الرئيسية / مقالات / من تصدير ثورة إلى استيراد ديمقراطية

من تصدير ثورة إلى استيراد ديمقراطية

لن تصّرح فرنسا ولا روسيا أو أميركا بتصدير ثوراتهم إلى العالم .. فالمبادئ لا يمكن تصديرها أبدا ، بل تقوم الشعوب باستلهامها والتعلّم من تجاربها وأساليبها الايجابية والسلبية ! هذا ما كنت قد كتبته في مقال لي بجريدة الشرق الأوسط اللندنية منذ ربع قرن .. وخصوصا عندما سمعنا بمصطلح «تصدير الثورة» لأول مرة في العام 1979 اثر انتصار الثورة الإيرانية على النظام البهلوي .. ولم يفلح من أراد تصدير الثورة ، فلكل ثورة ظروفها وبيئتها وعواملها السياسية والاقتصادية والاجتماعية..


لقد جئت بهذا المثل عندما نسمع ونشهد اليوم كيف يلوك الناس مصطلح «الديمقراطية» اذ غدا مجرد لعبة سياسية مستوردة وليس ظاهرة تاريخية أساسية بحاجة إلى جملة من المستلزمات الحقيقية.


نعم ، ان الديمقراطية أسلوب حياة متقدم جدا قبل ان تكون مجرد آلية نظام حكم .. فلقد نجحت في بريطانيا مع وجود نظام ملكي قديم .. ومفهومها أوروبي النشأة والتطور ولكنه غير قابل للتصدير أو الاستيراد حتى يباع في الأسواق ! انه مفهوم تاريخي ينبغي أن يستوعبه الإنسان في كل مكان ، فلا يمكن أن ينحصر بحالة انتخاب أو تبادل سلطة أو دعاية وإعلان..


انه لا يعمل في بيئة متأخّرة ولا في ظروف غير قابلة له مهما بلغت درجة إحضاره بديلا جاهزا ، ومهما بلغت درجة مهارة من يأتي به ! انه مفهوم مرتبط حقيقة بالحريات الفردية والاجتماعية ، قبل ان يغدو سلعة عادية في إتاحة الحريات السياسية . لقد فشلت تجارب العرب (الديمقراطية) لأن مجتمعاتنا لم تتمتع حتى اليوم بكيفية ممارسة الحريات والمسؤولية التاريخية في تحّمل أعباء التغيير بالاعتماد على الذات لا على الآخر .. وهذا أمر مدهش في مجتمعات عاشت تحولات إصلاحية منذ قرنين من الزمن!


كّنا ولم نزل نسمع بالديمقراطية التي اعتبرها حقّا أحد ابرز أساليب المجتمعات المتقدّمة في التسارع التاريخي ، وينبغي ان يقودها أناس مؤمنون بها إيمانا حقيقيا لا مزيفا .. أناس لا يعتبرونها مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة..


فضلا عن كونها وظيفة لابد ان تساهم بها كل فصائل المجتمع أو طبقاته حتى وان بدأت على أيدي النخب الواعية التي غدت مجتمعاتنا تقصيها وتهمشها على حساب بروز طبقة طفيلية تجمعها مصالح آنية خاصة بها ، وطبقة كادحة ومسحوقة لا يعنيها غير لقمة العيش ! من جانب آخر : تستفحل قوى سياسية جديدة في الواقع العربي لا تؤمن بالديمقراطية إيمانا راسخا، بل ولا تجد في الأساليب المدنية بغية لها في حكم المجتمع.


ان المشكلة ليست زمنية ـ كما يراها الأخ الدكتور محمد الرميحي ـ بل أجدها مشكلة موضوعية .. وان التربة الخصبة التي نمت فيها شجرة الديمقراطية في أوروبا الغربية زمنيا ، فإن مشكلتنا معها لا يحّلها الزمن منذ أكثر من قرن مضى ، وعليه ، فلابد لنا ان نعالج العوائق الموضوعية على مهل ، والاّ فالمراهنة على الزمن لا تجدي نفعا أبدا..


ان التجربة العراقية اكبر برهان على طبخ الديمقراطية المستوردة بسرعة واعتقد أنها تجربة أخفقت ليس بسبب ظروف أمنية حسب ، بل لأسباب موضوعية وخصوصا الفراغ السياسي الذي يعيشه العراق . لقد كانت نخب العراق تتطلّع إلى تحّول جذري تاريخي ينقذهم مما كانوا عليه على ان يمرّوا بفترة نقاهة يستعيدوا فيها أدوارهم ويؤسسوا لهم مبادئ وطنية جديدة..


لا ان تجعلهم أسارى مأزق تاريخي وطائفي وإرهابي أصبح من الصعب الخروج منه ! ولا ادري لماذا يتّم التسرع بهذه التجربة التي تصادف اليوم إجهاضا لها.. إنني أدرك ان أي عملية سياسية ترمي لتطبيق الديمقراطية في عالمنا العربي والإسلامي تحف بها مخاطر لا أول لها ولا آخر ! ان الديمقراطية على الطريقة المتسرعّة التي قدّمت لنا والتي عدّت نموذجا للشرق الأوسط تبدو اليوم مخيّبة للآمال والأمنيات..


لقد كتبت مقالة قبل سقوط نظام صدام حسين بأيام وعنوانها (هل باستطاعة العراقيين صناعة تاريخ جديد؟ ) وذلك في جريدة الزمان اللندنية ( العدد 1454 بتاريخ 17 /3/ 2003 ) قلت فيها:


«أقول، إن العراق ليس بلدا سهلا ابدا ، يمكنه ان يغدو بسرعة نموذجا شرق أوسطيا للمركزية العولمية.. انه من البلدان المعقدة جدا، وكان قد مر بسلسلة تاريخية مريرة من الأحداث والحروب ولم يزل..


ولا ندري كيف سيخرج من معضلته اليوم.. انه يحتاج إلى نقاهة تاريخية بعدها لعدد من السنين خصوصا وان هناك تركة ثقيلة من المشكلات الصعبة التي تحتاج إلى حلول عبر سنوات.. وان مجتمعه اليوم هو غير مجتمعه في خمسينات القرن العشرين! وان أكثر من أربعة ملايين عراقي مهاجر ليس من السهولة أبدا ان يرجعوا ليلتئموا بسهولة مع واقع اجتماعي متغير في أساليبه وحتى في عاداته وتقاليده..


صحيح ان للعراقيين اطيافهم وألوانهم وتنوعاتهم ولكن في الوقت نفسه لهم تعددياتهم ومرجعياتهم واختلافاتهم.. وان الديمقراطية والمؤسسات المدنية ضرورة لهم ولكن تراكمات الماضي الصعب بحاجة إلى معالجات عملية وسيادة قانونية وخبرات تخصصية وتجارب براغماتية بعيدة عن العواطف الساخنة وهل يتقبل أي عراقي طبيعة المتغيرات الجديدة المنبثقة من تحت العباءة الأميركية والاعتراف بإسرائيل؟


وكثيرا ما رددت منذ العام 1979 بأن المبادئ والأفكار لا تصّدر أو تستورد بقدر ما تستلهمها الشعوب والمجتمعات. فهل سيغدو العراق مؤهلا لمثل ذلك؟ وهل سيتقبل العراقيون الالتزام بوظائف جديدة من اجل تغيير تاريخ المنطقة بالكامل؟ وهل سيغدو العراق نموذجا يحتذى به في قابل الأيام والسنين؟ إنني اشك في ذلك».


مؤرخ عراقي


www.sayyaraljamil.com


البيان الأماراتية 28/6/2006

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …