الرئيسية / الشأن العراقي / العراق: لماذا تشّوهون تاريخه وجغرافيته؟

العراق: لماذا تشّوهون تاريخه وجغرافيته؟

البداية: لماذا يشوهون التاريخ والجغرافية؟
لقد قلت في واحدة من المحاضرات التي كنت قد القيتها في ندوة علمية صرفة العام 1991 عن مشروع اعادة كتابة تاريخ العراق وانتقدت وقت ذاك السياسة العراقية الرسمية التربوية والاعلامية بطريقة غير مباشرة كونها اتبعت التضليل في جعل قراءة التاريخ قراءة احادية وشوفينية وخلق جمهرة من المؤرخين المزيفين للوقائع والاخبار والاحداث بما يتلاءم والايديولوجية المعتمدة عهد ذاك.. واليوم اتذكّر تلك الحالات المفضوحة كلما اسمع او اقرأ او اشاهد محاولات تشويه متعمد لتاريخ العراق يمارسها هذا من العراقيين او ذاك من غيرهم، سواء في اطلاقهم الاحكام الجاهزة او تزييف الحقائق من دون أي تدقيق ولا أي موضوعية ولا أي امانة.. لقد غدا تاريخ العراق اليوم، ساحة يتبارى فيها عدد كبير من ساسة فاشلين واعلاميين بدائيين وانصاف مثقفين.. بل وطال الامر حتى المتخلفين والجهلة من الطائفيين المتعصّبين من كل الاطياف العراقية الداكنة .. انهم لا يعرفون ماذا يفعلون فتشظياتهم طائشة في كل درب وصوب أي اتجاه.. انني اعتبر كل من يسعى لتشويه التاريخ او الجغرافية دليل عجزه على تشويه الواقع او فشله في تزوير الحاضر، فيلجأ الى تاريخ البلاد وجغرافيتها كي يجد فرصته او بغيته لخلق جدار واه يستند عليه!

خارطة العراق ليست بريطانية!
قبل ايام انتقدت في مقال مختزل (نشر في جريدة الصباح البغدادية يوم 22 يونيو 2006) اولئك الذين يريدون تشويه جغرافية العراق بعدم اعترافهم بخارطة العراق السياسية عندما يصفونها بكل برود انها ” خارطة بريطانية “، اذ وصل هذا الامر حتى لدى بعض الاكاديميين العراقيين المعروفين في علم الاجتماع .. ولما كانت مقالتي التي ردّت على هذه الدعوات مختزلة، فسوف ارد ـ لاحقا ـ بطريقة وثائقية على اولئك البعض من العراقيين وغير العراقيين الذين يشوّهون جغرافية تاريخ العراق بغية التّوصل الى اهداف يؤمنون بها، وبالرغم من احترامي لارادتهم السياسية، الا ان خارطة العراق السياسية تقول غير ما يريدون اذ يثبت لنا بأنها خارطة عراقية نجد مراجعها وتوثيقاتها في اطالس الخرائط العثمانية للولايات العراقية الثلاث: بغداد والموصل والبصرة..

تشويه تاريخ العراق
اليوم اخصص مقالي عن بعض حالات تجري اليوم اعلاميا لتشويه تاريخ العراق، وهي محاولات تطمح للتشويش على تفكير الناس وتضليل الجيل الجديد الذي بات لا يعرف تاريخه وقد ضاعت الحقيقة من عنده، بل وغدا لا يعرف ابطال تاريخه ولا يدرك الصواب من الخطأ، فضلا عن محاولته بناء اتجاه لا يستقيم والمواطنة ومبادئ العراق الاجتماعية.. مستفيدين في الحقيقة من هزال ثقافته نتيجة اغتراب وعيه الوطني واضطراب ذهنيته بين مجموعة من التناقضات، فهو واحد من المتطفلين على التخصص في الشؤون العراقية..
بل وتعجبت قبل ايام من لقائي بشخصية سياسية قيادية عراقية لا يدرك صاحبها الف باء تاريخ العراق المعاصر، ولم يميز بين زعمائه ولا يعرف سنوات الحكم ولا يدري بديهية سنوات احداث تاريخية مصيرية في حياة المجتمع العراقي المعاصر.. وكان يسألني اسئلة ساذجة لا يمكنني ان اصدق ان امامي احد اعمدة القادة العراقيين الجدد!! بل والاقسى من كل هذا وذاك انه يؤمن ايمانا راسخا بتشوهات تاريخية زرعوها في عقليته وكاد يندهش عندما اواجهه بالتوثيقات والادلة والحجج!! ومضت ايام وراء ايام، وانا افكّر بمصير بلاد عريقة هزلت جدا على ايام العهد السابق، وكنا نحلم ان تسترجع انفاسها على ايدي الاذكياء والبارعين والمبدعين، فاذا بنا امام اناس يفتقدون ابجديات الثقافة العراقية العامة!!

من يقنعكم بالتاريخ الطائفي؟
جمعتني ندوة تلفزيونية مع واحد آخر من الوجوه السياسية الجديدة التي برزت على المسرح السياسي العراقي اليوم.. وكان قبل سقوط النظام السابق نكرة لا يعرفه احد، لا بل لم نقرأ له سطرا واحدا، بل ويقال ان تاريخه الشخصي يتضّمن عدة علامات استفهام.. وانا لا تعنيني سيرة الشخص بقدر ما يعنيني تفكيره واراؤه اليوم.. جلس ليوزع الأحكام السريعة التي لا تصدر عن عراقي عاقل، بل وانها لا تصدر حتى أي انسان عادي يعيش امتحان العراق منذ خمسين سنة.. وبدا لي ان الرجل لم يقرأ كتابا واحدا في تاريخ العراق لا القديم ولا الوسيط ولا الحديث.. ومما قاله ـ وهو ينهج خطا في الاعلام العراقي ليوزع الاراء الانقسامية ـ وقال بالحرف الواحد: بأن تاريخ العراق كله هو تاريخ طائفة سياسية!! وان العراق لم يعرف الا العهود السوداء منذ الف ومائتي سنة!
واستطرد قائلا: ان العراق قد حكمه طوال التاريخ مكّون واحد من مكوناته الثلاثة!!.. الخ هذا الكلام يسمعه الملايين من العراقيين وهناك ملايين من العرب يسمعون هذا التشويه التاريخي من دون ان يعقّب عليه احد في صحافة او ان يوقفه احد ليسأله: لماذا تريد تسويق بضاعتك السياسية وتضّخم من حجمك على حساب تاريخ العراق الذي لا تعرف منه شيئا! هذا السياسي العراقي الجديد لا يقتنع بأن هناك من سيحرقه علميا وان كلامه سيغدو على المشرحة.. انه لا يدرك من حياته الا التفكير الطائفي ليصبغ به كل العراق اذ انه عاش منذ صغره على الكراهية لا على المحبة وعاش على الاقصاء بديلا عن التعايش!
هذا السياسي العراقي الجديد يريد ان يصبغ ما صادفه من اضطهاد على العهد السابق ليصبغ كل تاريخ العراق بالاضطهاد! انه لا يعترف بالفرق بين الصراع السياسي والصراع الديني! هذا السياسي الجديد لا يدرك بأن هناك فترات سياسية عراقية لم تعرف الطائفية بمثل هذا الحجم الذي يتحدث عنه! هذا السياسي لا يعرف من هو جعفر العسكري مؤسس جيش العراق.. ولا يعرف مكانة سعيد قزاز الادارية في تاريخنا الملكي ولا يعرف مشروع الدكتور فاضل الجمالي في الشرق الاوسط.. ولا يدرك من هو احمد مختار بابان.. ولا يعرف ماهية ميثاق بغداد عام 1955! ولم يقرأ أي شيئ عن مجلس الاعمار العراقي! هذا لا يعرف من هو حسين الرحال ولا فؤاد الركابي ولا هاني الهندي.. هذا السياسي لا يدرك اول تشكيلة وزارية للعهد الجمهوري ومن ضمّت؟ ولا يدرك ممّن تألف مجلس السيادة؟ واذا ما ورد اسم نوري السعيد او غيره ممن سبق وحكم العراق انهال عليهم بسياطه الملتهبة من دون ان يكون حياديا ويعطي لكلّ ذي حق حقّه!!
هذا السياسي الجديد لا يفّرق بين تاريخنا الحضاري وتاريخنا السياسي! هذا لا يعترف بأن العراق كان حاضنة للحضارة العربية والاسلامية كونه لم يقرأ حضارة العراق! هذا السياسي الجديد لا يدرك بأن تاريخ العراق منذ سقوط بغداد عام 656 هـ / 1258 م على يد هولاكو لم يعرف شعبه كيف يحكم نفسه بنفسه، اذ حكمه الغرباء من الاسيويين!! هذا السياسي الجديد لا يمّيز بين نزعة البويهيين وبين امتدادات السلاجقة.. بل ولا يعرف متى حكم التركمان من الاق قوينلو والقره قوينلو العراق.. بل ولا يدرك متى دخل الشاه اسماعيل الصفوي العراق وكيف امتد من جنوب العراق حتى شماله وكم بقي ببغداد!! وماذا فعل بالعراق؟ ولم يعرف كم حكم الشاه عباس العراق في القرن السابع عشر؟ ولم يعرف ماذا فعل العثمانيون بالعراق؟ ولم يعرف من هو نادرشاه؟ وما الذي فعله؟ هذا السياسي الجديد لا يعرف متى حوصرت بغداد لستة اشهر ابان القرن الثامن عشر حصارا قاتلا حتى اكلت الناس الكلاب والقطط!!
هذا السياسي العراقي الجديد لا يفقه كيف حكم العثمانيون العراق بولاياته الثلاث وانه لم يدرك فلسفة العثمانيين في الحكم للولايات العربية وخصوصا للعراق.. ولا يدرك بأن العثمانيين لم يعينوا عراقيا (او: عربيا) واحدا واليا على أي ولاية عراقية او غير عراقية مهما كان ذلك العراقي ومهما كان انتماؤه سنيا ام شيعيا.. هذا السياسي الجديد لا يعرف كيف اضطهدت قبائل عراقية عربية وكردية وتركمانية ويزيدية وارمنية.. من دون يسأل الولاة القساة ان كان هؤلاء سنة او شيعة ومن دون تمييز بين عرب الجزيرة الفراتية او عرب الفرات الاوسط او عرب حائل والاحساء!! هذا السياسي العراقي الجديد لم يقرأ عن حدود العراق مع ايران شيئا من المعاهدات.. واين كانت حدود العراق قديما واين اصبحت اليوم (وخصوصا بعد ان منح صدام حسين خط التالوك = منتصف شط العرب لايران ليقضي على قضية سياسية لم تستحق معالجتها نصف شط العرب)، هذا التالوك الذي ناضل زعماء العراق الوطنيين السابقين ضد منحه لايران!!
هذا السياسي العراقي الجديد لا يدرك بأن الكوارث والمجاعات والطواعين التي عاشتها بغداد والموصل وكل مدن العراق لم تميّز بين السنة العرب والشيعة العرب.. ولا بين التركمان العراقيين وبين الاكراد العراقيين على العهود التاريخية السالفة، فأين حكم الطائفة السياسية وانا اتحدى من يقول ان طائفة سياسية معينة قد حكمت العراق!! هذا السياسي العراقي الجديد لم يفقه بأن العراقيين لم يشاركوا الجيش التركي (ان كان من طائفته) في حربه الانكليز على ترابهم العراقي وتركوه يجر اذيال الهزيمة لوحده من الفاو حتى الكوت ومرورا بجبل حمرين ووصولا الى الموصل التي انسحب منها الاتراك بعد هدنة مدروس!!
هذا السياسي العراقي الجديد لم يسمع ابدا بأن عراقيين سّموا اولادهم باسماء انكليز قبل ان يثوروا ضدهم!! هذا السياسي العراقي الجديد وصل جهله الى الحد الذي لا يعرف بأن ثورة العشرين اشترك فيها كل العراقيين باستثناء بعض من كانت له مصالح آنية! انه لا يعرف شيئا الى جانب الرارنجية والجنوب الى جانب تفاصيل ثورة تلعفر وقت ذاك ولم يقرأ شيئا عن الشيخ ضاري المحمود الذي قتل الكولونيل لجمان وهرب حتى القي القبض عليه بعد سنوات في سنجار ليعدم في الموصل عام 1928 كونه قاتلا مجرما ومن قبل محكمة قضاء عراقية لحكومة يتهمونها بالطائفية!
هذا السياسي الجديد لا يعرف شيئا عن ثورة الاكراد ضد الانكليز مطالبين بحقوقهم القومية ولكن كانت صبغة ثورة الحفيد دينية صرفة! وبأي حق تتهمون فيصل الاول ومن حكم العراق بمعيته بالطائفية وقد عملوا جاهدين على بناء دولة لم يكن لها وجود على امتداد قرون؟ وصولا الى الزعيم عبد الكريم قاسم الذي لم يكن خلافه مع السيد محسن الحكيم خلافا طائفيا بقدر ما كان خلاف سياسي!!
وأسأل هذا السياسي الجديد الذي ليس له الا الثرثرة على شاشات الفضائيات: لماذا تقسم العراق الى ثلاثة مكونات؟ واين بقية ابناء الشعب العراقي؟ من اعطاكم الحق ان تتكلموا باسم مكوّن واحد او باسم ثلاث مكونات؟؟
واستطرد متسائلا: لماذا روجّت الاحزاب الدينية في العراق لهذا التقسيم الذي فوجئ به شعب العراق وجعلتم كل مكّون يناصب الاخر العداء.. لقد التقطت الاشارات الاولى للانقسام منذ مؤتمر لندن الذي جمع فصائل من المعارضة العراقية، واعتقد ان هناك من زرع الفتنة بين العراقيين منذ تلك اللحظة التاريخية بترويجه للبيان (….).. فلماذا استمعتم الى من زرع الفتنة وتكلم عن التصنيفات على حساب نسيج مجتمع لم يعرف هذا الوباء الذي اخذتم تعزفونه ليل نهار؟
اين تصنفون بقية الناس من ابناء الشعب العراقي الذي يعيش اليوم حالات اضطهاد لم يعرفها ابدا على امتداد التاريخ! اقول هذا وانا عراقي لا اشتري الطائفية كلها بشقيها بقلامة ظفر، اذ سابقى احتفظ باصدقائي العراقيين مهما كان دينهم ومهما كانت طائفتهم وهما كان جنسهم او لغتهم، بل والعالم كله يعرف بأنهم من شيعة ومسيحيين وارمن ويزيدية واكراد وتركمان.. قبل ان يكونوا من العرب السنّة.. واتمنى ان اجد لي اصدقاء من صابئة مندائيين او معدان جنوبيين.. وسابقى ادافع عن حقوق الجميع، ولكن لن اقبل تشويه التاريخ!

لماذا يتدخّل الطفيليون على تاريخ العراق؟
راقبت صدفة برنامجا عن تاريخ العراق من قناة اسمها ” المستقلة ” لصاحبها الاخ محمد الحامدى الهاشمي، وكان المذيع يستضيف احد الشخصيات السياسية العراقية وهو ضابط عراقي متقاعد.. وفوجئت بحجم التشويه المتعمّد الذي رسمه ذلك ” البرنامج ” لتاريخ العراق وشخصياته وابطاله وتزييف احداثه.. انني احترم ذلك الضيف بالرغم من اختلافي قليلا مع بعض معلومات ووجهات نظره، الا انني وجدته لم يستطع ان يقاوم تلك الشراسة التي تحذلق بها ذلك المذيع الذي اظنه قد جاء من تونس وهو شاب لا يدرك معنى التاريخ وليس له الا الهذيان..
ويبدو انه قد لقّن او ان هناك من اعطاه كتابا مشّوها لاحداث تاريخ العراق المعاصر.. فخرجت الحلقة التلفزيونية خلطة عجيبة من الخطايا والاثام بحق العراقيين دولة ومجتمعا في القرن العشرين.. لقد اراد مقّدم البرنامج ان يثبت للعالم بأن شعب العراق مجموعة دموية متوحشة عبر التاريخ! وكان يوزع الاحكام على زعماء العراق في القرن العشرين، ولم يعط أي فرصة للضيف ان يخرج من المأزق الذي وضعه فيه، اذ ضرب ذلك المذيع الاخماس بالاسداس..
لقد شوّه نص وثيقة مذكرة الملك فيصل الاول التي كتبها قبل وفاته، وكأن فيصل يريد الاساءة للعراقيين.. ربما كانت لفيصل الاول بعض الاخطاء، ولكن لا يمكننا القول انه قد اساء للعراقيين ابدا.. فقد كان يتقّبل كل اساءات العراقيين له وخصوصا من المثقفين والشعراء ولم نجد له له اساءة لأي عراقي بدءا باليهود العراقيين وانتقالا الى الصابئة المندائيين ومرورا بالمسيحيين ووصولا الى العرب والتركمان والاكراد واليزيدية.. ومن يراجع ادبيات العشرينات سيجد كم كانت ثقة العراقيين بفيصل مؤسسا لكيانهم الجديد!
وكنت ولم ازل اقول بأن العراق لو اصبح بيد أي زعيم عراقي في احرج فترة من تأسيسه لرأينا كم سيصيبه الفشل التاريخي.. وربما كنت مخطئا، ولكن الذي يحملني على هذا الاعتقاد ان كاريزما فيصل الاول ومكانته الدولية وقت ذاك لم ينلها أي زعيم عربي معاصر له! فضلا عن ان ذلك الزعيم الهاشمي قد جمع ولاء كل العراقيين، فالعراقيون كما كانوا يفخرون بفيصل حتى ان اختلف احد منهم عنه.. لقد كانوا اكثر عقلانية مما غدوا عليه اليوم. لقد كانوا ينصتون لغيرهم اكثر مما ينصتون لواحدهم الاخر، وكانوا يؤّلف احدهم الاخر بمعزل عن أي فرقة او تعصّب او تشنّج!
التفت المذيع التونسي لكي يزيد من تشويه التاريخ، فاختلق حادثا يقول بأن البصرة ارادت الانفصال عن العراق منذ ذلك الوقت، فلا غرابة ان ينادي السيد عبد العزيز الحكيم بالانفصال اليوم!! انه ضرب الماضي بالحاضر ولما كان الضيف ليس بمؤرخ ولم يعرف التفصيلات الدقيقة لما كان في البصرة من انقسامات سياسية ودور السيد طالب النقيب فيها وهو زعيم رشّح لعرش العراق وليس لعرش امارة اسمها البصرة.. فمن الاجحاف تشويه تاريخ السيد طالب النقيب وتشويه تاريخ البصرة الفيحاء الذي كان جزءا من تاريخ العراق على امتداد العصور..
ربما كانت هناك زعامات محلية او قبلية في العراق هنا او هناك على امتداد التاريخ الحديث، ولكن هذا لا يمنحنا الحق ان نشّوه تاريخ العراقيين!! وهنا أسأل: ما هذا الهذيان العربي في شؤون العراق وتاريخه.. لقد كنت منذ زمن طويل ولم ازل احاجج اصحابه بل واحاربه لأنني اعتقد انه لا يعمل لصالح العراق والعراقيين!! وكم هاجمني عدد من الكتّاب والمفكرين العرب، بل وحوربت ولم ازل احارب من قبل مراكز بحوث ومؤسسات عربية لموقفي هذا الذي لن اتنازل عنه..
لقد عرفت منذ زمن بعيد ان التدخلات السياسية والاعلامية بالشأن العراقي تأتي من دون سابق تخصص ومعرفة وكفاءة .. واذا كانت تدخلات بعض الكتّاب والمفكرين العرب خاطئة في جملتها.. فكيف ستكون تدخلات مذيع متهور لا يعرف الا الصراخ والزعيق بوجه ضيوفه وبوجه المتداخلين معه!
التفت هذا المذيع ليتكلم عن الاكراد العراقيين وهو يحاول ان ينسف العلاقة بين العرب والاكراد العراقيين، بل ليشوه تاريخ الاكراد العراقيين في علاقاتهم مع هذا الطرف او ذاك.. وعبثا ذهبت محاولات الضيف في الدفاع عن الاكراد.. ثم انتقل الحديث عن مشكلة الموصل، وكأن هذه المشكلة قد خلقها العراقيون ولم يعرفوا انها مشكلة اختلقت بعد ان تشكّلت المملكة العراقية عام 1921.. وان الغازي مصطفى كمال اتاتورك قد طالب بولاية الموصل بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1924..
واستمرت المشكلة التاريخية (التي درسها المؤرخ العراقي الراحل الدكتور فاضل حسين في اطروحته القيمة بعنوان ” مشكلة الموصل ” دراسة وثائقية ممتازة من الناحية الدولية).. ولم تبق المشكلة محلية ولا اقليمية بل انها دوّلت وناضل العراقيون في مدينة الموصل خصوصا نضالا مستميتا من اجل عراقيتها وخصوصا الحزب الوطني العراقي بالموصل ولجنة الدفاع الوطني عن الموصل.. حتى اوعزت عصبة الامم بتشكيل لجنة دولية متخصصة وصلت ولاية الموصل وعاينت ميدانيا على الارض عراقية الموصل ورأي السكان واصدرت قرارها بانهاء المشكلة نهائيا بتلك العراقية، ورضخت تركيا للقرار الدولي..
ان ما سمعته من البرنامج التلفزيوني هو تشويه متعمّد للحقائق التاريخية.. وحتى ان افترضنا بأن بريطانيا قد وقفت الى جانب الحقوق العراقية نظرا لثراء ولاية الموصل بالبترول، فلقد كان ذلك من مصلحة العراق العليا.. فليتخيل كل من يبحث عن حقوق العراق خارج اطار الحقائق التاريخية ويسأل نفسه: ماذا سيكون مصير ولاية الموصل كلها اليوم لو غدت ولاية من ولايات الجمهورية التركية؟ الا يذكّرنا هذا بلواء الاسكندرون الذي ذهب الى السلة التركية ولم يعد ابدا؟ ماذا سيكون وضع الموصل بسكانها العراقيين العرب والاكراد والتركمان وكل اطيافها الدينية؟
الم يتعظ العراقيون اليوم من مشكلة الموصل لما يجري على ارض الواقع.. انني اتمنى ان يتمتع كل العراقيين بحقوقهم التاريخية والجغرافية، ولكن في اطار الوحدة الوطنية، ولا اريد ان يفّسر كلامي بعيدا عن امنياتي التي تريد لا يتضرر أي شبر من ارض العراق.
واقول لهذا الذي جعل من نفسه مؤرخا للعراق وهو مذيع عربي لا يعرف الف باء تاريخ المنطقة: ماذا تعرف عن علاقات الموصل بالاقاليم؟ ماذا تعرف عن علاقة الموصل الازلية ببغداد من خلال شريان نهر دجلة؟ ماذا تعرف عن دور المركز بغداد في رصد احداث العراق من البصرة الى الموصل؟ اهجعوا قليلا ولا تجعلوا تاريخ العراق ومسائل العراق ابوابا تشوهون موضوعاته لكسب مادي او اعلامي رخيص..

واخيرا: المسلسل سيبقى مستمرا!
ان هذه ليست المرة الاولى التي تقدم عليها قناة (المستقلة) التي تذيع فضائيتها من لندن، بل كانت منذ زمن بعيد قد وقعت اكثر من مرة بهكذا خطايا التي لا يقبلها المتخصصون ابدا، وكنت قد ناشدت صاحب القناة الاخ محمد الحامدي الهاشمي في تصويب اخطاء عن العراق اذيعت من فضائيته، ولكن لا جواب لمن تنادي.. وانني اعتقد بأن القنوات الفضائية العربية سوف لن تتوقف عن المشاركة في تشويه تاريخ العراق وتزوير احداثه والوقوع بجملة اخطاء لا تغتفر.. وهذا هو قدر العراق والعراقيين مع الاعلام العربي السريع بكل فجائعه.. ودعوني اقول بأن معالجة وجهات النظر السياسية والايديولوجية شيئ وتوظيف معلومات التاريخ والجغرافية شيئ آخر.. فالفرق كبير بين الحقائق وبين الاراء.. وان تاريخ العراق ثقيل جدا لا يمكن ان يجازف كل من هب ودب لابداء وجهات نظر فيه بعيدا عن المنهج والمعلومة والوثيقة.. فهل انتم منتهون؟ انني اشك في ذلك.

www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …