ما إن عدت الى الوطن حتى انتابني حنين الى بغداد الحبيبة أتلمس جدرانها. واحتضن طفولة فقدتها هناك وأياماً ضاعت لا يمكن إعادتها. لم أجد بغداد كما هي في خاطري صبية جميلة إليها أشتاق ولعطرها أهفو وبين حاراتها أجد نفسي. لقد كانت حزينة بائسة.
كنت غريباً عنها لم تعرفني ولم تسأل عن حالي. أقف أمامها تتجاهلني . لكني أعذرها فما حل بها من الحزن والهم يكفي العالم أجمع. رغبت الذهاب الى أماكن أثيرة على نفسي. فاتفقت مع صديق لي على الذهاب الى شارع الرشيد سيراً على الأقدام. كان موعدنا في ساحة الشهداء التي بدت أصغر مما اتصور وكانت مهملة وقذرة أيضاً. جلست انتظر في مقهى صغير أشرب الشاي باستكان يذكرني بجلساتنا في مساءات بغداد عندما كانت جميلة ولتكتمل الصورة الماضوية قدم لي النادل الماء ب(طاسة) معدنية، نظرت الى جدار المقهى الخارجي فوجدت بعض الرصاصات وقد استقرت في أحشائه لتفضح الفوضى التي يعيشها العراق، كان المقهى يطل على هذه الساحة التي ما كانت لتهدأ حتى الصباح.
واليوم تبدو مثل بيت مهجور. عدد قليل من الأفراد يمرون بتثاقل من تحت تمثال عنان خير الله وزير الدفاع في النظام السابق الذي مازال منتصباً وسط الساحة في ظاهرة لافتة للنظر. فلم يسقط المتظاهرون التمثال رغم انفعالهم . ذلك أن الجموع تميز أفضل من بعض الساسة أحياناً. فهذا الرجل لم يؤذ أحداً في حياته. وهو نفسه ضحية النظام حين قتل بمروحية أطاحت به بعيد الحرب مع إيران.
وأنا أعبر جسر الشهداء مع صديقي نحو شارع الرشيد. نظرت الى دجلة ولم اتذكر حينها قصيدة الجواهري (يادجلة الخير) فكل شيء كان مختلفاً في الواقع مثلما لم اتذكر انتفاضة الجسر عام 1948. ما الذي جرى لذاكرتنا لقد فقدت قدرتها على الاستذكار والربط بين الوقائع والمكان، كنت أسير في شارع الرشيد غير مصدق مما آل إليه هذا الشارع الذي كان يوماً ينبض بالحياة حتى وقت متأخر من الليل. كان صامتاً لا حراك فيه. اختفى منه ذاك الضجيج الحلو، أبواق السيارات وأصوات الباعة ونداءات العابرين.
جثمت تلك الكتل الكونكريتية على صدره فقطعت أوصاله. ولم يعد تدفق السيارات منساباً كما كان. وقفت أتأمل الشاعر الرصافي يقف على منصته العالية يضع إحدى يديه في جيب زبونه، وسترته التي خلت من الأزرار، وأتذكر كيف علق رسام كاريكاتير حين أزيح الستار عنه، برسم التمثال وكتب تحته “دكم سترتك زين لا بعد أشتم ” الذي لا أدري لماذا لم يسرقوه كما فعلوا بغيره وجدته يطل على بغداد التي أحبها وعاش فيها.
لكنه طلي بلون ذهبي فاقع في إشارة الى خراب الذوق بعد خراب البلاد. ترى هل يدرك الرصافي ما يجري لبغداد اليوم . فما جرى في العراق يحرك الصخر! حين عبرت الجسر . كان أمامي إما الانحراف يساراً والذهاب الى شارع
المتنبي حيث يتعاطى الناس هناك مزادات للكتب. أو الانحراف يميناً باتجاه جسر الأحرار . فكان أن ذهبت الى اليمين.
رأيت هناك تمثالاً لعبد الكريم قاسم الذي قتل وهو نزيه لا يمتلك شيئاً. يقف في الساحة التي حاولوا اغتياله فيها. لقد أزالت الجماهير تمثال أحد القائمين بالمحاولة من رفاق صدام ووضعوا تمثال الزعيم بدلاً عنه وهو ما يجب أن يكون. وهناك وجدت المقهى البرازيلية التي كانت ملتقى للمثقفين وقد بنيت واجهتها بجدار ناتئ فمات بذلك شريان نابض من بغداد، فالمقهى عند أهل العراق تعني الكثير. أما سينما الشعب وروكسي التي طالما شهد المقهى القريب منهما خطب أبو حقي الشهيرة مساء بعد خروج الناس من السينمات فقد تحولتا الى مخازن للملابس. وكانت معظم المحال مغلقاً.
شارع الرشيد شارع بلا حياة. هذا الشارع الذي شهد أهم أحداث العراق. كان الطريق بين الجسرين في السبعينات يزهو بالنساء العراقيات الجميلات الممتلئات عافية والرجال الأنيقين الحالمين والأضواء التي تتلألأ في الشارع. أما اليوم فقد فقد الرجال أناقتهم في ظل الحروب والكوارث والنساء الجميلات فقدن نضارتهن يقبعن في البيوت ويخشين الخروج في شوارع تسلط عليها الجهلة والقتلة والسراق، ولا أضواء تنير دروب العابرين فالكهرباء تزور البيوت على استحياء مرة أو مرتين في اليوم دون أن تمكث طويلاً، لقد قالوا له سنعيد العراق الى ما قبل عصر التصنيع. فسخر من طائراتهم التي قال أن الفلاحين سيسقطونها بقبضة تراب كما ادعى. وها نحن نرى موتنا في حياتنا.
كدت أصل الى جسر السنك الذي يفضي الى شارع أبي نواس حيث السهر الذي كان يستمر حتى الصباح غير أني شعرت بحزن كبير يلفني لقد أفقدتني تلك المشاهد الرغبة في الاستمرار وقفلت راجعاً الى بيتي، وأنا أتحسر على بلدي الذي يحتضر. في سيارة الأجرة كان السائق الشاب يحدثني عن المال الكثير الذي يتدفق بيد الناس، وعن الأمان المفقود فما قيمة المال حين يفقد معه الإنسان الأمان وهو ما يتحسر عليه كل عراقي.
لقد انتقل العراق من إرهاب الدولة ضد الناس الى خوف الناس من بعضهم، فلا أحد يحميك هناك. فقد انشغل أهل السياسة للحصول على أكبر رصيد من السلطة التي طالما طاردتهم وحلموا بها لينشروا العدل، وهم اليوم يحاولون الإمساك بها لا ليحقوا الحق كما كان الناس يأملون.
ولكن لتحقيق مآربهم الخاصة وتصفية حساباتهم مع خصومهم السابقين الذين فر معظمهم الى بلدان أخرى. ليعيدوا الدورة من جديد فيتحولون الى معارضين يعدون الناس بتحقيق ما لم يحققوه في ثلاثين سنة انسلخت مت أعمارنا.
يبقى التجاذب بين هذه الأطراف والخاسر الوحيد هو العراقي الذي يخشى اليوم أن يقطع وطنه مثلما قطعوا شارع الرشيد . والله إن الواحد منا يتمنى الموت على أن يرى العراق وهو يتشظى أمام عينيه وبيد أبنائه. ولكن من أوصلنا الى ما نحن عليه ؟ ذلك هو السؤال.
المغترب العربي ، 2 يونيو 2006
شاهد أيضاً
مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !
قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …