مقدمة
تمر هذه الايام ذكرى أربعينية رحيل الزعيم الديني طيب الذكر مار بولص فرج رحو مطران الكلدان في الموصل .. الذي ذهب ضحية للعنف الدموي الذي يضرب اطنابه في بلادنا منذ سنين .. ولقد استوقفني هذا الحدث التاريخي الجلل طويلا ، وأخذني متأملا لما يجري اليوم في العراق .. ويستنبط اي دارس او مؤرخ نتيجة غاية في الاهمية ، اذ تنبؤنا طبيعة هذا ” الحدث ” المحزن ، وما سبقه من احداث مؤسفة بأنه الاخطر على امتداد تاريخ العراق ومنطقة الشرق الاوسط كلها ! فاذا كان المسيحيون الجرامقة والنساطرة الاوائل قد دفعوا اثمانا غالية من حياتهم لما قبل الاسلام لهذا الطرف او ذاك من الذين تنازعوا الحكم في العراق ووقفوا ضد انتشار المسيحية ، فان المسيحيين عاشوا بعد ذلك في حماية المسلمين وتعايشوا وتجاوروا معهم دهرا طويلا ، ولم نشهد مصرع مطارنة وقسسا ورهبانا بهذا الشكل الذي سجل نهاية لحياة مار فرج رحو في الموصل .
لقد عرفت الموصل منذ تاريخ سحيق انها ملتقى شعوب ومركز ثقافات ودائرة اديان وملل ونحل لا اوّل لها ولا آخر .. وبقدر ما كانت مدينة الموصل تزخر بالكنائس والبيع والاديرة المسيحية القديمة ، بقدر ما غدت مدينة عربية اسلامية تعج بالمدارس الاسلامية والمساجد والتكايا والزوايا الصوفية التي قامت جنبا الى جنب البيع والكنائس .. وعرف مجتمع الموصل التلاؤم والانسجام الديني بين اليهود والمسيحيين والمسلمين .. بل وتفوق المجتمع الموصلي على غيره من المجتمعات بتعايشاته التاريخية في كل الاحقاب ، وشارك الجميع في الدفاع المصيري عن كل المخاطر والتحديات التي جابهت مدينتهم واطرافها في عصور مختلفة .
سؤال التاريخ
ان اختطاف مطران الكلدان في الموصل ومصرعه يعد حدثا غريبا على التاريخ ، بل أنه قضّ مضاجع كل اهل الموصل الاصلاء ليس لأن الرجل كان يتمتع بسجايا متفوقة واخلاقيات عالية فقط ، بل لأن مثل هذا الذي حدث وصار لم يحدث ابدا على امتداد تاريخ العلاقات بين ابناء المدينة الواحدة .. لقد تابعت سيل العواطف العارم للمسلمين في الموصل من مختلف الاجيال ، وما وزّع من اوراق ومنشورات وقصائد حتى بين التلاميذ وطلبة الجامعة ـ والتي نقلها اكثر من موقع ـ ، بل واننا لو دققّنا اكثر لوجدنا ان مجتمعاتنا العربية والاسلامية قاطبة لم تعرف ما يشبه هذا الحدث المفجع ابدا على امتداد التاريخ .. من هنا تطرح تساؤلات عدة ، بل وتثار جملة كبيرة من علامات الاستفهام : من قتل زعيما دينيا مسيحيا بحجم المطران مار رحو ؟ من له مصلحة حقيقية في اختفاء مثل هذا الرمز الديني في الموصل بالذات ؟ وهل جاء رد الفعل في داخل العراق وخارجه بمستوى هذا الحدث الاستثناء ؟
أين التحقيق ؟ اين شهادة الوفاة ؟ ماذا كتب في شهادة الوفاة ؟
ان زعيما للكلدان المسيحيين في الموصل تختتم حياته بهذه الطريقة المؤلمة قد اثار غضب وحزن اهل الموصل واطرافها الذين تألموا على فقدانه بهذه الطريقة الارهابية .. في حين عّد الحدث واحدا من الاحداث العابرة التي تحدث سلسلتها في العراق ، وقد قّيد العمل ضد مجهول من دون اي تحقيق ولا اي تدقيق .. ويثير احد اصدقاء المطران الراحل ـ وهو طبيب ـ اسئلته التي امطرني بها قائلا بحرقة والم : هل يعقل الا يعرف حتى اليوم كيف كانت نهاية الرجل ؟ لماذا يلّف الغموض طبيعة موته ؟ لماذا لم يعرف الى حد الان سبب الوفاة ؟ هل قتل أم خنق أم سمّم أم مات بسكتة قلبية ؟ هل يعقل اّلا تتخذ الحكومة المحلية في الموصل اية اجراءات لمعرفة ذلك ؟ هل يعقل ان تؤخذ جثة الرجل بكل خفية على ايدي رجلين غير معروفين ليدفن من دون اي شهادة وفاة ؟ لماذا كان التكتم ؟ ولماذا كان التعتيم ؟ ولماذا احاطت السرية بنهايته المأساوية التي لا يعرف احد سرّها حتى اليوم ؟
اين هو رد الفعل ؟
ان زعيما دينيا كبيرا ينتهي هذه النهاية من دون ان يهتز الا القليل من معارفه واهل مدينته ، فهو امر محزن للغاية ! لو حدث مثل هذا الامر في مجتمع آخر ، لوجدت انشغال الاعلام والمؤسسات ورجال الدولة وابناء المجتمع بذلك كثيرا .. لم يكترث عالمنا لا العربي ولا الاسلامي اكتراثا بالامر وخصوصا الدول الجارة للعراق التي لدى مجتمعاتها شرائح واقليات سكانية من ابنائها المسيحيين القدماء ! هل انتبهنا ولو لمرة واحدة لهذا العدد الكبير من القوى السياسية والاحزاب والكتل المنتشرة في كل مكان من العراق والشرق الاوسط .. هل أدّت واجبها ؟ هل اثارها مثل هذا الحدث المؤثر ؟ ما سر ما حدث لمجتمعاتنا قاطبة والتي غابت عنها القيم والاعتبارات الاصيلة ؟ لقد تابعت ـ وكنت على سفر ـ بعض ردود الفعل الرسمية والشعبية ، فلم اجدها بالمستوى المطلوب التي تستقيم وقوة الحدث ! لم اجد اية استنكارات قوية من دول ومجتمعات ! لم اجد اية وقفة اعلامية عربية تليق بمصرع مطران ، اي زعيم ديني كبير بهذه الطريقة غير اللائقة ابدا ! ولقد استمعت الى بعض برقيات الاستنكار التي اتت على استحياء وكأنها تأدية بروتوكولية وليست واجبا وطنيا حقيقيا يتطلبه الموقف والتاريخ ويأمر به الدين وتنادي به الاخلاق ..
وقفة خاصة عند حياة مار بولص فرج
ولد مار بولص فرج رحو بمدينة الموصل في 20 كانون الاول / ديسمبر عام 1942 ، من والده اسطيفان رحو ووالدته مادلين سموعي يعقوب السقا ، وكان الاصغر بين اشقائه الاربعة وشقيقاته الثلاث .. وعاش طفولته في قلب المدينة بين ازقة محلة خزرج وحارات شارع الفاروق وباب البيض ودرس في مدارسها الابتدائية الاولى ، وخصوصا في مدرسة شمعون الصفا بالموصل . وفي العام 1954 ـ 1955 ، ترك الحياة المدنية وانخرط في سلك الرهبنة وهو لم يتجاوز الثالثة عشر من العمر ، اذ انتمى بالمرحلة الثانوية في المعهد الكهنوتي التابع لكنيسته ( اكليركية شمعون الصفا الكهنوتية البطريركية ) للمدة 1954- 1960 ، وغادر الى بغداد العاصمة وبقي فيها المدة 1960ـ 1965 ومن ثم انشغل في دراسة الفلسفة واللاهوت … وبالرغم من سفره عن الموصل ، لكنه بقي يحتفظ بكل صداقاته الاولى مع ابناء منطقته من المسلمين والمسيحيين الكاثوليك والارثودكس المواصلة طوال حياته ، ومنهم ابناء محلته القديمة الذين تربوا معه ، وبقيت علاقته قوية معهم في حياته بالموصل او اثناء سفراته الى بغداد ، ومنهم اولاد عائلة ملا علو وبيت آل طاقة وكان كل من الشاعرين المعروفين يوسف الصائغ وشاذل طاقة من اعز اصدقائه .
تلقّى الرهبنة في بيعة مسكنتا ، وأول ما اشتغل قسا كان في العام 1964 في كنيسة مار اوشعيا بمنطقة الشهوان القريبة من نهر دجلة ، وبقي فيها حتى العام 1973 ، حيث غادر الى روما لدراسة اللاهوت بين عامي 1974- 1976 وعاد وهو يحمل شهادة الماجستير من كلية القديس توما الاكويني للآباء الدومينيكان بعد ان حصل على ليسانس علم اللاهوت الرعوي . وفي 10 كانون الثاني / يناير 1965 ، سمي كاهنا ( قسيسا ) ببغداد .. انتقل الى كنيسة أم المعونة الكائنة في منطقة الدواسة القديمة اواخر السبعينيات .. كان نشيطا في عمله ، ومخلصا لملتّه وينتقل بين الكنائس القديمة بالموصل واشهرها : الطهرة ومار اوشعيا وام المعونة ومسكنتا .. وساهم بنفسه في تأسيس كنيسة مار بطرس وبولص في منطقة المجموعة الثقافية بالساحل الايسر عامي 1983 – 1984 .. وذلك بسبب التوّسع العمراني الكبير وانتقال اعداد كبيرة من المسيحيين الموصليين للسكن في الساحل الايسر . ولقد وفي 16 شباط / فبرايرعام 2001 رُفِّع إلى منصب أسقف في الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية وتولى مهام رعاية أبرشية الموصل. اذ رّسم مطرانا من قبل البطريرك روفائيل بيداويد ( توفي 2003 ) بطريرك بابل على الكلدان في العالم ، وكان كرسي البطريركية في الموصل حتى منتصف الخمسينيات عندما انتقل الكرسي الى بغداد ، والذي يجلس عليه اليوم سيادة الكاردينال عمانوئيل دلي زعيم عموم الكلدان في العالم .
مواقفه واخلاقياته
بقي المطران فرج يرتبط بمدينته الموصل ارتباطا حقيقيا ، ويعشقها عشقا لا حدود له .. وكانت تجمعه بعد ان اصبح زعيما دينيا كبيرا بكل الملل والطوائف والاعيان علاقة قوية راسخة .. كما يرتبط بحكم منصبه بعلاقات قوية بكل كنائس البلدات والمدن القريبة التابعة للموصل . كان يهتم بامور رعيته ويتفقد احوال الجميع . اصيب بجلطة قلبية بعد ان اصبح مطرانا وعولج منها ، ولكنه بقي مهموما بشؤون البلاد .
كان جثيثا ممتلئا ، وهو عصبي المزاج لا يقبل الخطأ مهما كان مصدره .. كان عنيدا في مواقفه وحاميا لكنيسته ومدافعا عن كل المسيحيين الكلدان .. كان يختار اصحابه من اصدقائه المسلمين الذين يحبونه ويحترمونه . كان عفيفا رهن حياته لدينه ومجتمعه وكل ابناء اهله .. لم يكن رجل كهنوت فقط ، بل كان شخصية اجتماعية جذابة . كان قارئا ومثقفا واسع الاطلاع ، فضلا عن متابعته لشؤون العالم .. واخبرني اكثر من مصدر بأن علاقاته قوية راسخة مع من يتعامل معهم بكّل ثقة ، ويخاصم بشدة من يشّذ عن الطريق . مواقفه عراقية وطنية حتى النخاع ، اذ كثيرا ما أدان الامريكان على افعالهم ازاء الناس ، وانتقد الاكراد مرارا على تجاوزاتهم في الموصل .. كما اخبرني احد المقربين اليه بأنه كان على خلاف مع الاستراتيجية التي يتبنّاها السيد سركيس آغاجان !
كان يهدأ من روع الناس في كلامه وخطبه ، وخصوصا بعد ان طالت الانفجارات بعض الكنائس ، وطال القتل بعض الرهبان الابرياء ، اذ كان بعد اي قدّاس يخطب بالعربية ويجالس مستمعيه ، ويزرع المحبة في القلوب وينادي بالتآخي والمودة والصفح عن الاخرين .. وبعد ان هدّدت بعض الجماعات المسلحة كنيسة الطهرة وافراغها من الناس بغرض تفجيرها ، أصّرت أخته الراحلة طيبة الذكر رمزة رحو البقاء في احدى غرف الكنيسة العليا لتلتحق ـ كما قالت ـ بسيدتنا العذراء مريمانه .. وبعد التفجير ، وجدوا رمزة بين الانقاض حية ترزق .. وبقيت زمنا حتى توفيت وفاة طبيعية !
خطابه ومواقفه الوطنية
يذكر أن مدينة الموصل تشهد منذ شهر نيسان / ابريل عام 2003 اثر سقوط النظام السابق اغتيالات ومضايقات ضد المسيحيين راح ضحيتها عدد من القساوسة والمدنيين ما اضطر العديد من العائلات المسيحية إلى ترك المدينة إلى محافظتي أربيل ودهوك الشماليتين أو إلى خارج العراق خوفا على حياتها. وتوجد في العراق أربع طوائف مسيحية رئيسة ، وهي : الكلدانية من أتباع كنيسة المشرق المتحولين إلى الكثلكة ، والسريانية الأرذثوكسية ( = اليعاقبة ) ، والسريانية الكاثوليكية ، والآشورية أتباع الكنيسة الشرقية إضافة إلى أعداد قليلة من أتباع كنائس الأرمن والأقباط والبروتستانت.
ولم يكن مار بولص يقبل ابدا خروج المسيحيين العراقيين من ديارهم وبلادهم وتشتتهم في العالم . كان يرى بأنهم سكان قدماء اصلاء تربطهم قوة الارض والتاريخ . كان يعّبر عن آرائه بكل شجاعة ، وكان يدعو دوما للمحبة والسلم والتآخي والتعاون كونه يجد ان تاريخا متساميا من التعايش الرائع بين المسلمين والمسيحيين قد عاش في العراق ، وبالاخص في الموصل منذ 14 قرنا .. كان بالفعل وفيا للموصل أم الربيعين ، وابنائها . تابعت صورا عديدة له وهو يزور جامع الامام محسن ، ويتابع اعمال البناء والترميم فيه ، وهو متاخم لكنيسة الطهرة .. وفي السنوات الاخيرة وقف ضد تهجير المسيحيين من بغداد والبصرة والموصل وبعض المدن الاخرى الى دشت حرير في اقليم كردستان ـ كما اخبرني أعز اصدقائه قبل ايام ـ ، وكانت مواقفه قوية بهذا الشأن ولم يتنازل عنها ابدا ..
وشدد في تصريحات صحافية على ان المسيحيين جزء من الشعب العراقي الذي يعاني بكل اطيافه من العمليات الارهابية وعمليات الاختطاف ويقدم يوميا عدداً من ابنائه ضحايا من اجل تحقيق الحرية والعدالة والرفاه. واشار راعي الكنيسة الى ان العبوة او قذيفة الهاون لاتفرق بين مسيحي ومسلم او صابئي فهي تستهدف جميع العراقيين . وقال : “كما قدم اخواننا ابناء الطوائف الاخرى ضحايا جراء العمليات الارهابية قدم المسيحيون ضحايا ايضا”. واضاف قائلا : نحن عراقيون يربطنا تاريخ مشترك في هذه الارض ومن الصعب ترك بلادنا التي تربى فيها اجدادنا لظرف استثنائي سيزول بفضل تلاحم جميع الاطياف العراقية.
واوضح : ان المسيحيين يشاركون اخوانهم في بناء العراق فمنهم الاطباء والمهندسون والضباط ومتطوعون في القوات الامنية الى جانب ان اصحاب المعامل والشركات التجارية لازالوا يمارسون اعمالهم ويتشاركون في المحنة وحب الوطن وتوفير مستقبل افضل للجميع. واشار الى ان الكنيسة ورجال الدين المسيحيين لا يمنعون اي مواطن من الهجرة باعتبار ان ذلك يدخل ضمن الحرية الشخصية فكما هاجر كثير من ابناء العراق من الاطياف الاخرى قد يهاجر المسيحيون ايضا وهذا الامر متروك لتقديرات شخصية.
الرحيل : علامة فارقة
كان المطران رحو نفسه قد تعرض لمحاولة خطف أخرى عام 2005 ولكن أطلق الخاطفون سراحه يوم ذاك من دون أن يتعرض للأذى. وسبق له ان قال في مقابلة صحافية في تشرين الثاني / نوفمبر من العام 2007 بأن وضع المسيحيين في العراق يزداد صعوبة خصوصاً في منطقة الموصل .. مشيرا الى أن مسيحيي المنطقة هم عرضة لتهديدات مستمرة . وأكد أن بقاء العراق ضعيفاً ومقسماً لا يخدم إلا أجندة بعض الدول الكبرى. وأوضح رحو إلى أن المعاناة الحالية التي يعيشها كلّ العراقيين تشملهم جميعاً على اختلاف أطيافهم إلا أنها أكثر قساوة على المسيحيين الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين خيارات محددة . وأضاف بأن ثلث المسيحيين غادروا الموصل بسبب الجماعات الإرهابية التي تتخذ من الدين ذريعة لجمع المال.
يصر صاحبي الطبيب اصرارا عجيبا ـ وهو صديق صدوق للراحل الكبير المطران رحو ـ بأن لا يمكن ابدا ان ينتهي المطران رحو نهايته المفجعة على ايدي ابناء مدينته ابدا .. فلقد كان معهم وكانوا معه منذ طفولته حتى نهايته فهو منهم واليهم . ولكن ثمة اياد خفية كانت وراء تصفيته بالصورة التي تابعنا مشاهدها التراجيدية . ان مصرعه سيبقى يحيطه الغموض ، ولا يمكن التكّهن به ابدا ما دامت الاوراق مختلطة والاسباب متنوعة والتحقيقات مفتقدة . ويخبرني اكثر من مصدر ـ فضّل عدم ذكر اسمه الان ـ بأن المطران رحو قد اختطف يوم الجمعة في الصوم الخمسيني وأثر قدّاس مناسبة طريق الجلجلة (= درب الصليب ـ بالمصلاوي ـ ) ، وكان ذلك في كنيسة النور الكائنة في حي النور بالساحل الايسر ، ولم يكن أحد يعرف بأنه ذاهب اليها لأداء القدّاس ، ولكن تلك الكنيسة لم تكن تابعة له ، بل كانت تتبع مطرانية عقرة .. فكان او اوقفت سيارته وقتل مرافقيه واختطف المطران .. وشاع اختطافه ، وقد أبلغ احد أقاربه ، انه طلب من عائلته في مكالمة هاتفية رتبها خاطفوه رفض المساومة على حياته معهم ودعاهم الى عدم تلبية طلبهم بدفع فدية تحريره البالغة مليوني دولار .
ولم تنفع كل المناشدات ابدا على مدى ايام ، حتى وصلت اشارة بأنه مدفون في مكان معين من الساحل الايسر مع اشارات بالخطوط البيضاء تدل على مكانه .. فاخرجت جثته وكتم عليها من قبل المسؤولين المحليين ، حتى تسلمها اثنان من الافراد وتم تشييعها على عجل في ناحية كرمليس شرق الموصل . وهنا اطالب الحكومة العراقية باجراء تحقيق كامل وفحوصات دقيقة لمعرفة اسباب الوفاة والكشف عن معلومات جديدة ، وعدم التعتيم أبدا على ما جرى ..
وقفة تأملية في وصيته التي فتحت في اربعينيته
في وقت لاحق ، كشفت عائلة رئيس اساقفة الموصل المطران بولص فرج رحو عن وصيته التي جاءت معبرة عن حب المسيحيين العراقيين لبلدهم حيث دعاهم الى المحافظة عليه ، وتمتين اواصر المحبة والاخوة مع بقية العراقيين .فقد أعلنت عائلة المطران الراحل رحو (65 عاما) وهي تحتفي بأربعينيته عن فتح وصيته التي تركها لأهله وأصدقائه وأتباعه يدعو فيها العراقيين الى الدفاع عن بلدهم وتمتين اواصر الاخاء والمحبة فيما بينهم كما يؤكد على حبه للعراق . ويقول المطران في وصيته ، وكأنه كان يتوقع هذه النهاية المأساوية لحياته في ظروف العنف والاضطراب التي يعيشها العراق بالرغم من انه كتبها بتاريخ 15 آب /أغسطس عام 2003 عيد السيدة العذراء : ” أن الحياة هي الإستسلام الكلي بين يدي الله والموت الطبيعي هو العبور إلى استسلام دائم وأبدي” . وتشير الوصية الى مدى الحب الذي كان يعتمر في قلب المطران للعراق حيث يطلب من “ابنائه العراقيين” والمسيحيين بشكل خاص التمسك بالعراق لأنه بلد الآباء والأجداد ويطالبهم بالحفاظ عليه .
عنوان وطريق المجد لكل من يحب شعبه
ولدى الكشف عن نص الوصية التي نشرها موقع “نينوى” على شبكة الانترنيت قبل ايام والذي يحمل اسم المحافظة العراقية الشمالية وعاصمتها الموصل ، قال الصديق الدكتور غازي رحو احد افراد عائلة المطران الفقيد : “لكي يطلع كل الشرفاء في العراق والأمة من رجال دين ومؤمنين .. ولكي يطلع أبناء العراق بكل أطيافهم ومنابتهم وقومياتهم واثنياتهم وطوائفهم ، كيف سطّر شهيد العراق بكل أطيافه وصيته التي أكدت على حب العراق والعراقيين وتسامى على كلّ الجراح ودعا إلى حب العراق ورعاية شعبه ، ولم يفرق بين دين ودين ، ولا بين طائفة وأخرى ، وإنما دعا للعراق ولشعبه” . وقال ان الوصية هي “عنوان وطريق لكل من يحب شعبه” .
وفي وصيته يقول المطران رحو : “أطلب من الجميع أن يكونوا منفتحين لإخوتنا المسلمين واليزيدية وكل أبناء هذا الوطن الحبيب ، ويعملوا على بناء أواصر المحبة والأخوة بين أبناء بلدنا الحبيب العراق” . ويضيف قائلا : “أذكر الشعب الذي خدمته والأصدقاء الذين أحببتهم وأهلي جميعا .. أذكر رؤساء الكنيسة والآباء الكهنة ومنهم كهنة يسوع الملك الذي أنا واحد منهم والرهبان والراهبات وكل الذين أحبوني والذين لم يحبوني .. أذكر الضعفاء في جماعة المحبة والفرح .. الذين أنحني أمامهم وأمام الكادر الذي يضحي فهؤلاء هم الذين علموني معنى الحب .. أذكر جميع الشباب والشابات الذين هم غد الكنيسة وأطلب منهم جميعا أن يحملوا شعلة الإيمان في بلدنا العزيز ” .
كلمة أخيرة تختصر معنى الحب
واخيرا اقول ، بأن العراق والعالم اجمع عموما قد خسر شخصية عراقية مؤثّرة ، وافتقدت الموصل العريقة في مركزها واطرافها زعيما دينيا مسالما .. آمن بالمحبة وعشق الارض وطريق السلام .. زعيما نادى بالتصافي والوئام في خضم لجج الصراع .. زعيما دفع حياته ثمنا من اجل العراق وكل اطياف العراق .. انها كلمة اخيرة تختصر كل معاني الحب على طريق المجد .. ان اسم هذا المطران الراحل سيبقى شعلة وضيئة مضيئة في تاريخ العراق كله وتاريخ مدينته الموصل بشكل خاص ، وستبقى الاجيال القادمة تذكره باطيب الذكر ، وسيبقى حدث مصرعه علامة فارقة في التاريخ .
فصلة مخصصّة لكتاب (زعماء ومثقفون : ذاكرة مؤرخ ) لمؤلفه سّيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …