أيها الغرب رويداً
أن من سقته في الدرب دهراً
قد وصل
فحذاراً لا تغاضبه
فقد بلغ الرشد
فما شاء فعل
وإن نظرة واحدة نحو الشرق وشعوبه الناهضة تؤيد لك أيها القارئ الكريم ما أوردناه أنفاه ، هذا موقف الأمم الشرقية قاطبة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي يذكرنا موقف الأمم الأوروبية من بعد انعقاد مؤتمر فيينا . ( انعقد عام 1815 م ) .
وإن أهم عامل في يقظة الشعوب الأوروبية الحديثة إنما هو الثورة الفرنسية الكبرى تلك الثورة التي حملت شظاياها إلى أمم الغرب أسم الحرية والمساواة ومبدأ ( تسود الأمة) فهذه المبادئ التي أيقظت تلك الشعوب التي كانت رازحة تحت قوة الملوك أصحاب الحق الألهي ( كذا ) ، وهي التي بعثت فيها روح التمرد والسخط وجعلتها تكافح في سبيل استحصال حقوقها الطبيعية المغصوبة ، فكسرت الأغلال ، وهدمت العروش ، وجعلت الرؤوس تتناثر ، وأصبحت أوربا تسبح في بحرٍ من دم الأبرياء والمجرمين عشرات السنين ، فهالت تلك الحالة أصحاب العروش وأخذوا يسعون لأجل خنق تلك الروح والقضاء عليها ، فقام (متيرنخ) شيخ المستبدين وقد تبعه الرجعيون مرتبطين فيما بينهم بعقود وعهود سرية ترمي إلى إرجاع الحالة في أوربا على أساس المبدأ القديم ( ارجاع القديم الى قدمه ) وأخذوا يموهون للأمم بإرجاع الحقوق الشرعية إلى أصحابها والأخذ بناصر الشعوب الضعيفة التي خضبت أراضيها بالدماء مدة ربع قرن.
فما كان من هؤلاء الساسة المجتمعين في مؤتمر (فينا) إلا خنق الحرية ، واقتسام الأمم ، وتسليمها إلى الغاصبين ، زاعمين أن التسوية قد تمّت على حسب ما كانوا يؤملونه ، وقد فاتهم أن الحالة الروحية قد تغيرت متناسين أن العالم متحول وأنه لا يبقى على وتيرةٍ واحدة ، فتجدّد الصراع ، وقام أصحاب مبدأ (تسود الأمة) يبذلون قصارى جهدهم في سبيل تحرير بلادهم من الدول الحاكمة عليها ، فأصبحت أوربا في هياج عظيم ، فشرع اليونان والصرب والرومان والبلغار يناضلون في سبيل تحرير بلادهم من السلطنة العثمانية ، وتابعهم المجر والشعوب الأخرى يريدون التخلص من نفوذ الإمبراطورية النمساوية ، ثم تابعهم الإيرلانديون والبلجيكيون والبولونيون ثم شعوب ألمانيا وإيطاليا التي كانت خاضعة للنمسا ، فثابرت هذه الشعوب في جهادها المقدس حتى نالوا ما كانوا يبتغونه ، وإذ ذاك ظهرت في مجتمع أوروبا أمم لدول جديدة لم يكن لها أسم في المصدر السياسي كاليونان والصرب والرومان والبلجيك وإيطاليا وألمانيا وبلغاريا ، فلم ينته القرن التاسع عشر إلا واستقرت الحالة السياسية في أوربا على مبدأ الجنسيات .
وهكذا انفضت حوادث القرن التاسع عشر ودخل العالم الى القرن العشرين ، فكانت فاتحة الحرب الكونية ، فتأثرت الأمم الشرقية بعوامل تلك الحرب وانتبهت من سباتها ، وقد عمّت مصائب تلك الحرب جميع الشعوب ، واشتركت فيها أغلب الأمم بدعوى تحرير الشعوب ، وإعطاء كل ذي حق حقه . وكانت هذه المبادئ شرطاً لدخول بعض الأمم المتمدنة إلى جانب الحلفاء ، فقبلوها وأعلنوا للملأ تنفيذها حين ختام الحرب ، ثم لما تجلّى النصر في جانبهم ، لم يلبثوا أن ضربوا بها عرض الحائط ، وحكموا ما كان في مصلحتهم في معاهدة الصلح التي نسجتها أيدي المستعمرين ، فكانت مقررات مؤتمر (فرساي) عام 1919 وملحقاته أشبه بمقررات مؤتمر (فينا) عام 1815 أساسها المبادئ الاستعمارية والارهاق دون مبادئ الحق والحرية ، ولم يتعظوا بحوادث التاريخ ، ولم يحسبوا للأمم الشرقية أقل حساب بل جزءوا ما بقي من الشرق إلى مستعمرات ، وإن اختلفت الأسماء ومناطق النفوذ ، واستبدلوا سلطاناً بسلطان. وقد فاتهم أن الشرق اليوم ليس الشرق الذي كانوا يتصورونه بالأمس ، وأن شعوبه الناهضة لا تقل شأناً عن الأمم الأوربية التي نالت حقوقها خلال القرن التاسع عشر. وليس ما نشاهده من قضية الريف ، وتمردات الجزائريين ، وسخط التونسيين ، ومطالب المصريين ، وجهاد السوريين ، وثائرة العراقيين ، ومقاومة الهنود ، وانتباه تركيا وفارس والافغان وسائر شعوب الشرق الأقصى ، والحروب الصينية إلا نتائج تلك المقررات التي لم تساو بين الحقوق وكل هذه الوقائع تذكرنا بما كانت عليه أوروبا من جهاد دائمي ، وكما خرجت أوروبا من جهادها ظافرة في القرن التاسع عشر ، فلا يعز على الشرق أن ينال بغيته ، ويخرج ظافراً في القرن العشرين . ويؤيد لنا ذلك كون الحوادث التاريخية تابعة إلى قواعد ثابتة لا تؤثر عليها إرادة أحد أو معجزة بشر لذلك يجب علينا أن نعتقد بصحة انتاجها وشمولها جميع الأمم.
علي الجميل
الموصل 1920
من كتاب علي الجميل : اوراق عربية
اعيد نشرها في صدى الجمهور ، العدد 4 ، الخميس 3 آذار 1927م الموافق 29 شعبان 1345 هـ