عندما بدأت اكتب مقالتي هذه في ليلة 29 مايو 2006 عن قدر الشاعر كمال سبتي ورحيله ، هاتفني احد الاصدقاء من المانيا ليعلمني بخبر مؤسف آخر مفاده رحيل الصديق الفنان المخرج المسرحي عوني كرومي ، فبكيته وتألمت عليه هو الاخر وقد مات وهو يتحسر على تراب العراق .. وسافرد له كلمة خاصة به ، فاقول :
تمر للاسف الشديد في اخر ليلة من مايو/ أيار 2006 ذكرى اربعينية الشاعر العراقي الراحل كمال سبتي الذي رحل كالطير على عجل وهو في قمة شبابه وعطائه .. ولا يمكن ان تمر هذه الذكرى من دون ان نتذكر هذا الشاعر المثقف الذي كانت لي معه بعض مراسلات على الانترنيت ومنذ سنوات مضت ، خصوصا ايام كان يعاني من ازمة خصومة شعرية بينه وبين احد الشعراء والنقاد العراقيين والاخير ايضا من اصدقائي .. ولكنني لم اتدّخل في الموضوع ، واذكر ان الاخ كمال كان يكتب لي ايام كنت انشر مزامناتي في جريدة الزمان اللندنية قبل سقوط النظام السابق ويمتاز بهدوئه وسعة معرفته اللغوية واحساسه المرهف وخياله الخصب ..
وكم وجدت في الاخ كمال سبتي يعاني من الام نفسية مفرطة ، فلقد كان مهموما ومثقل التفكير جدا في مكابداته الصعبة .. ولقد فوجئت قبل اربعين يوما برحيله المبكر ، فأسفت عليه اسفا شديدا .. وضربت يدا بيد اذ كنت احلم قبل ثلاث سنوات ان يموت شعراء العراق ومثقفيه الحقيقيين في وطنهم ويدفنوا في ترابهم ، ولكن هذا كله لم يحدث .. اذ ستتوزع قبور العراقيين في كل هذا العالم !! رحت في تفكير بكائي عميق ، ولكنني عدت استذكر ليس حياته وهمومه حسب ، بل حتى بعض قصائده التي تتشح بالالم وتسرع بصاحبها نحو الموت .. تمر اليوم ذكرى اربعينيته وكنت اتأمّل ان يكون هناك اكثر من حفل تأبيني في العراق وخارجه وخصوصا من قبل وزارة الثقافة العراقية تعبيرا عن وفاء الجميع للكلمة المبدعة والمعبرة عن هموم العراق والعراقيين على مدى السنوات الصعبة المرعبة التي مضت ولم تزل آثارها تنتج الجحيم بعد الجحيم !!
دعوني اتوقّف قليلا عند كتابه السابع ” بريدٌ عاجلٌ للموتى ” الذي ولد بعد ست مجموعات صدرت في سنوات مختلفة .. كم انا افكر في كلمات كمال سبتي الاخيرة وكأنه يسجل رثاءه على مهل شديد .. بل وكأنه يوثّق ذكرياته الخصبة وهو يعيش وحيدا لا يمارس الا لغة المشاعر المخصبة والتفكير الحاد واستعادة ذكريات العراق .. وهو يسجل شعره بين النثري والموزون بلغة عالية المستوى .
لم يفت كمال سبتي أن يوضح في المقدمة طبيعة كتابه الجديد فيقول:
” هذا كتابٌ لم أتعوَّدهُ في التأليف..فهو توثيقيٌّ يعتمدُ السردَ والشعرَ معاً..
وقد بدأتُ كتابته بعد إنتهائي من كتابة قصيدتي الطويلة: /آخِرُ المدن المقدّسة” .
فهو وثيقة إذن ، بل وانه ـ كما يقول ـ إبنُ مرحلةِ ما بعد الهروبِ من وطن اسمه العراق ، تماماً كما يضمنه : آخِرُ المدن المقدسة/ التي ـ يقول ـ : ” بدأتُ كتابتَها في صيف عام 1989.. وكان ينبغي له أن يرى النور قبلَ هذا الوقت. لكنه – كما هو شأنُ نتاجي في الأدبِ عادةً – قد تأخّرَ إلى الآن فأضيفتْ له كتاباتٌ نثرية وشعرية موزونة بعد طولِ إنقطاعٍ عن الكتابة الموزونة، فدعمَتْ فكرته الأولى كثيراً.. ” !
يستطرد الصديق الراحل ويقول وهو يسجل ما فاتنا عن ذاته التي لم تعشق في الحياة غير الشعر ، نسمعه يرددّ بنفسه :
” أنا شاعرٌ، أقول عن نفسي. وهربتُ من البلادِ لأنني شاعر.وأفتخرُ أمامَ نفسي بأنني ما سعيتُ في شيءٍ إلاّ وكانَ من أجلِ الشعر. والشعرُ هنا تربية وعاداتٌ وسلوكٌ وأفكارٌ وقراءاتٌ وتاريخٌ ونظرٌ وكلامٌ..إلخ. فحملتُهُ بهذا كلّهِ أقيسُ العالمَ به.. وما كان يُقاس. وهذا كلّه خرابٌ لي قبلَ أن يكونَ خراباً للآخرين. فقد أبعدني عن أنْ أكونَ كمنْ يتمتعُ عادةً بسعادةِ الغباء في الحياة، وجعلني أتعذبُ في كلّ مشهدٍ كانَ ممتعاً لغبيّ. وقد كوَّنَ في نفسي موقفاً عاماً نما كلَّ مرةٍ خلالَ هذا العمر، فهو حساسيّة لي أواجهُ العالمَ بها فلا أقوى عليه فأقوى على نفسي فأزيدُها خراباً على خراب. وماسعيتُ لأتحرّرَ منه بلْ كنتُ أخلصُ له كلَّ مرةٍ وأنقادُ له في إخلاصي حتى كأنَّ نفسي لا تَتَحققُ في هذا الوجودِ إلاّ في انقيادي له. وقد أتوقفُ لحظةً لأتأمّلَ مشهدَ ضعفي أمامه، لكنني لا أقوى في مابعدُ إلاّ على المضيِّ إليه، والمضيِّ فيه، والمضيِّ به. وفي ظني إنَّ هروبي من البلادِ لا يُفَسَّرُ إلاّ بهذا. فحملتُ البلادَ بحروبها وموتاها، من مكانٍ إلى آخرَ، ظاناً إنني أحاولُ فهماً لها، ولم أكنْ في حقيقةِ الأمرِ، غيرَ هاربٍ يتعذبُ بها ” .
لا اريد ان اعلق على هكذا مشاعر وكأن صاحبها يدرك انه على موعد مع الرحيل عن الحياة فلا يسجل صفحة وداع ، بل سجل صورة مختزلة عن مكابداته المؤلمة وهو يعّبر من خلالها عن مشاعر كل اولئك الذين يتعذبون في دواخلهم .. انه لا يعشق غير الشعر .. انه لا يعشق الا العراق .. انه يصوّر لنا عالم الشعر الرحب .. انه يتألم من الاغبياء .. انه يصارع ذاته كونه لم يستطع اصلاح الحياة كما يريدها .. انه هنا يعلن للملأ ان المثقف العراقي الحقيقي قد عجز عن اصلاح العراق والعراقيين ، فيزيد نفسه خرابا على خراب بعد ان حمل العراق بكل حروبه واحداثه في اعماقه .. انه يعلن بأنه ضعيف .. انه يعلن بأن المثقف العراقي انسان ضعيف ومحارب في وجوده بأي مكان ولكنه عملاق في معانيه وخصب كل منتجه وتعبيره .. انه الهارب من جحيم العراق وقد حمل كل عذاباته ليمتد بها في كل هذا العالم الموحش .. ولما نام كمال سبتي قبل اربعين يوما وطلعت الشمس راح راحلا مع كل مطوياته المؤلمة ، وكما عاش وحيدا مات وحيدا ولم تؤبنه الى مثواه الاخير الا العصافير ثم عادت الى اعشاشها ، وهطلت الامطار لتنمو فوق قبره اعشاب وزهور .. فهل سيذكره العراق الذي لم يزل قاحلا من الحياة ولا يعرف الا الموت ؟
د. سّيار الجميل
مفكّر عراقي
الصباح البغدادية 1 حزيران / يونيو 2006
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …