في البدء شعرت بالفزع من الصورة: العراقيون يتساقطون مثل أوراق الشجر.. هكذا كتب الصديق الحاضر دائما في مشغولياتنا الدكتور سيار الجميل، فقد صدمني اختزال فجيعة إبادة النوع العراقي الى صورة شعرية رومانسية مثل انسياب تساقط أوراق الأشجار على صفحات الماء، وكما في قصائد أوراق الماء لادونيس حيث “نرتجف مثل أوراق الأشجار” في صورة تجريدية لشاعر أعيته مطاردة غزلان الغابات، وهو ينظر إلى تساقط ذؤابات الصفصاف تدعوه إلى استراحة بينها”حيث القي يديّ عليها كما القيها على كتفي حبيبتي”.
وشاءت استطرادات التكيف مع تساقط أوراق الأشجار ان تذكرني بفيلم علمي عن استخدام أوراق الأشجار في عقاقير لمعالجة أمراض مستعصية، وكان فريق علمي يجمع مثل هذه الاوراق من حقول تساقطت فيها الأوراق في بدايات الخريف، وان تعيدني الى ما كتبه الصديق الدكتور احمد النعمان عن ذكرياته مع الروائي الراحل غائب طعمة فرمان حيث “كانت اوراق الأشجار الصفراء تتساقط بكسل معلنة انتهاء موسم الصيف ومجئ موسم الخريف. تذكرت صامتا أبياتا من شعر العاشق القروي سرغي يسينين:الأوراق الصفراء/ تساقط حزينة كسلى/في حديقتنا القديمة المنسية!”.
وتساقط أوراق الأشجار اقرب الى مسلات الأسى ومشاعر الخذلان الذاتية، والى ممالك العاشقين العاطفية، وفجائعها، والى تداعيات خريف العمر بالنسبة لبشر تخطوا مشوار الصبا والشباب، وقد قرأت للكاتب الايراني برويز دوائي قصة رائعة عنوانها (الحديقة) إذ ” تدور الأوراق في الهواء وتتساقط، وحينما تهب الرياح نسمع حفيف الأشجار وتتساقط أوراقها لتنهمر في الجو رائحة زكية” وأتذكر في قراءاتي لقضايا علم النفس انه طلب الى نزلاء إحدى المصحات العقلية ان يرسموا حياتهم على الورق، فتبين ان اقل من نصفهم رسموها على هيئة أوراق تتساقط من أشجار باسقة.
ما يجري في العراق، تساقط مروّع للنوع، واجدني هنا اقترب في مفردة السقوط مما أراده الدكتور الجميل، والفرق هو ان سقوط النوع مدو، فيما سقوط الأوراق انسيابي، لكننا إذ نقرأ نص الكاتب سنكتشف فجيعة ترقى إلى الصراخ الإنساني على ما يحدث لشعبه..يقول “إن الأبرياء يتساقطون في العراق مثل أوراق الشجر ، وهم بشر من الأسوياء العقلاء وليسوا قطيعا من البهائم ! إنني أناشد كل صاحب ضمير حي في هذا الوجود أن يصرخ ضد ما يتعّرض له كل العراقيين ، وان يعمل الجميع من اجل أي علاج داخلي أو عربي او إقليمي أو دولي .. وان تدوي صرخات كل شعوب العالم وان لا يبقى الحال على ما هو عليه مع صمت عربي وإسلامي سياسي وإعلامي مطبق !” ويقول ” لا يمكن أن تستمر شطوط الدم وحرب كسيحة لا حسم لها ! لا يمكن الصمت على التهجير ألقسري والنفير الاجتماعي للهروب وإفراغ مناطق من سكانها الأصليين وهجرة العراقيين إلى دول مجاورة”.
إننا إزاء أوراق تتساقط كالدوي، وهي لغة الدم حين تكون له أبجدية عراقية..يا للكارثة.
خاص بالفيحاء
شاهد أيضاً
مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !
قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …