بين ربوع الشهباء ، وفي جانبها الشرقي حيث الرياض زاهية وينابيع المياه متدفقة قصر يحاكي بأبهته وعظمته ومنعته قصور الملوك يناطح ببنائه الشامخ السماك المراح ، أثمر به المجد وأينع فيه الشرف تحفه الخدم وتحيط به الحرس هو نموذج لقصور أولى الثروة والجاه العريض ، تخشاه القلوب ، وتهابه الأبصار ، مما يلوح عليه من العزة والمنعة.
بين جدران ذلك القصر الرفيع العماد وبين ذلك المجد الأثيل والعز العظيم نشأت سلمى ، والسعادة ترفرف على رأسها في الغدو والآصال حتى بلغت السابعة عشر من عمرها ، فإذا هي آية الذكاء والطهر والعفاف وحيدة لوالدها الكريم ، كما إنه وحيد لها إذ لم يبق الزمان له أحداً سواها ، كما لم يبق الزمان لها أحداً سواه. فهمه الوحيد سعادتها وهمها الوحيد رضاؤه فهي ترتع في رياض النعم الطائلة بل في حديقة العز التي بينها وبين صولة الخريف والشتاء منيع.
في القرن العشرين من الميلاد عصر المدنية والنور ، عصر الحرية والمساواة ، بين صبح العدالة وبين عصر الانتظام ، تذوقت سلمى برد الزمهرير ، ولفحة السعير ، ثم تقضي وقد ضنّ بنو الإنسان عليها حتى ولا بقطرة من دموع كاذبة تخفف بها ما يلوح بعينيها اللهم إلا قطرات السماء المنجمدة التي ضاعفت تعاستها وزادتها عذاباً فوق عذابها، في تلك الساعة التي لا تملك فيها ثوباً تستر جسدها، ساعة النزع والفراق ، أمر لم يكن لتتصوره سلمى ولا كل من عرف سلمى وهي في ربيع حياتها الفضة ترتع في بحبوحة العز والسعادة غارقة في بحار النعيم. هكذا شأن أكثر أولي العز والجاه العريض ، والنعم الوافرة ، لا يحسبون للنعم حساباً ولا ينظرون إلى ما رواء اليوم والغد ولا يفتكرون فيما قد خبأه لهم الزمان.
في القرن العشرين من الميلاد ، وفي وسط البلاد الشرقية ، حيث أصبح الجور عدلاً ، والعدل جوراً ، والحق باطلاً ، والباطل حقاً ، والعذاب سعادة ، والسعادة عذاباً ، حيث يدعون قادة الأمر وحكام الشعب إلى الإصلاح بألسنة تترجم عن قلوب عم الله ما تكنه ، فينادي بها الخسران والدمار حيث السماء تمطر ناراً والأرض تفور دماً أعادت الهمجية رواياتها الفظيعة على مسرح العالم المتمدن فثار البشر ليأكل البشر ووثب الإنسان لقتل بني الإنسان. في ضحى الحرية الكاذبة ، وتحت ستار العدالة المموهة ، وبصبغة الدين التي يجحدها الدين المبين ، استولت الزبانية الجهنمية صنائع الاتحاد وأشرار البلاد على ذلك القصر المنيع كما استولت على غيره من القصور المنيعة فأختطفت منه تحت ذيل الدجى البهيم سليمان والد سلمى وزوجته في سجن لا يعرف مستقره ، ثم عادت لتنال من سلمى أمانيها النفسية.
أما سلمى المسكينة ، فلم تلبث بعد القبض على والدها بضع دقائق حتى فرت إلى ما وراء العمران من تلك المدينة المهددة بالأهوال ، كأنها شعرت بما في قلوب الزبانية نحوها هاربة بعرضها تبرد غلتها بدمعتها ، وتلهو عن مصابها بمصاب أبيها. لم يبق لسلمى في الدهر من يصون خدرها ، ويدفع عنها ما عساه أن يكون المصاب الخطير ولا مصاب أعظم من مصاب العرض والشرف.
ويح سلمى إلى من تشكو مصابها ومن ذا الذي يخفف عنها ويلاتها ، ولا دار يشفق ، ولا أخ يتوجع ، ولا زوج يدافع ، ولا عم يحنو ، ولا خال يترحم ، ولا والدة تنوح .. وقاضي الأرض قد قضى بحكمه القاسي بين جدران الهوى والضلال على انتهاك عرضها المصون وشرفها الثمين، وعيون قاضي السماء تنظر ، وملائكته تسطر ومخلوقاته تشهد وشبيهات سلمى المسكينة ينتظرون ماذا سيكون.
ويل للضعفاء من الأقوياء ، بل ويل للأبرار من الفجار ، بل ويل للإنسان من الإنسان ثم الويل كل الويل لقاضي الأرض من قاضي السماء.
عقدت الهمجية الألسن وغشت الأبصار وأصمت الآذان ثم فتحت للتاريخ صحائف سوداء يسجل فيها ما يشاء. فالمشانق قائمة والسيوف مسلولة والبنادق مضوية ولا مغيث ولا راحم إلا الله. إن سليمان والد سلمى لم يطع القانون وأنه قد سبب مجاعة الجيش لأنه لم يمل جيب قائد الجيش بالأصفر الوهاج ، فلذلك حكم عليه بالإعدام. وأن سلمى قد أصبحت زانية لأنها لم تسلم نفسها إلى أولي الأهواء ، فلذلك حكم عليها القانون بأن تساق إلى مواخير الخنا والفساد. هذه هي الحجة الوحيدة لزعماء العدالة وأبطال المدنية وأنصار الحق والحرية والمساواة ، تلك دعوى محافظي الأمن والنظام صونة الأرواح والأنفس المجاهدون أمام الدين في سبيل حماية الإسلام. تسترون بالقانون ماشين تحت ظل المدنية يصدعون باسم الدين ، فيأتون بأعمال هي فوق القانون ووراء المدنية ، بينها وبين الدين ما بين الأرض والسماء. يقولون بهذا إصطلاح الوطن وصيانة الأمة ولو علموا الإصلاح لأصلحوا من قلوبهم من قبل أن يثوروا للإصلاح ولصانوا أنفسهم من قبل أن يقوموا لصيانة الأمة.
مازالت سلمى تائهة في الغلوات نائمة بين الأودية المنخفضة وبين الجبال الشاهقة تناجي بشكواها من يسمع شكواها في تلك الليالي السود فراشها الغبراء ولحافها السماء وتعيش بنبات الأرض ، وتبل صدرها بدمعتها الحراء حتى إذا ما يممت قرية من القرى المنقطعة عاشت بماء وجهها الذي لم يكن لتملك شيئاً سواه وقل من يرحمها بما يسد رمقها ، اللهم إلا بكسيرات لا تسمن ولا تغني من جوع .. وليبرح بين هدى وضلال البراري المقفرة والصحاري المخيفة سائرة حاملة بين جنبيها قلباً متشرباً بالطهر والعفاف لا ترمي إلا إلى النجاة بشرفها الثمين وعرضها المصون ، فأما الحياة البيضاء أو الموتة الحمراء.
في أواسط كانون الثاني سنة 1915 حيث أزور العيش الأخضر ، وضرب أطنابه الموت الأحمر حيث أناخ الوباء مطيته واشتد القحط وتضاعف الغلاء حيث صودرت أموال الناس وأقواتهم وحيث بعثت الشبان والكهول والشيوخ إلى المجازر إلا من حفظه الله. حيث أصبح عالي القوم سافلهم ، حيث انتهكت حرمة الشرائع والقوانين ، حيث ساد الظلم ، واستعرت نيران القسوة وقويت شوكة الاستبداد ، حيث عبثت الأيدي بالدين المبين وأهينت رجاله ، حيث عمّ الضلال ، حيث لم يبق في قلب الإنسان رحمة لنوع الإنسان.
في يوم اشتد برده وطبق الآفاق ثلجه في الموصل المذكورة في شارع دار الحكومة ، وفي منطقة الأيمن وراء مدفن أحد الشهداء الصالحين بين رماد الحمام الكائنة هناك ، ظهرت فتاة تلوح عليها آثار الفرحة وتقرأ من عينيها آيات الحزن والتعاسة والشفاء عارية من كل ما يسترها قد وارت نصف جسدها في ذلك الرماد الناري مستعينة به على البرد القارص صابرة على حر السعير ، وقد بقى نصفها الآخر تحت هبوط الثلج فهي تذوق برد الزمهرير. تلك هي سلمى بنت المجد الأثيل والعز الرفيع هي بنت ذلك القصر المنيع قد ساقتها الأقدار لهذه الديار لتذوق العذابين في آن واحد في آخر ساعة من عمرها وبتلك الحالة تودع هذا العالم الزائل والحياة الغانية مستقبلة الأبدية بكل ثبات غسلها الدمع وكفنها الطهر والعفاف. قائلة بصوت تقطعه الزفرات ويوهيه اختناقها بالعبرات ، لا يكاد يفهمه إلا متأكلة: إلهي أذقتني العذابين في آن واحد فأرحمني في أبديتك، إلهي بلوتني بالجوع والخوف فأمني بأخرتك، إلهي إن القوم استضعفوني فكن لي نعم المولى ونعم النصير أمام زبانيتك، إلهي قد طال تعذيبي ، فألطف علي برحمتك، إلهي فقدت الغيث فأغثني بحمايتك ثم تعود فتندب أباها قائلة: لقد تركتني أيها الأب الرحيم ولا تدري ماذا سيكون مداوي وتركتك ولا أدري ماذا سيكون من أمرك وليتني ودعتك الوداع الأخير الذي لا يعقبه تلاق، ليتني مت بين يديك فذرفت على شبابي دموع الرحمة والمحبة ليتك علمت مكان قبري فسكبت عليه دمعة تحي فؤادي وكللته بالأزهار والرياحين. أبي إن كنت في الدنيا بين جدران السجون المظلمة وبين أيدي أولئك الزبانية فأصبر على فراقي متناسياً بما أنت فيه فذلك عندي خير من أن يتضاعف مصابك فيّ .. وأن كنت قد سعدت وسبقتني إلى الأبدية إلى دار الحق والبقاء فيها ، فأنا لاحقة بك ولم يبق بيني وبينك إلا قليل من كثير سأكون قريبة منك ، وأنا قتيلة القسوة والعذاب ، قتيلة الظلم والأعتاق بل شهيدة الطهر والعفاف . لئن جنت عليك ثروتك ، فقد جنى علي طهري وعفافي وخير لي من أن أعيش عيشة الساقطات أن ألقاك بوجه زاهر وذيل طاهر وصحيفة بيضاء.
لم تكد المسكينة تفرغ من كلامها ، وتقضي أنفاسها ، حتى أقبل المأمور القانوني ومن ورائه أعوانه ، فوجدوا سلمى المسكينة تستقبل الموت وتعالج سكراته وهناك نادى المأمور المذكور بمن معه إنها كافرة إنها ساقطة إنها من أعداء الدولة إنها دنسة إنها قذرة إنها من العنصر الباغي فأسحبوها على وجهها ثم ألقو بها في النهر ، فالقانون يقضي بتطهير البلاد من مثلها ، وممّن كان من عنصرها ، وإذا بسلمى تجر من شعرها وتسحب على وجهها عارية من كل ما يسترها يتنازعها عذاب الموت وعذاب الزبانية حتى إذا وصلوا بها دائرة قائد المركز المطلة على النهر ، ألقوها فيه والظلام والظلم قد طبّق الآفاق.
هذه واقعة حقيقة شاهدها من شاهدها وعرفها وكم لديّ من أمثالها ما تقشعر عند سماعها الجلود ، وأن في هذا لعبرة لقوم يعقلون ، فإلى محكمة التاريخ الكبرى بل إلى محكمة الحاكم العدل بأن ذاقوا أبناء هذه البلاد أنواع العذاب وما الله بغافل عما كانوا يعملون.
نشرت في جريدة العراق الممتاز – بغداد في يوم الاثنين 2 حزيران / يونيو 1924 م الموافق 29 شوال 1342 للهجرة .