تلخيص المحاضرة التي ألقاها الاستاذ علي الجميل في النادي العلمي عام 1919م*
أيها الأماجد المحترمون:
عفواً عما تجدوه من لكنة في لساني ، أو خلل في بياني ، فهذه أول مرة وقفت فيكم خطيباً،أرى نفسي سعيداً جداً بموقفي هذا بين جدران هذا المعهد العلمي وسط شبان قد جمعتهم جامعة العلم والأدب وربطت بين قلوبهم رابطة الحب والإخلاص. أريد أن ابحث لكم في موقفي هذا عن نبذة من تاريخ آداب اللغة العربية المظلومة فأقول: مرت على هذه اللغة الكريمة ، عصور وقرون ، شاهدت فيها مجد بابل ، وعظمة أشور ، ونهضة إسرائيل ، وعز اليونان ، وارتقاء الهند والفرس ، فكانت جديرة بأن تحدثنا بالتاريخ العام ، وتقص علينا من أنبائه أحسن القصص ، وتمثل لنا ذلك العالم أبدع تمثيل.
أبتسم لهذه اللغة ثغر الزمان حيناً من الدهر ، فعاشت بيد عزٍ شامخ ، ومجدٍ باذخ. ثم عبست عليها الأقدار ، فذاقت من الأهوال والخطوب ما يطول وصفه ، فما أقدر هذه اللغة على مصاعب الحياة ثم ما أصبرها على مصائب الزمان ونوائبه. ولن تزال والحمد لله ، ثابتة الأركان ، رصينة البنيان ، تقاوم الخطوب وتصارع النوائب لتثبت نفسها أمام العالم ، إنها أطول اللغات عمراً وأعظمها قوة ، وإن فنائها من المحال.
ولم تزل العربية ، قد ضرب بينها وبين التاريخ حجاب البداوة حتى رامت الخفاء .. ظهرت للتاريخ في القرن الخامس للميلاد ، فتجلت على العوالم بمجالها البديع وردائها القشيب ، فإذا هي من أجلّ اللغات وأعظمها ، مدحت الحسن والجمال والخير والفضائل وذمّت القبح والشر والرذائل وأخذت نصيباً موفوراً بالمدح والهجاء والوصف والرثاء والتشبب والحماسة ، وفاقت فيما أبدته من الحكم البالغة ، والأمثال السائدة ، والخطب ، ولم تدع فناً من الفنون اّلا وبان لها منه القدح المعلى والخط ( كلمات غير واضحة ……..) ، فنالت أسمى مكانة زمن الجاهلية مع ما كانوا عليه من الخشونة في الطباع والعيش .
ولقد كانت القبيلة ، إذا نبغ فيها الشاعر ، أتتها القبائل فهنأتها ، وذبحت الذبائح ، وأقيمت الولائم ، واجتمعت النساء يلعبن كما يصنعن في الأفراح .. وتباشروا به ، وعلقوا عليه الآمال ، لأنهم يزعمون ، إنه يحمي أغراضهم ، ويلد مآثرهم ، ويشيد مجدهم ، ولطالما سجدوا لتلك القصائد السبع حين علقت على الكعبة ( المعلقات / المذهباّت ) ، ويقال إنها كتبت بالذهب على الحرير تعظيماً لشأنها وتنويهاً لها.ولقد أقاموا بالقرب من مكة أسواقاً ( كلمات غير واضحة ….. ) كانت بمثابة أندية علمية ومجتمعات أدبية لغوية يحضرها العرب ، وينشدون فيها الأشعار ويلقون فيها الخطب .. وكان يجلس لهم فيها قضاة لنقد الشعر والتميز بينه وتفضيل البعض على البعض . وكان من جملة قضاتهم نابغة بني ذبيان ، ومن أشهر هذه الأسواق (سوق عكاظ) فكان تأتي إليه الملوك والأشراف من كل فجٍ وناد ، وتلقى فيه الأشعار والخطب وقد نتج من هذه الأسواق نتائج عظيمة منها شعور العرب يومئذ إلى السلم والاتفاق وتوحيد الكلمة ، ومنها تقارب اللغات المتباعدة واتفاق اللهجات المختلفة ، ومنها تهجئ قلوب العرب في الجاهلية لقبول المواعظ والنصائح ، والدين ، وميل نفوسهم للبحث النظري عما أشتمل عليه هذا الكون. ومن تأمل شعر زهير صاحب الحوليات ، وكلام قس بن مساعدة الأيادي خطيب عكاظ يظهر له ذلك.
انبثق فجر الدين الإسلامي بين الأمة العربية ، ونزل القران العظيم بتلك اللغة الكريمة ، لغة قريش ، التي كانت قد سارت على سواها من اللغات وصارت لغة القران متداولة في جميع الكتب والمؤلفات ، وحينئذ انصرف العرب عن الشعر والمنافسات فيه بما أشغلهم من أمر الوحي والنبوة ، وما أدهشهم من فصاحة القران وبلاغته ، فسكتوا عن الشعر والنثر زماناً طويلاً. ثم لما رأوا إن الدين الإسلامي لم يحرم الشعر وإن النبي (صلى الله عليه وسلم) حضره وسمعه وأثأب عليه ، رجعوا إلى عاداتهم.
ولما أنتشر الدين الإسلامي على سائر الأقطار والأمم ، وكانت الشريعة الأحمدية باللغة العربية ، وجب هجر ما سواها من الألسن واللغات ، فصارت اللغة العربية مستقلة في جميع الأقطار لأن ذلك من شعائر الدين الإسلامي ، ثم عندما تملك العجم من الديلم والسلجوقية في المشرق ، وصار لهم الاستيلاء على أكثر الممالك الإسلامية ، فسد اللسان العربي ، وكاد أن يذهب لولا ما حفظه الله من عناية المسلمين بالكتاب والسنة غير إن اللغة العامية تغلبت على العربية الفصحى ، وما زالت آخذة في التغلب كل يوم لاختلاف المخالطين من الأعاجم ، وتفاوت سلطتهم قوةً وضعفاً ، ولهذا نجد اللغات العامية تختلف في لهجاتها وبعض كلماتها باختلاف البلاد والعصور كما نرى ذلك في لغة أهل مصر والشام والعراق وبلاد المغرب.
ولقد ارتقت اللغة العربية إلى أوج الكمال في زمن خلافة الأمويين لانتقال العرب من البداوة إلى الحضارة ، ومن سكن الخيام إلى سكن القصور. إذ بذلك توسعت مداركهم ، وقويت خيالاتهم ، وزادت تصوراتهم ، فشعروا بمعانٍ جديدة وخيالات لطيفة فكسوها حلةً تليق بها. وما زالت أخذه بالتقدم حتى زمن العباسيين أيضاً ، فإنا نرى العجب في آثار شعرائهم ، فقد فاقوا بالبلاغة والإبداع والفصاحة والانسجام ، ثم استولى التناقص والانقراض على الشعراء المجيدين من ذلك الحين وكان أخرهم الطغرائي .نعم نبغ بعدهم شعراء آخرون كان أخرهم صفي الدين الحلي الشهير ولكنهم لم يبلغوا درجة المتقدمين .
ونهاية الكلام إن اللغة العربية سقطت بسقوط بني العباس ، ووصلت إلى أخر رمقٍ من الحياة لو لم ينهض مثل أبن خلدون وشرذمة قليلة من قبل هذا الفاضل الكبير. ولا أظن إن اللغة العربية هبطت إلى درجة من الانحطاط كما هبطت في عهد الترك ، فقد أصبحت في حالة كحالة المريض الذي أوشك على الهلاك وقطع منه الأمل والرجاء ، إذ كانوا يسعون بأفواههم وأيديهم إلى رفع هذه اللغة الكريمة من الوجود ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المبطلون.
ولا يتوجه اللوم عليهم فقط بل يتوجه علينا أيضاً نحن أبناء هذه اللغة ، إذ كل واحد من كان يستطيع أن يحافظ على لغته ودرسها وإتقانها ، ولكننا أهملناها ويا للأسف فأصبحنا نقرع سن الندم. أما الآن فأني أرى اللغة العربية أصبحت تحاكي عجوزاً بلغت من الكبر عتيا .. كسر تقادم العصور ظهرها ، وخضب المشيب شعرها … اهلكها الفقر ثم عرتها الأسقام ، فطرحتها على بساط الآلام تئن أنين الأموات ، تشكو حالتها لأبنائها ولسان حالها يتمثل بقول نابغة مصر حافظ إبراهيم:
فلا تلكوني للزمان فأنني
أخاف عليكم أن تحين وفاتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني
ومنكم وإِن عزَّ الدواء أساتي
سقى الله في بطن الجزيرة أعظماً
يعز عليها أن تلين قناتي
حفظن ودادي في البلى وحفظته
لهن بقلب دائم الحسرات
وفاخرت أهل الغرب والشرق مطرق
حياء بتلك الأعظم النخرات
إلى معشر الشبان والجمع حافل
بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
فأما حياة تبعث الميت في البلى
وتنبت في تلك الرموس رفاتي
وأما ممات لا قيامة بعده
ممات لعمري لم يقس بممات
* مستل من كتاب علي الجميل ( اوراق عربية ) ، وهو تلخيص المحاضرة التي ألقاها في النادي العلمي والتي نشرت في مجلة النادي العلمي في العدد 2 ، 27 ربيع الآخر 1337 هـ الموافق 30 كانون الثاني 1919م .