دعوني اكتب اليوم عن البرلمانيين العرب الذين انخبتهم الشعوب ليكونوا ممثلين عنهم في مجالس الامة او البرلمانات العربية ، اي ليكونوا نوابا عن الشعب في اهم سلطة مؤسسية في اي دولة هي السلطة التشريعية التي تشّرع قوانين البلاد وتراقب عمل الحكومة وأدائها .. وهنا ، يعتبر النواب من اهم رجالات المجتمع ونسوته الذين تقع عليهم اهم مسؤولية تاريخية ، كما ينبغي ان تكون لهم سلطة نافذة على السلطة التنفيذية التي تنفّذ القوانين والتعليمات والقرارات.. وهذا ما يجري في كل بلدان العالم التي تعيش توازنا حقيقيا في حياتها بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وتداولا حقيقيا للسلطة العليا ، وفصلا حقيقيا للسلطات بحيث لا يمكن ابدا لأي نائب او برلماني السعي لتنفيذ اي مآرب حزبية ، ولا اي مصالح شخصية، ولا اي اجندة فئوية او طائفية او حتى سياسية .. ان معنى ان يتبوأ اي نائب او برلماني مركزه في البرلمان ، فانه يتمثل اساسا بخدمة الناس الذين انتخبوه، كما ويخدم من مكانه المجتمع الذي يمثله امام بقية مؤسسات الدولة اصدق تمثيل .. كما ان عليه ان يحمل اخلاقيات عالية ومن دون ان يستغل حصانته البرلمانية في سوء الاداء او التميز او المعاملة او التصرفات.
لقد تمنيت على كل المهتمين والدارسين والمتابعين والاعلاميين العرب الاقوياء ان يراجعوا السير الذاتية لكل البرلمانيين العرب بالرغم من كثرتهم ، ويراقبوا اوضاعهم وتواريخهم الشخصية واهليتهم وثقافتهم ومتابعة كفاءتهم ومتابعة مصالحهم .. فما نجده اليوم على ساحتنا في معظم الدول العربية التي لها برلمانات او مجالس نيابية او مجالس منتخبة يثير الانتباه خصوصا ، بل ويثير الاشمئزاز حقا اذا ما علمنا ان العشرات ، بل المئات من البرلمانيين العرب قد قادتهم الى مثل هذه المكانة قوى سياسية او مراكز نفوذ او احزاب معينة او تكتلات لها مصالحها او جهات طفيلية او اموال تصرف بالملايين لاطراف معينة في الدولة والمجتمع .. وقلما نجد نوابا أتوا عن نزاهة ومجردين من اية علاقات معينة الا الكفاءة والوطنية والتجرد .. مما يثير لدينا التساؤلات عن سبب التدمير الحاصل في العلاقة بين مجتمعاتنا ودولنا .. وعن سر تخلّف دساتيرنا ، وعن سر التأخر الهائل في التشريعات وانعدام التجديد في القوانين .. وبؤس ما يحصل في الاروقة البرلمانية العربية من علاقات غير طبيعية ..
لا يعقل ابدا ونحن في بدايات القرن الواحد والعشرين ان تغدو قاعات الاجتماعات في البرلمانات العربية مرتعا خصبا للنوم والكسل او كراسي وثيرة لمناصب طفيلية لرجال اعمال .. ولا يمكن ان يصبح النواب ببغاوات مرددين لما يقوله هذا ، او مصفقين لذاك .. ولا يمكن ان تجري صفقات بين نواب ووزراء من وراء الكواليس لتمرير مصالح شخصية .. ولا يمكن ان يعمل النواب لمصالح حزبية لا لمصلحة البلاد العليا ، ولا يعقل ان اجد اليوم في بعض البرلمانات العربية نوابا لا يعرفون القراءة ولا الكتابة !! ولا يمكن ابدا ان اجد نوابا يمثلون احزابهم الجهوية او الدينية او الطائفية او الفئوية او الطفيلية ، فهم يهددون من امكنتهم وحدة البلاد .. من دون اي مراعاة لمصالح بلادهم العليا .. من غير المعقول ان اجد نوابا من ضيقي الافق ومن الحمقى الذين يتخذون الغلو والتطرف اساليب ناجعة لامثالهم من اجل زرع الفوضى وتدمير المجتمعات ، وهم لا يطرحون الا سفاسف الامور بكل بلادة وغباء ومجتمعاتهم تنتظر منهم معالجة قضايا حيوية تخص خدمات البلاد وتنميتها والقضاء على مشاكلها !
ان تجارب برلمانية مقتدرة وراقية اجدها اليوم على امتداد هذا العالم تبحث عن عناصر القوة من اجل تشريعات جديدة .. واجد فيها نوابا على استعداد لاستقبال المواطنين والاستماع اليهم وطرح قضايا تخص المصالح الاجتماعية وتعتني بالتعليم والصحة والسكن والخدمات وتطوير الحياة .. ان تجاربنا البرلمانية العربية كئيبة مع الاسف ، ويمثلها اناس ليسوا على دراية حقيقية بمعنى السلطة التشريعية .. وقد جاءوا الى مواقعهم البرلمانية من باب استعراض المقام العالي او اكتناز المال او بحثا عن المنصب او ارضاء لشهوة التملك والسرقة وتقبل المال الحرام .
ان هذه ” مؤسساتنا ” التشريعية بحاجة الى اصلاحات جذرية ، واذا كانت بعض الدول العربية مرتاحة لمثل هؤلاء كي تمرر ما تريده من خلالهم ، فان الوعي العربي لابد ان يستحث لمراقبة هذه المؤسسات التي تعتبر اهم ما في دولنا ومجتمعاتنا .. وان تعالج مؤتمرات البرلمانيين العرب مثل هذه الظواهر التي هي بأمس الحاجة الى الاصلاح . واذا كان حال البرلمانات العربية مثل هذا ، فكيف اذن ستكون عليه وضعية ما اسمي بـ ( البرلمان العربي ) ؟ ان الامر لا يتعلق بالدولة نفسها بقدر ما يتعلق بالمجتمع ، فالمجتمع هو الذي يأتي بامثال هؤلاء من خلال اية انتخابات ليسيطروا على مقاليد هذه السلطة الخطيرة .
انني ادعو كل الدول العربية ان تعيد النظر في شروط العضوية البرلمانية لمجالسها النيابية ، بحيث تتضمن متطلبات اساسية للترشيح تتلاءم وهذا المنصب ، مع تأسيس آليات جديدة للعمل بحيث يحّصن اي نائب في البرلمان نفسه من تأثير اي قوى عليه وان يكون مستقلا وصاحب ارادة نيابية حقيقية .. وعلى اي نائب او برلماني التفرغ لمنصبه بعيدا عن اي عمل آخر . وان يمتلك ثقافة عامة وقوية ببلاده وبالمنطقة والعالم .. وان يكون صاحب سيرة نظيفة واخلاقيات عالية ويؤمن بالمؤسسات المدنية حقا . فهل ستنجح بلداننا في مهمتها هذه ؟
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 23 ابريل 2008
شاهد أيضاً
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)
ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …