لم تكن مجتمعاتنا في القرن العشرين تعاني من انقسامات وطنية ، ولا من تمزقات اجتماعية .. ولا من أي تفكك داخلي . لقد تبلورت بعد حومة النضالات الوطنية : صراع ضد الصهيونية وانشقاقات سياسية وانقلابات عسكرية ومشكلات حدودية ونزاعات إقليمية وتجارب اتحادية .. وحتى الحرب الأهلية اللبنانية، فهي سياسية أكثر منها اجتماعية !! لكننا نشهد اليوم بداية بشعة لتفكك الدواخل وانقسام الأوطان وصراعات الهوية وحروب الطوائف واختراقات الأطراف .. وأسأل مثلا: ما الذي ستقود إليه الانقسامات الوطنية بفلسطين وسفح دم فلسطيني بأيد فلسطينية بلا مبرر ؟ وما مصير العراق الذي يعيش ماراثون التفكك وهو يقاوم الانهيار بمنتهى الشراسة ؟ وما أوضاع لبنان بعد سلسلة التفجيرات والعدوان الهمجي الإسرائيلي وانتشار القوات الدولية ؟ وما دور جماعات الإرهاب وهي تتغلغل لتفخيخ المجتمعات المستقرة وقتل الأبرياء ؟ ما الذي يحدث في إقليمي دارفور وجنوب السودان من تمزقات وتدخلات ؟ ما طبيعة التمردات التي استردت دمويتها في الجزائر ؟ ما طبيعة الانشطارات الجديدة على الهوية بالنسبة للأقباط في مصر والأكراد في العراق وسوريا والامازيغية في بلدان المغرب العربي ؟ وما حجم تململ الأقليات الدينية والمذهبية والطائفية التي بدأت تتفجر في أصقاع مهمة من ” الوطن” العربي وبضمنهما الجزيرة العربية ؟ ما دور الآخرين وحجم تأثيرهم في كل الانقسامات التي طالت أهم ركيزة من حياتنا الحديثة ؟ ما نغمة ما يسود في بلداننا من شمال وجنوب ؟ وهل كان هناك من له القدرة على صدّ الرياح الجديدة التي هبّت على عالمنا منذ بدايات القرن الجديد برغم الصيحات التي أطلقها بعض المفكرين العرب والذين طالبوا بإجراء الإصلاحات وتحديث للبنى وتنمية للأفكار .. وتخلّص السلطات من الاساليب الدكتاتورية ومن قمع الاقليات ومن كل الاساليب الفاشية التي اكتوت بنارها مجتمعاتنا التي عرفت التعدد والتنوع على امتداد التاريخ . لقد كانت الاضطهادات السياسية المادية والمعنوية التي مورست بحق الناس ، اغلبيات ام اقليات هي التي اسهمت في قتل روح المحبة والتعايش والتسامح والحياة الاجتماعية المشتركة .
لقد اعتادت اسماعنا على مصطلح ( الوطن العربي ) منذ ان كّنا اطفالا ، وهو ” وطن ” كبير يضم مجتمعات عربية تتنوع فيها الاثنيات والثقافات وتتعدد المصادر والكيانات ، ولكن اذا كان الترابط الجغرافي التاريخي للعروبة قد انتج هذا ( الوطن العربي ) ، فهو منقسم من حيث الواقع الى اجزاء متعددة ، لم تنجح القومية العربية على تحقيق شعاراتها في توحيد تلك الاجزاء طوال القرن العشرين بفعل اختلاف البنى السياسية والهياكل التاريخية والخصوصيات الجغرافية .. وبفعل الخلط المبهم ( الذي لا نجده الا عند العرب ) بين مبدأين أثنين : الوطنية والقومية في حين ان لهما مدلولا واحدا في الثقافات الاخرى !
نعم ، لقد نشأت المشكلة منذ أزمان متمثلة بازدواجية التفكير العربي بين مفهومين لم يستطع المرء التخلّص منهما ويتمثّلان أساسا بالفكرة الوطنية أولا وبالفكرة القومية ثانيا وصراعهما .. واليوم تركّبت المشكلة على ثلاث إذ دخلت الفكرة الدينية الميدان ، فنقف اليوم على ثلاث اتجاهات منشطرة : وطنية وقومية ودينية ، ويتمثّل ذلك بأحزاب وتيارات وأفكار وإعلام .. بل وضعفت الفكرة الوطنية جدا ، فمثلا أصبحنا نطالب بإنشاء الدولة الفلسطينية بديلا عن الوطن السليب ! وأصبحنا نسمّي ما يحدث في العراق بالعملية السياسية بديلا عن المشروع الوطني .. وأصبحنا نردد على الملأ حرب حزب الله بديلا عن الحرب الوطنية .. الخ
هنا ، لا أريد أن ارسم بانوراما خيالية عن واقع بائس نعاني منه جميعا ، ولا أريد أن انقل صورة سوداوية للمنطقة أكثر تشاؤما وبؤسا مما هي عليه اليوم .. ولا أريد أن أكون منظّرا لأفكار ومشروعات ، بل أريد أن انشر رؤية لحجم الفجيعة الوطنية .. والمتمثّلة بمخاطر ما يجري عندنا اليوم في ضوء الأحداث المريرة التي لا تحدث من فراغ أبدا ، خصوصا وان التراب الوطني لم يعد غاليا لا في الذاكرة ولا في الواقع ، ولا اعتقد ان هذه ” الحالة ” تقف من ورائها برامج ومخططات ومؤامرات ، فالوعي العربي ليس مغيبا بقدر ما هو منحرف جدا ، وخصوصا في بلدان غدت أحوالها خطيرة جدا وستنتقل العدوى منها لا محالة إلى كل المنطقة .. إن العراق ـ مثلاـ وهو يتوسط قلب الشرق الأوسط ، لم يجر تغييره نحو الأفضل ، ولم يتحقق حلم أهله لأن يتخلصوا من الحروب ومآسيها ، بل أن النزعة الوطنية كلها اليوم في خطر ! ونخشى على كل المنطقة أن تتفكك وتهترئ خصوصا إذا كانت لا تمتلك مقومات القوة والبقاء !
السؤال : هل تتناسب أوضاعنا الحالية في منطقتنا مع حجم الفجيعة التي يعاني منها الجميع ؟ لقد عشنا طوال القرن العشرين ونحن نعاني من الخلافات السياسية وتدخلات سافرة من قبل احدنا على الآخر ولكن مع ثبات الأوطان وتلاحم المجتمعات . كان الكل يبحث عن حلول داخلية للمشكلات والأزمات المتفاقمة ، بل وان جل الحروب الطاحنة الانقلابية والحدودية والإقليمية والأهلية وحتى الإذاعية الباردة كانت في أسبابها ونتائجها سياسية صرفة .. أما أوضاعنا اليوم ، فهي خطيرة بضرب صميم دواخلنا ، وقد فرضت التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية أجندتها علينا من اجل تحقيق مصالحها على حساب قضايانا وفي أقوى مناطقنا سخونة وإستراتيجية وثراء . لقد تشكّلت في الأحشاء جملة هائلة من الأحقاد والكراهيات التي برزت طافية اليوم على السطح بشكل مقزز متمثلة بنخب وساسة وإعلاميين وأشباه مثقفين ليس لهم إلا زرع الفتنة وترويج الانقسامات بذرائع متباينة واختلاف الآراء الجديدة وبمسمّيات متنوعة كالهوية الطائفية والجهوية الساخنة ونزعة الأقاليم والتقسيمات وحروب الميليشيات الحزبية والجماعات الدينية الإرهابية .. الخ
لقد كانت بلداننا مؤهلة حتى وقت قريب إلى إحداث إصلاحات وتغييرات جذرية تشريعية وسياسية وفكرية واجتماعية وتربوية من اجل درء أي إسقاطات جديدة لعالم اليوم بكل ما يتضمّنه من مخاطر في شبكات المعلومات والإعلاميات الجديدة ، ولكن بدل ان تجري تحولات هادئة وذكية ، دخلنا مرحلة جديدة من الصراعات على حساب استغلال التعدد والتنوع في مجتمعاتنا .. وبدل أن تتحرر الإرادة الفكرية سيطرت الانغلاقات ، وبدل أن تجري إصلاحات استثنائية وجذرية في مرافق الدولة والمجتمع انغلقت الحياة على تقاليد مكبلة وخنادق مسدودة مما خلقت وستخلق تداعياتها فجائع وكوارث لن يعلمها الا الله .. وبدل أن تسعى القوى القديمة إلى إجراء إصلاحات واسعة النطاق سيطرت باسم الانتخابات جماعات ضعيفة وقوى واهنة على مقاليد الحياة فلم تبق هناك أي سياسات ولا أي مناورات .. فكيف ستبقى الأوطان تحافظ على بيضة القبان ؟؟ الأمر صعب جدا من خلال رؤية واقعية مفعمة بالأسى ! وسوف لن يفيد إيهام الناس بعكس ذلك ابدا !
www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 11 اكتوبر 2006
Check Also
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …