تأتي الذكرى الثمانون لرحيل المفكر والشاعر علي الجميل في أيام تحتاج لأن تتمثله بما يناسب حضوره السابق وتقترب من أفكاره وطموحاته وذكراه ، وتتمنى أن تعيده حياً فيطل عليها لا حزيناً مشفقاً عابراً بل مقيماً، معلماً، ثائراً، وأحد قادتها المؤثرين!
لقد ناضل الرجل من أجل أفكار حية وضرورية وتألق وهو يدفعها تحت الشمس لكن الموت طواه قبل أوانه وقبل انتصاره لكن ما ناضل من أجله ما يزال مطروحاً على الطريق كأمانة ثقيلة قل من يتولاها ويوصلها لأهلها!
ناضل الرجل من أجل عراقية الموصل واليوم عراقيتها في امتحان عسير وفي مضيق صعب أوصلها إليه قادة التعصب القومي،واجتياحات بداوة الجبال والكهوف ،وقادة الطوائف ومن قبلهم هواة الحروب والقمع والاستبداد!
وناضل من أجل فكر نهضوي وثقافة حديثة،ونهج تنويري علمي وحضاري والعراق اليوم ينكفئ إلي عصور الظلام والانحطاط ونهج الخرافات والأساطير والغيبيات والشعوذة الدينية والسياسية!
وناضل بالشعر من أجل الجمال والحب والفرح والمسرات والعراق اليوم تلفه بشاعة الدم والدخان والكراهية والأحزان والمسيرات الجنائزية الطويلة والقصيرة!
قوة ماحقة أحالت ثمانين عاماً مرت على العراق بعده ومن معه من رعيل طيب نادر من الرجال إلى صحارى رماد وأشباح!
من يمسك بعنق هذه القوة الماحقة ومن يحدد شكلها الهلامي المقزز المرعب ،ومن يصور ملامحها كما هي دون خوف أو انزلاق في إغراء؟
من يشخص الداء قبل التداوي وقبل مبضع الجراح ؟
ليس سوى الفكر العميق الإستراتيجي الحر الشجاع هو من يشير إلى الغول وأذرعه الطويلة المدمرة!وإلى الداء الرهيب ومكمنه وخريطة سيره المضمرة والمعلنة!
وهنا يقوم التاريخ نفسه ،بأحياء رجال ظن الكثيرون أنهم رحلوا وطواهم الموت في أعطافه الأبدية : ينهضون من قبورهم يكافحوا بين الأحياء دفاعاً عن الحياة ودفاعاً عن موتهم لكي يربكه هذا الموت المجاني الوبائي المخزي ويظل موت الحياة في مسارها الصاعد كانطفاء زهرة على غصن أو أفول كوكب في السماء! بينا تتصاعد قوة الحياة نابضة متدفقة في جدلها الأزلي بين المادة الحية والفكر الحي!
على الجميل هو أحد المفكرين الذين غفلنا عنهم فعاقبتنا الحياة وعاقبنا الزمن وأشاحت عنا مرافئ الدنيا وأضواء الحضارة! بالطبع لا يمكن القبول أو التطابق مع طروحات مفكر كما هي ، ولا حتى أن يلتزم ببنود أو تفاصيل هي قيد الجدل والتمحيص والحوار ولكن علي الجميل والرعيل الذي عاصره أو تلاه حتى انهيار الدولة العراقية المدنية في 14 تموز 1958 غرسوا صوى وعلامات فارقة على الطريق ما كان ينبغي اقتلاعها أو ردمها حتى لو وجنا أن الطرق الجديدة قد تتقاطع معها أو لا يمكن أن تبقى موازية لها لأمد طويل ، رغم أن أفكار هؤلاء والإشارات التي تركوها كانت تمتلك من الرحابة والمرونة ما يجعلها إشارات إلى الأفق العريض وليس لأقواس نصر الحروب والمعارك التي شنت على الشعب وعلى الوطن لا على أعدائهما هنا أو هناك!
لا أريد الخوض هنا في تفصيلات وجزئيات تقتضي بحثاً ضرورياً حقاً ولكن بودي أن أؤكد على قضية هامة ،وهي أن الإحساس بالوجود القومي ،والشخصية العراقية : أخذ اليوم في النهوض والتصاعد في ظل الإبادة الطائفية والقومية والعدمية الدينية ،إنه ينهض من جديد وبشكل يختلف مع ما روج له قادة الأحزاب القومية وحزب البعث فانبثقت عنه شعاراتهم الفضفاضة وحروبهم الخائبة ،إنه فكر مختلف يعود ثانية لتلك الأفكار التي وردت لدى على الجميل وصحبه من القوميين والوطنيين الذين اضطرهم الاضطهاد التركي وسياسة التتريك المعروفة إلى طرحها والكفاح من أجلها في خطبهم أو ندواتهم أو مؤتمراتهم ! إي إنه فكر قومي وطني يقوم أساساً على مبدأ الدفاع عن النفس وعن الأرض وعن الإرادة لا للتوسع والاستحواذ على أرض وإرادة الآخرين!
من هنا ينبغي البدء في تناول ونشر فكر على الجميل،فهو مفكر يدافع عن وجود دون أن يهشم وجود آخر، إي أن محتوى فكره وجوهره إنساني ينتصر للإنسان دون تعصب أو استعلاء أو انحياز للذات وأخطائها أو تاريخها بمجمله وبكافة تناقضاته!
استعادة ذكرى الرجل وصورته كان خطوة هامة!
دراسة أفكاره والمبادئ التي نادى بها على ضوء الواقع الراهن ضرورة قصوى !
لقد أحالنا التاريخ إليها والأفضل أن نقبل عليها راغبين لا مرغمين بفعل نكبات جديدة ،ومن هنا منشأ الكلمة التي تقول إن المفكر حي داخل كلماته، ويهب الحياة في حياته وموته!
وتلك مأثرة لا يمتلكها أحياء كثيرون يصولون اليوم ويجولون!