أصيبت الأمة العربية بعلل نخرت عظامها ، وشلت أعصابها ، فأشتد بها الداء حتى أذهلها عن نفسها والشعور بعلتها. ولم يكن إلا القليل من أفرادها من كان واقفاً على حقيقة الحال شاعراً بألم الاستبعاد والظلم وضياع الحقوق والسلطان حتى اندلعت نيران الحرب العالمية ، فلسعت الذاهلين عن حقوقهم ، وحركت فيهم أعصابهم ، وأضاءت محيطهم ، وكشفت لهم عن حقيقة حالهم ومواضع دائهم فصار الكل يشعر بالداء ويتلمس السبل إلى الدواء ، ولا يعود الفضل في هذا كله إلى تلك الحرب العامة فحسب بل إلى ذلك الشيخ الأمريكي الجليل ( الرئيس الامريكي ثوماس وودرو ولسن 1856- 1924) الذي زرع في أدمغة الأمم المغلوبة تلك المبادئ السامية ( مبادئ ولسن الاربعة عشر في حق الشعوب بتقرير مصيرها ) وحرك الحاملين إلى السعي وراء السعادة من طرق الحقيقة دون الخيال.
قلنا أن الأمة العربية قاطبة صارت تشعر بدائها وتتألم له بعد أن كانت فاقدة الرشد مخدرة الأعصاب قائمة على الذل والإستكانة والهوان وصارت تتلمس السبيل إلى النجاة وتبحث عن الدواء.
قد لا يختلف اثنان من بنيها على تشخيص علتها وما أصابها منها من الخراب والضرر إلا أن الاختلاف قائم على الدواء الناجع الذي يستطيع أن يخفف عنها الآلام ويشفيها من الداء ويبعث فيها القوة والنشاط لتصارع من ينازلها في ميدان تنازع البقاء.
ظن البعض الدواء في الاعتماد على الغير أو العواطف الإنسانية أو النعرة الدينية أو ترسم خطوات الفرنجة بالعادات والملبس والمشرب وقد كثر في ذلك الأخذ والرد والحدس والتخمين وتضاربت الأفكار واختلفت الآراء والداء يشتغل في جسم الأمة الفضل ويزيد في آلامها.
أردت في هذه العجالة أن أدلي برأيي في هذه القضية المهمة مع الآراء فأقول: أن الدواء لداء الأمة العربية هو عين الدواء الذي نجحت عليه غيرها من الأمم وأعني به:
1. الاعتماد على النفس وحب العمل- ما حك جلدك إلا ظفرك وكم قد أرادت الأمة العربية أن يحك جلدها ظفر غيرها وهي نائمة فأدماها. حكمها مستبد فاستبدلته بغيره ولما لم تنل السعادة على يد المتحكم الجديد عافته وانصرفت إلى الدعاء عليه واستبداله وهكذا داومت الاعتماد على غيرها والخمول محيط بها حتى تسرب اليأس إلى نفسها ولامت الأقدار على سقوطها.
إن الأمم وإن كانت ضعيفة لتستطيع أن تحافظ على كيانها باعتمادها على نفسها والانصراف عن الحسرات والآمال إلى العمل والجد وهذه الأمة البولونية التي بقيت أجيالاً تحت سيطرة الروس والألمان والمجر فازت بحقوقها القومية أخيراً باعتمادها على نفسها وعملها ونشاط أفرادها وعدم استسلامهم على اليأس والقنوط.
قد يعتذر الذين تخلل نفسهم اليأس بما ظهر من الخيانة وحب الذات من بين بعض زعماء الأمة إلا أنني ألومهم وألوم الأمة التي لم تعتمد على نفسها فأستسلمت لقوم خانوا عهدها ولم تسقطهم يوم زاغوا عن خدمتها. تستطيع الأمة التي تعتمد على نفسها وحدها أن تحافظ على حياتها الاقتصادية والسياسية والأخلاقية وإن كان دون ذلك مشقات وأتعاب ولنا على صحة هذه الحقيقة أمثال تاريخية لا تنكر.
2. الشجاعة الأدبية وعزة النفس- لا تستطيع الأمة التي تفتقر إلى الشجاعة الأدبية وعزة النفس أن تقف طويلاً بوجه منازعيها في ميدان العمل. فالشعب الذي يعتمد على عطف عدوه عليه شفعته وإنسانيته وسخائه هو ذلك الشعب الذي فقد شجاعته الأدبية وعزة نفسه وبالطبع حقوقه المقدسة .. للعراق دستور واف كاف إلا أنه لا يمكن الاستفادة منه إن لم يدعمه رجال شجعان عزيزو النفس عند تطبيقه والأخذ به. لقد استولى صغر النفس على الشرق حتى صار الشرقي يتساهل بحقوقه إذا ما وقف تجاه غريمه الغربي وإن كان ذلك أقوى من هذا بالعقل والجسم وهكذا تضيع حقوقنا عندما لا نحافظ على شجاعتنا الأدبية وعزة أنفسنا. قاتل الله حب الذات الذي ينزع من قلوب الرجال هاتين الفصيلتين اللتين تحتاج إليها البلاد في أمورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
3. الثبات على المبدأ والتضحية- يتطلب إثبات التضحية وقد نجحت دعوة الأنبياء والعلماء والمصلحين بهاتين الفضيلتين وهذه القضية لا تحتاج إلى برهان.
يخفف الغربي الآلام عندما يثبت ويضحي منافعه في سبيل بلاده والويل لذلك المتقلب الذي يلبس لكل حالة لبوسها فهو العدو اللدود لأمته. فالزعيم الذي يثبت على مبدأه كزغلول مصر مضحياً في سبيله المال والراحة الخ، هو غير ذلك الذي يذرف بالأمس الدمع على الوطن ثم يبيع البلاد اليوم بكرسي فذلك يخدم أمته ويبعث في روحها النشاط والعمل ويقوي فيها الإيمان وهذا يطعن بلاده في صميمها ويبث اليأس في قلوب أفرادها.
4. وضع القومية أساساً للعمل والتساهل المذهبي- ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة (الآية) التفريق بين الأنبياء الذين اتفقوا بالجوهر في رسائلهم الإلهية أضر بالغرب سابقاً ولا يزال يضر بالشرق وجهوده ويبعده عن غايته السامية المنشودة. يضرب البريطاني مسلماً كان أم يهودياً أم نصرانياً على وتر واحد وهو إعلان شأن بريطانيا فيحارب الألماني والنمساوي والروسي و… مسلماً كان أم يهودياً أم نصرانياً…
على العربي أن يعرف بأنه عربي أولاً ثم يلتفت إلى المذهبية والطائفية. فتقوية القومية العربية توجد الجهود لنيل الغاية الوطنية المنشودة.
كيف أستطيع أن أفضل مسيحياً فرنسياً على مسلم عربي دمي ولحمي ولا أهدم الوحدة وأعمل على إسقاطها في أيدي أعدائها؟ كيف يتمكن المسلم العربي من تفضيل المسلم الهندي على النصراني العربي ولا يطعن أمته في صميمها؟.
لقد استيقظ أبناء العرب من سباتهم وعرفوا نجاحهم في تآخيهم وتعاضدهم فليربأ عمال التفرقة على ضلعهم وليخسأ من يتخذ الدين سلاحاً في سبيل غايات لا يقبلها الدين والدين برئ منه.
أن التربية العمومية لازمة لبث الروح القومية بين الناشئة الجديدة لكي تكون عضداً للبلاد عند الملمات ، واعطاء العرب الملل والاقوام الاخرى التي تشاركهم العيش والواجبات حقوقها كاملة في الحياة . والواجب واقع على عاتق مديرية المعارف العمومية للقيام بهذا الأمر الجليل.
5. احترام القانون – القانون مقدس محترم والخضوع للقانون أمر واجب في ذمتك بذا قضت الشرائع إذ ليس القانون إلا ما أجمعت عليه كلمة الأمة وأمر بتنفيذه السلطان، به تصان حقوق الأمة وبه تحف البلاد، وتقوى شوكة السلطان، وليس العابث به إلا كالعابث بالأمة ومن عبث بالأمة قذفته الأمة وهناك بشره بالخسران . عصرنا اليوم عصر حرب ومدنية وعهدنا عهد ديمقراطية ومساواة بادت معالم الظلم والاستبداد وأقفرت والحمد لله ربوع الاروستقراطية والاعتساف فأصبحت الأمة اليوم . ليست الأمة بالأمس، تعلم ما لها وما عليها، ترتع في رياض الحرية وتمثل بحب المساواة . نعم ، لابد من احترام القانون .
6. اداء الواجب – نعم! الواجب أمر غريب وشيء عجيب لا يعرف المجاملة ولا الكذب ولا التملق ولا الرياء ولا النفاق بل يقف مجرد أمام النفوس فتخضع صاغرة وتخضع لقوته الباهرة، فتتقلص أمامه الشهوات، فمن كان شعاره الإخلاص، وهدفه الحق الصرح، لم يكن رهن إشارة غيره، ولم تتغلب عليه شهواته ، فالواجب دين عظيم لا سداد له إلا بالسعي في هذه الحياة الدنيا والكد عن رغبة، وهو ملازم للإنسان في جميع أدوار حياته .
7. الحقوق للجميع – وهو مبدأ من عموم الأخلاق لكل من يقطن بلاد العرب ، بلا تفرقة على اساس الدين والجنس والملة والمذهب وكل من يشارك العرب في الارض والمال والعرض باوقات الحاضر والماضي ، وذلك هو الذي يشد عضد الإنسان في أكبر مواقفه فإذا ما جهله الرجل من ابناء الامة ، اضطرب وعجز متى لاحت له شدة وهمس في أذنه داعي الهوي بينه وبين الاخرين . وقد يحول الانتقاص من تلك الحقوق القوة الى الضعف . ان أساس ذلك يكمن في الشعور بعدل توحيد المحبة وهي أجمل مظاهر الخير لجميع ابناء الامة ، فالحقوق للجميع لا تكتمل بشعور وقتي بل هو قانون تشبع به الحياة فيبقى ما بقيت ويظهر أثره في أفعال الرجال وإذا ما عدمت حقوق اي انسان ، ايا كان في هذه الامة ، فلا بقاء للقوة، ولا بقاء للصدق ولا الإخلاص، وهناك يتلاشى نظام الحياة فيغادرنا بين أطلال بالية ندهش لخرابنا ونعجب من الدمار الذي يحل بنا.
8. الاهتمام بالجوهر دون العرض- يحق للغرب بان يعيرنا بأننا قوم نهتم للقشور دون اللباب ولهم علينا في ذلك أدلة لا يسعنا ذكرها في هذا المجال والضيق. نهتم بالألقاب والألفاظ والملبس و …. دون الحقائق بينما ينهمك الغربيون بجمع المال والقوة والنفوذ الأدبي أما نحن الذين نسكت عن مقال كله ألفاظ رنانة جوفاء ثم نبخس مقالاً علمياً ثميناً صدر فيه غلطة نحوية!؟ القشور لنا واللباب لهم والموت لنا والحيوة لهم. هذا إذا لم نغير ما بنا ونتمسك بالأمور المادية دون الخيال والسلام على من وعى وعمل.
من كتاب علي الجميل : اوراق عربية