقة التي تربط بين النخبة المتنورة والحركة الجماهيرية العفوية . لذلك وجد افقه السياسي الأول في الانتماء إلى ( الحزب الوطني العراقي ) من جهة والى كسب عضويته في ( جمعية الدفاع الوطني ) كي يفتح أمام نظر الجماهير آفاقا واسعة في الرؤية الوطنية وخاصة تركيزه على رفع نوعية النظرة إلى الحياة الإنسانية من خلال أبحاثه ودراساته في بعض جوانب الموروث والقيم والتقاليد في المناخ العربي والإسلامي في الموصل والعراق وغيرهما من البلاد ، إذ كان يكتب وينشر في صحف عراقية وعربية مثل جريدة ( النجاح ) التي كان يصدرها خير الدين الفاروقي ويراسل جريدة ( المصباح ) التي كان يصدرها الشاعر عبد الحسين الازري . كما كان قد اصدر جريدة ( صدى الجمهور ) في العام 1927 وترأس تحريرها وكان مديرها المسؤول المحامي عبد الله فائق وتميزت مقالاته اليومية فيها بالنقد اللاذع ونشر أفكاره الإصلاحية ومعالجاته الاجتماعية وآرائه الاقتصادية .. كان شجاعا في التعبير عمّا يريد وكان محدثا في طرح أفكاره التجديدية مما جعله هدفا لخصومه .. كان حرا في أقواله وكتاباته .. اشتهر بمنازلاته السياسية ومساجلاته الأدبية كما يشير حفيده المؤرخ الدكتور سيار ..
. بالتحديد أيضا ” ساهم هذا الرجل مع رفاقه في الحفاظ على عراقية الموصل وعروبتها عند حدوث مشكلة الموصل .. إذ يشهد تاريخه كم دافع عن عراقية الموصل دفاعا مستميتا من خلال جمعية الدفاع الوطني التي كانت تعقد اجتماعاتها في بيته واستقبال وفود بغداد ، وأشهرها الوفد الذي ترأسه الوزير حمدي الباجه جي .. ”
كما أطلعتُ في الانترنت ، فلقد ترك علي الجميل آثارا مكتوبة ومنشورة متنوعة في السياسة والأدب والكتابة الاجتماعية يمكن إيراد بعضها كما يلي :
(1) ديوان علي الجميل ومراسلاته .
(2) حديث الليل ( في النقد الاجتماعي )
(3) نوابنا في الميزان ( في النقد السياسي )
(4) أوراق علي الجميل ( المقالات والخطب القومية والوطنية )
(5) همسة في الآذان ( آراء وأفكار )
(6) شهقات ودموع ( رواية )
(7) بين الزمهرير والسعير ( قصة )
(8) التحفة السنية في المشايخ السنوسية .
كان مجمل هذه الأعمال منصبا في محاولة فتح عيون القراء على التاريخ العراقي الخاص وعلى إيجاد العلاقة العميقة بين الذاتية النخبوية وبين الموضوعية الجماهيرية من خلال التركيز على الاستقلال الفكري بتحقيق الاستقلال السياسي للوطن العراقي ومن اجل مواصلة عملية تطوير حضارة وادي الرافدين واستيعاب تاريخها للوصول إلى أساليب المعاصرة في الحياة العراقية .
أخيرا أقول إننا نجد في ارث علي الجميل رواية عشرينية اسمها شهقات ودموع وقصة اسمها بين الزمهرير والسعير أليس هذان العملان الأدبيان جديران بإعادة النشر والدراسة النقدية لمعرفة دورهما في تعاقب فنون الرواية والقصة في العراق كي يصبح تاريخ الأدب الموصلي موصولا رغم تغير الزمان ورغم تغير أساليب الكتابة في العراق خلال ثمانين عاما مضت .
كلمة أخيرة أقولها : إن تاريخ المدن يصاغ من نصوص وتجارب عناصرها المتنورة وأبنائها المخلصين .