المشروع الفكري الذي طرحه الأستاذ الجامعي الكاتب المرموق الدكتور سيار الجميل يستحق جل الأهتمام والمعالجة الموضوعية العلمية التي تتناسب وهذه المهمة الجسيمة وهذا الامر الذي سيخلق , لو تحقق , شريانآ جديدآ يحمل دمآ نقيآ لأجسام الأمم والشعوب التي أُبتليت بكل مانبذه العالم المتحضر منذ عقود من سلبيات الحياة وإجترار التفاهات , وظلت مبتلاة بذلك حتى بعد أن غادر ركب العالَم واقع القرن العشرين وبعض جوانبه المظلمة نحو واقع جديد تلوح فيه تباشير إكتشافاته العلمية وقفزاته الحضارية واضعآ السُبل لمن يريد السير في هذا الطريق الإنساني الرحب ويساهم في هذه المسيرة العالمية العلمية التي لا مناص لكل شعب من الإنضمام إليها والسسير معها , فالزمن لا ينتظر من تخلفوا عنه ولا يلتفت إلى الوراء إذ أنه في حركة دائمة إلى الأمام يتم تحوله فيها من حال إلى حال خلال أجزاء الثانية الواحدة لتنطلق منه حياة جديدة لكل من آمن بالتغير كتعبير لإستمرار الحياة , فلا وقوف ولا تفََرُج , بل التحرك مع المسيرة العالمية والمساهمة بها.
الفكر الليبرالي التحرري المؤمن بالآخر وبالعمل مع هذا الآخر والحياة معه يستطيع أن يستوعب مثل هذه التطلعات الإنسانية المضمون والسامية الأهداف . فلقد أثبت هذا الفكر الإنساني أمام مختلف المحافل التي وضعته على محك الإختبار بأنه ليس كما روجت له القوى المعادية التي ألصقت به مختلف الأكاذيب ووضعت أمامه شتى العراقيل مُعللة ذلك بحجج واهية قومية المنشأ أو دينية المحتوى أو عنصرية التوجه . فلم تصمد أمامه هرطقات المشعوذين الذين تسلطوا على رقاب الناس في مناطق مختلفة من العالم إلا انهم , بالرغم من إختلاف أجناسهم وأوطانهم , توحدوا وتجانسوا بالوسائل القمعية والإجراءات التعسفية التي نالتها شعوبهم وكأنهم , وإن لم يلتقوا , قد إجتمعوا وتدارسوا وتوصلوا إلى أسلوب تنفيذ الجريمة التي لم يبخل كل منهم على تطويرها حسب حاجته إلى ذلك وحسب ما تمليه عليه الجهة التي يعمل لها أو بإسمها.
فالفكر الليبرالي إذن هو الفكر الذي لا يُشَرِع أن يَسخَر قوم من قوم ولا يُقَنن تعطيل نصف المجتمع فيجعل من نساءه ناقصات عقل ودين وكأن ألله سبحانه وتعالى لم يتدبر أمر خلقه ولم يجعل الإنسان , ولم يقل الرجل , على أحسن تكوين وبالرغم من ذلك ينتقص مُشرعوا التحجر من هذا التكوين . اللفكر الليبرالي بما يؤمن به من إرتباطه بالعلم والمعرفة والسعي لهما والعمل بهما سيكون مؤهلآ لتقديم الاجوبة على كثير من الأسئلة التي وضعتها الملاين بين شفاهها ولا تستطيع النطق بها لانها تخشى البطش والتهميش والتكفير من بعض الذين يدعون بانهم علماء الامة وهم لا يعلمون من العالم ومسيرته المعرفية إلا ما سمحت لهم به عقولهم المشبعة باساطير العصور ما قبل الوسطى , حتى أن بعضهم لم يسعفه ” علمه ” ان يفرق بين الفكر والكفر فجعلوهما سواء لتشابُه حروفهما.
لقد رافق التخلف أممآ وشعوبآ كثيرة في هذا الكون . إلا أن بعضآ منها إستطاع اللتخلص من ذلك حينما ألتصق بالركب الحضاري العالمي مستوعبآ ما يريد إستيعابه ومستفيدآ مما يريد الإستفادة منه في هذا الخضم الواسع من التغيرات الكونية التي لا يمكن إستنساخها وتقديمها كوصفة جاهزة , بل يجب العمل على فهمها وتطويرها للأخذ بما يمكن الأخذ به . أما الذي يتخذ الرفض والإستعلاء والكبرياء الفارغة ويجتر ما رددوه على أسماعه دون أن يعي مضمونه فيُصبِح ويُمسي وهو أسير افكار تصدأت وأزمان إنقضت , ينظر إلى كل ما يأتي به العالَم من جديد ليفتح فمه ويتعجب من كل ذلك فيمتلئ جوفه بهواء التعجب هذا بدلآ من الرغيف الذي يوعد به ولا يراه .
ميثاق الفكر الليبرالي الذي طرحه الاستاذ الفاضل سيار الجميل فكرة يُشكر عليها هذا العالِم الجليل وينبغي حث الخطى على وضعها موضع التنفيذ الآني , فسباقنا مع الزمن وإستكلاب قوى الرجعية والظلام علينا لا يسمحان لنا بالإنتظار , وحبذا لو يٌصار إلى دعوة لإجتماع الليبرالين ليقفوا فعلآ لا قولآ فقط أمام التحدي الذي يعيشونه يوميآ مع الملاين المغلوبة على أمرها. ولا أرى بأسآ إذا ما تلاقحت الأفكار حول هذا الأمر لإيصال هذا الفكر الإنساني النبيل إلى من يحتاج إليه كهاد ومرشد إلى الطريق الحضاري العلمي . إنطلاقآ من هذا الشعور أرغب أن أضيف ملاحظتين أُخريين إلى ما طرحه الأستاذ الكريم صاحب هذا المشروع العظيم . الملاحظة الأولى تتعلق بفلسفة الفكر الليبرالي نفسه والثانية بالصياغة التنظيمية التي طرحها الأستاذ الفاضل .
ففيما يتعلق بالفكر الليبرالي وفلسفته الإنسانية الحضارية , أجد من الضروري التنبيه منذ البداية إلى بعض التجارب الليبرالية العملية التي ربطت هذه الفلسفة بأهداف غير أهدافها . لقد صاغت بعض التجارب الليبرالية في العالَم المتقدم حضاريآ اليوم مفهوم الليبرالية في المجالات السياسية والأقتصادية والأجتماعية والعلمية وكأنه خالٍ من أية إلتزامات إنسانية وخُلقية . ففي المجال الأقتصادي مثلآ طرحت بعض الأحزاب الليبرالية في الدول الصناعية المتقدمة هذه الفلسفة وكأنها لا تتناقض وسيطرة رأس المال وتحكمه المطلق بالعملية الإنتاجية وأعتبرت إجراءاته التي كثيرآ ما تعاني منها اليد العاملة وشغيلة الدولة وكأنها ملازمة لمسيرة التطور الإقتصادي وتقدُم وتائر الأنتاج . لذلك نرى وقوف بعض هذه الاحزاب والحركات الليبرالية في هذه المجتمعات إلى جانب الكتل الرأسمالية والتجمعات الصناعية الكبرى لتحصل على دعمها إقتصاديآ بعد أن تجعل هذه الاحزاب من نفسها بوقآ سياسيآ لجشع رأس المال وتصرفاته اللاإنسانية . وتمامآ على النقيض من ذلك نرى بعض الحركات والتجمعات التي تدعي الليبرالية وقد تطرفت في عدائها لوتائر الانتاج الراسمالية حتى أباحت تخريب وتدمير البُنى الإنتاجية الإجتماعية منطلقة في مفهومها هذا لليبرالية وكأنها فلسفة هدم وتخريب وتحلل . ربما سيضع أعداء الفكر الليبرالي هذه الظواهر , التي لا يمكن تجاهلها , كمعوقات أمام نشر الفكر الليبرالي والمحاولات التي تجري لكسب العامة له دون أن يظل مقتصرآ على النُخبة . وعلى هذا الاساس فإن دراسة الفكر الليبرالي من هذه الزاوية الموضوعية ستشكل قاعدة صلبة للإنطلاق بهذا الفكر الإنساني نحو الأجواء التي ستحتضنه وتتبناه . من الطبيعي يمكن إعداد الدراسات المستفيضة حول هذا الموضوع إذا ما تم فعلآ الإتفاق على وضع البُنى الأساسية لهذا المشروع .
أما الملاحظة الثانية فإنها تتعلق بالصياغة التي يُراد لها أن تكون المُعبرة عن الفكر الليبرالي , حيث أطلق عليها الأستاذ الكريم الجميل تسمية “الليبراليون العرب ” . إنني لا أرى ضرورة للتركيز على قومية دون أخرى لتبني الفكر الليبرالي الإنساني الأبعاد الأممي المحتوى . فإذا أخذنا العراق مثالآ لما نريد تحقيقه في هذا الإتجاه وشراكتنا في الوطن الواحد مع قوميات أخرى غير العربية لها ما للعرب وعليها ما عليهم , فإننا والحالة هذه لا نستطيع ان نجعل من الحركة الليبرالية بالعراق حركة خاصة بالعرب فقط . إنها يجب ان تكون حركة ليبرالية عراقية بالضرورة , وإلا فسنغالط انفسنا ونتنكر لكل طروحاتنا التي نتبناها حول التعددية والشراكة بالوطن الواحد وما يترتب على كل هذه المبادئ حينما يتعلق الأمر بفهم ونشر وتطبيق الفكر الليبرالي . ويمكن أن يكون الأمر كذلك بالنسبة للشعوب الأخرى عربية كانت او غير عربية والتي تريد الإنضواء تحت راية الليبرالية التي لا ينبغي لها أن تلتصق بقومية أو دين أو فئة ما .
لا اعتقد أن هناك ما يعيق دون تحقيق هذا المشروع إذا ما إتجه العمل لتبني الفكر الليبرالي من خلال محتواه الإنساني اللتقدمي الملتزم بمصالح الجماهير والساعي لتحقيق تطلعاتها , خاصة في تلك المجتمعات التي تعاني من الدكتاتوريات السياسية أو الوصاية الفكرية المتحجرة او الإستغلال الإقتصادي البشع أو جميعها مرة واحدة .
أضم صوتي إلى صوت الأستاذ الجليل الدكتور سيار الجميل وارجو أن يجد صوته هذا أصداءً له بين الشعوب التي تنظر إلى إشغال مكانها بين شعوب الأرض التي أزاحت عنها أفكار الظلام وواصلت مسيرتها على طريق العلم المنير يدعمها العمل والتسامح والسلام .
21.5.2005سومريون نت
شاهد أيضاً
مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !
قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …