لست ممن يدعي الكفاءة في الولوج في مثل هذا الموضوع الخطير الشأن الذي يتطلب الدرس الطويل والنظر الدقيق. فقد عجز فحول الكتاب عن تحرير ما يستوفيه من الوصف اللائق الذي ينجم عنه سعادة الأمم والبلاد وضاق بهم المجال لإيجاز شيء عن ذلك المراد ، ولكن هناك واجباً وطنياً دعاني لخوض عباب هذا البحر الزاخر واقتحام تلك الأمواج المتلاطمة وشجعني لذكر نبذة عنه فقلت:
كما أن العلم أقوم أساس لنهضة الأمم وأكبر راعٍ لحياتها وسيادتها ، كذلك يوجد سبب آخر تتوقف عليه سعادتها وتبلغ بواسطته أسمى مرادها، ذلك السبب مقترن بالعلم اقتراناً تاماً بل مرتبط فيه أشد الارتباط لا العلم – بدونه – ينجي أمة من حضيض الهوان. ولا هو – بدون العلم – يسعد نجمها مهما سعى بنو الأوطان، فهما إذن توأمان في ذلك وأقوى دعامتين لحفظ كيان الأمم وأكفاء ساعدين لشد أزرها وفوزها في معترك هذه الحياة.
ذلك هو حب “الفكرة القومية” واحترامها. فقد علا صوت الأنام بطلبها وقبولها وخصوصاً الأمم الحية التي أدركت حق فائدتها فتسامت بواسطتها ما تسامت..
إذا وقفنا قليلاً ونظرنا إلى أحوال البلاد الراقية ودققنا أسباب وحدتها القومية السياسية ، نجد أنها لم تنل هذا الشأن الرفيع والمجد التليد إلا بقبولها لهذه الفكرة وأمامنا الأمم الأورباوية التي لم تتخلص من ذلك الجهل الحالك الذي كان قد أعمى أبصارها وغشى قلوبها وخيم عليها بظلامه الدامس في تلك العصور الطويلة إلا بعدما أعطت لآرائها الأعنة ونبذت ما حشى في أدمغتها من العادات الفاسدة والأوهام السخيفة الباطلة حتى أصبحت على ما نراها اليوم! فاحترام الفكرة القومية ، له إذن فوائد عظمى لا تكاد تحصى وأكثر من أن نستقصي ، يكل عن وصفها اللسان ، ويعجز عن حصرها كل إنسان. كيف لا وهي الأساس القويم لنهضة الشعوب – خاصة الشعوب المهضومة الحقوق – ورقيها إلى أوج العلا والكمال.
بها نرتقي أوج الفضائل والنهى
بها نعتلي هام الأثير مكانة
بها السعد يضحى آخذاً بركابنا
ونسمو على العز الفخام فخامة
إذا كان لقبول الفكرة القومية هذه السعادة العظمى والتقدم الباهر فما بالنا تقاعسنا عن نصرتها وتعزيزها وبثها في أرجاء هذا الوطن العزيز؟!!
أتعجب جداً من قومي الكرام!
واستغرب مزيد الاستغراب لعدم قبولهم لهذه الفكرة ومناصرتهم لها! أوليسوا عالمين بما ينجم عنها من السعادة والعمران أم أنهم لهذا الحين نيام؟
فإن كانوا لحينهم نياما
فقل: قوموا فقد حان القيام
ما أشقى أمتنا! وما أتعس حالها! لقد كابدت من المصائب والويلات ما صيرها ألعوبة في هذه الحياة. وتجرعت من ذليل العيش ما أصبحت به تتمنى تجرع كأس الممات فهل لذلك من سبب؟ نعم! لا عجب من حالتها هذه ولا استغراب ما دامت على هذه الحالة التي توجب الدمار والهلاك كيف لا وأنها بدلاً من أن تعاضد وتناصر ما يسبب نجاحها ويعلي شأنها تراها ساعية عكس ذلك: كجهادها لخنق هذه الفكرة التي هي العضد الأيمن ليقظة الشعوب وسموها إلى مواطن الشرف والسيادة مع أنها تعلم العلم اليقين أهميتها وفوائدها وضرورة نشرها بين جدران هذا الوطن الكريم فما بالها متهاونة عن ذلك يا ترى؟
يسؤوني جداً أن أرى أمتي على هذه الحالة التي لم يتصف بها إلا من ضل عن سواء السبيل. يكدرني أن أراها خانقة لرأسيها متمسكة بعادات قديمة باطلة راكنة إلى التعصب و …. أمامي أن ذلك يؤدي بها إلى الدمار. وهل يجوز اتباع أمر يوجب التدهور والهلاك؟ كلا… ذلك كله ونحن في القرن العشرين، في عصر النور لا في القرون الأولى وتلك الظلمات، أوليس من العار أن تكون دون باقي الأمم – ونحن أجدر بها في النهوض – في بسيط العيش ورذيل الحياة؟
فأنبذوا يرعاكم الله هذه الأوهام الفاسدة التي هي الحجر العثرة في سبيل نجاحنا وتقدمنا ، وأرخوا أعنة أفكاركم ولا تخرجوا في ذلك عن عادات أجدادنا الكرام كي تبلغوا في هذه الدنيا المرام ومن الله النجاح والتوفيق.
وختاماً أدعو من الله جل علاه أن يرشد أمتنا إلى الطريق المستقيم ويهديها إلى ما فيه صلاح حالها واستقامة أحوالها وتعديل ما أعوج من عاداتها وأخلاقها ويلهم حكومتنا الفتية أدامها الله إلى ما يجب اتخاذه لسعادة رعيتها لازالت تمثالاً للحرية الفكرية ومظهراً لكل خير وصلاح.