هذه التوطئة التأريخية الصادقة لمكنون تسمية (العراق) التي أوردها الدكتور سيار الجميل و المنشورة على صفحات موقع (أيلاف) في 29/1/ 2006 تحت عنوان (العراق: المعنى والأصل والصورة) انما تعكس حقيقة لا غبار عليها، عن وحدة تراب هذه البلاد، منذ أقدم العصور. تلك الوحدة التي بتماسكها، أجبرت حتى أولئك الغزاة الذين جثموا على صدر العراق قرونا من الدهر- من منغوليين أو ساسانيين، أو عثمانيين- على الاقرار بهذه الوحدة، ولم يجرؤوا على ضم أو استقطاع جزء منها..! وحتى في العصور الموغلة في القدم، أيام السومريين، و البابليين، والاشوريين أو الكلدانيين، و رغم الحروب الطاحنة بين هذه الشعوب، كانت (وحدة) التراب العراقي في (الجغرافية) هي الجامعة المانعة، لسكانه – بأثنياتهم المختلفة – من التشضي أو التمزق في كونتونات منعزلة ، أو متباعدة ، كما كانت عليه أوروبا على سبيل المثال فى القرون الوسطى.. وحتى الاقوام التي استوطنته بعد الاسلام، فقد أندمجت مع السكان الموجودين، و أبتنت حواضرها في البصرة والكوفة وبغداد وواسط ولم تجتزئ من كله شيئا ولم تزرع على تخومه مملكة، (فالحيرة ) و مملكتها مثلها مثل (تدمر) و أمارتها، هذي في العراق وتلك في الشام..! أنقرضتا وظل العراق باق مع الاجيال..! وزال (كسرى) وهاهي (مدائن) العراق شامخة كالطود..!!
كل شيء في هذه البقعة من الارض – بحدودها الجغرافية، القديمة أو الحالية- كان متشابكا متماسكا ولا زال في كل واحد..! حتى في الطموحات القومية لسكانه من عرب أو كرد أو قوميات أخرى، فأنها جميعا كانت تدور ضمن فلك (العراق)، ولا اي منها، لا في المنظور القديم أو الحالي، من فكر مجرد التفكير، بأن يستقطع جزءّ من ارض العراق لينشئ عليها “وطنا” خاصاّ به، حتى تلك ألاثنيات الكبيرة، كالعرب والكرد، فأنها دوما شعرت بوجودها القومي من خلال وحدة العراق الجغرافية؛ فما يمس هذه الوحدة من سوء أو تعد في الجنوب – ذي الأغلبية العربية- يجد صداه في الشمال – ذي الأغلبية الكردية- ، و الأمثلة على كثرتها تغني عن البيان..! فالحملات العدوانية و الغزو الأجنبي، الذي تعرض له (العراق) و على مدى العصور، جوبه دائما بالرد والمقاومة من قبل كافة أبناء هذا البلد على السواء؛ وكان (العراق) دائماً (أقليما واحدا) من ثغر البحر حتى ذرى الجبال..! وكان القوم كتلة واحدة و جسما واحداً و إرادة واحدة، في الدفاع عن حياضه..! وهذه (ثورة العشرين- 1920) اقرب شاهد على ما نقول..!
إرثه هو أرث الجميع، وثرواته هي ثروة الجميع، وهمه هو هم الجميع..! لا يعرف حدود بين ضياعه ولا أسورة بين مدنه أو ضواحيه..! أرضه واسعة لجميع قاطنيه..! لا تعرف تعريفة للدخول ولا سمة للخروج..! “الكردي” القاطن في جنوبه هو كمثل “العربي” العائش بين أحضان وديانه في الشمال..!، يشعران بالأمان و الأطمئنان..! إن جفت الاهوار، سار أبن الهور بقطعان جاموسه بحثا عن المرعى في الوسط و بين سهول شهرزور في الشمال، وأن أجدبت مع بدو الجنوب، قصدوا بجمالهم بادية الشمال..! وأن أعسرت مع الفلاح، يمم وجهه شطر المدن طلبا للعيش..! العاملون في المعامل والمؤسسات من شماله حتى جنوبه، نسيج من كل الأثنيات والطوائف..!
ما عرفت أقوام العراق وعلى مد العصور، التطاحن والتحارب فيما بينها من أجل تمزيق الوطن الى دويلات أو مستوطنات..! وأغلب الصراعات التي عرفت في البلاد كانت في مجملها صراعات بين الحكام وتلك الأقوام..! فالمذابح التي تعرض لها الكرد وعل مدى قرن من الزمان ، والحملات الهمجية وقصف الطائرات التي دمرت قرى وارياف مدينة الناصرية وسوق الشيوخ في ثلاثينيات القرن الماضي، و حملات الأبادة التي طالت جماهير الأرمن، والأضطهاد الذي عاش في ظله الكلدوآشوريين، والتركمان و غيرهم من القوميات ألاخرى والطوائف الدينية ؛ جميعها كانت تدور بين الدولة بآلتها العسكرية المدمرة و بين أبناء الوطن الواحد، ولم يكن محركها أحتراب من أجل التنازع على أرض أو حدود، كذلك هي النزاعات التي كانت تجري ما بين المكونات الأثنية أو الطائفية أحيانا فهي الاخرى بعيدة كل البعد عن ما يمس وحدة أراضي الوطن و سلامة حدوده..! وأغلبها كان يجري بتحريض أو دسيسة من سلطة الدولة أو من لهم مآرب في تمزيق نسيجه الأجتماعي ..!؟
و حدة التراب العراقي قد حرسها العراقيون أنفسهم، وأمتزجت دماؤهم في حومة الدفاع عنها، سيان كان الغازي شرقيا أو غربيا..! تأريخهم مفعم بقصص البطولة والفداء، من أجل وحدة هذا الوطن، الذي استعصى تمزيقه ولا يزال على كل من حاول استهدافه من غادين أو قادمين..! ومن سمات وحدته ككيان قائم ، هو وحدته الاقتصادية،التي هي اساس وحدته الجغرافية، رغم أن هذه الوحدة لم تتجلى أو تبنى على قاعدة صناعية قوية، وانما ظلت مقومات نموها وتطورها رهن إشكالية العدوان والمطامع الاجنبية منذ القدم و حتى غزو (هولاكو) ومن بعده (العثماني) واخيرا (الانكليز و العم سام) ..! فالنسيج الاجتماعي- الذي أتخذ من ضفاف النهرين العظيمين ( دجلة و الفرات) ومنذ اقدم العصور التي عرفت، تواجدا سكانيا-، مستقرا لوجوده و موطنا لأستقراره، مما شد لحمته وقوى وشائج القربى بين مكوناته، فأرتبطت المصالح الاقتصادية لكل قاطنيه بوجود هذين النهرين العظيمين..! و أقيمت المراكز الاجتماأقتصادية على طول ضفافهما من الموصل في الشمال حتى البصرة في الجنوب، وكانا واسطة الربط الرئيسة بين مختلف مدنه واريافه، تمخر عبابهما السفن الشراعية المحملة بالبضائع من البصرة حتى بغداد، وتنقل عكسا ثروات الشمال الزراعية ؛ من فستق وجوز ولوز وبقل وتين مجفف وبرغل والقائمة تطول ..!! لقد شكل (دجلة والفرات ) رمز العراق على مر العصور.. وكان في امنهما وسلامة وجودهما أمن العراقيين جميعاً..!
لقد جبت (العراق) طولا وعرضا و عاشرت مواطنيه في الريف والمدينة ، في السهل والجبل، وأستطعمت مأكولاته في الاهوار وفي أعالي الجبال.. “عاسنت”(*) أهله من كل الاثنيات والاديان من مختلف المذاهب والنحل، وتعرفت على عاداتهم حيث حلّوا أورحلوا.. عاشرت البدو في الصحراء، وألفت العيش بين ظهرانيّ الأكراد، والتركمان.. والكلدان الاشوريين.. والارمن واليزيديين..أما العرب فقد ولدت من أم و أب عربيان، وعشت في مدينة، فسيفسائها من كل الاجناس والاديان..! في الجبل كما في أعماق الهور.. وفي الصحراء كما بين (دجلة والفرات).. ربع قرن ونيف من التجوال في ربوع العراق، لم التق يوما ذلك الذي دار في خلده ، حتى ولو صدفة، أن يحلم بوجود حدود بين المدن أو جوازات للعبور، أو أن يحمل بطاقات تحدد مكان أقامته أو مثواه ..! لقد ولد حرا، وأختار مكان مدفنه حيثما شاء، فهو حر في تنقله وأقامته، حر في عمله..والارض مهما وسعت.. فقلبه دوما ينبض : (( عراق يا عراق…! ))*، ولسان حاله دوما ينشد..
بلادي وأن جارت عليّ عزيزة وأهلي وأن شحوا عليّ كرام**
إن من يسعى الى تبديل خارطة العراق، أيها الأستاذ الكريم، وتحت أية تسمية كانت، أنما هو كالحارث في الماء.. فالعراق ملك نفسه، و جماجم العراقيين مزروعة في كل حفنة تراب من أرضه، وأشجار السرو والجوز وغابات الجلو، وألاثل وغابات النخيل، وقصبه وبرديه جميعا، قد سقيت ، عبر التأريخ ، من دماء أبنائه..! واحد موحد بابنائه، عزيز بأسمه، فخور بأمجاده..!
العراق : دجلة والفرات.. و لا أظنن ان هناك من تطاوعه نفسه مس وحدة العراق، فحاله حال من يريد أن يقسم ( النهرين- البحرين- ) اللذين وحدّهما ( شط العرب-البحر العظيم- ) رمز وحدة كيان العراق ..!! أو حال من يعتقد ان يفلتر الماء حسب تذوق شاربيه..!! لا يساورني الا الشك ولا يطمأنني ألا اليقين.. فالعراق باق بقاء بحاره..باق بقاء الدهر…! فإن حل ما لايتمناه المرء_لاسامح الله_، فصانعه كالراسم فوق الرمال…!!
ولقد صدق ابراهيم ناجي حين قال :
كم بغت دولة عليّ وجارت ثم زالت وتلك عقبى التعدي
· الشاعرالعراقي: بدر شاكر السياب
· الشاعر العراقي: معروف الرصافي
(*) عاسنت : كلمة متداولة في ريف العراق الجنوبي وعند البدو، وهي تعني المعايشة القريبة
نشرت في : الكاتب العراقي ( الافق المفتوح ) ، ديترويت ، مشيغان ، 17 ابريل 2006
شاهد أيضاً
مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !
قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …