يسعدني جدا ان اطّل على القراء العراقيين الاعزاء من نافذة ( الصباح ) الغراء في بغداد سيدة البلاد .. ولأول مرة اجد نفسي حّرا وأنا اكتب في صحيفة عراقية صدرت بعد سقوط الجلاد .. دعوني اطّل عليكم كل اسبوع بمكاشفة جديدة لا اريدها ان تكون ثقيلة الدم بل اريدها ان تخط رسوما حقيقية على تراب العراق من اجل مستقبل جديد للعراق واجياله القادمة .. مستقبل لا يدرك الا بمجموعة اسس اتمنى ان تغدو قيما حقيقية وجزءا من تقاليد التفكير عند العراقيين المعاصرين .
ولا يمكن ان نمشي نحو ذلك المستقبل الا على هدى ” مبادئ ” ينبغي ان يعشقها كل العراقيين .. وكم تعلمون قرائي الاعزاء ان ” المبادىء ” لا يمكنها ان تطعمنا ولا تسقينا ولكنها تجمعنا على طريق عراقي واحد نحترم فيه اشارات المرور في ما بيننا .. وهو من اهم ما يمكن تحقيقه .. ولكن نهايات الطريق – كما يسميه القادة – او نهايات النفق – كما يسميه المثقفون – لا يمكننا سلوكه من دون آليات واساليب كالوعي الجمعي والشفافية وبعد النظر والمشاورة والامتثال للقانون وطريقة التصرّف والشجاعة الادبية والكلام المسؤول والمتابعة واعادة بناء التفكير .. الخ
كل هذا او ذاك يحتاجه العراقيون ضرورة ماسة بعد قرابة نصف قرن مضى خسروا خلاله ما لم يخسره اي شعب من الشعوب .. وعانوا خلاله ما لم يعانه اي شعب من الشعوب .. وخاضوا حروبا متنوعة لم يخضها اي شعب من الشعوب في هذا الوجود .. وكانوا وما زالوا تنضح دماءهم وتتمزق اشلاءهم ولا يعرفون اي مستقبل او مصير ينتظرهم !
ان طريقهم المزروع بالاشواك والادغال وبكل المنغّصات لا يمكنهم اجتيازه من دون اسلوب خاص في المكاشفة ، وهذه ” المكاشفة ” تتفوق على المصارحة ، اذ لابد ان تتدفق عند الجميع بدل ان تبقى بين اثنين .. فالمكاشفة مطلوبة عند جميع العراقيين حتى ينفتح هذا على ذاك ضمن اجندة وطنية حقيقية تتضمن مشروعات ثّرة ديدنها الايثار واحترام الرأي والرأي الاخر .. انها ضرورة اساسية لكل العراقيين في ممارسة الحق الطبيعي في نقد الظواهر الناشزة وتفكيك كل ما يعّبر عن تلك ” الظواهر ” من خطاب .. ناهيكم عن رصد كل الخطايا التي ترتكب كل يوم بحق العراق والعراقيين ..
منهج ” المكاشفة ” ليس من السهولة الحذاقة فيه والتمرّس عليه بعيدا عن العصف وبعيدا عن الاحقاد وبعيدا عن الكراهية وبعيدا عن الاقصاء وبعيدا عن الالغاء وبعيدا عن اخفاء البلايا وهي مفضوحة عند الجميع ..
منهج ” المكاشفة ” يحتاجه العراق بعد خروجه من تاريخ عقيم امتد زمنه لاربعين سنة او اكثر .. فهو يمارس دوره عند العراقيين وهم يبدأون زمنا مختلفا .. زمنا لم يزل مختنقا على اصعب ما يكون الاختناق !
ان العراقيين مدعوون اليوم اكثر من اي وقت مضى الى ان ينزعوا عنهم جلود الماضي الصعب السميكة .. عليهم ان يرفعوا الاقنعة عن وجوههم التي شوهّتها لاربعين سنة مرّت عليهم .. عليهم ان يغّيروا من سلوكياتهم السياسية التي لا تجد في الميدان الا اعلان الشعارات وترديد العبارات والثرثرة بالمصطلحات .. وكلها من نتاج زمن مضى وانتهى طفحت فيه الايديولوجيات وكل الفواحش والاغلال ..
عليهم ان يبدلوا اذهانهم من حالتها المركبة الى نمط جديد من التفكير .. حالة كانت ولم تزل تزدحم فيها الثنائيات والمزدوجات مما خلق لديهم فوضى عارمة من التناقضات وهذا من اخطر ما تتصف به سلوكيات المجتمعات المفككة !
ان العراقيين تلزمهم العقلية البراغماتية العملية كما كان عليه آباؤهم وأجدادهم .. اذ لا ينفعهم قتلهم للزمن في بقائهم يغرفون من لا شيئ . انهم بأمس الحاجة للتخلص من مخيالاتهم ومما زرع في لا وعيهم من طوباويات مميتة على امتداد نصف قرن .. اذ يكفيهم يعتقدون الخيال حقائق وما زالوا ينتظرون تحقيق اهداف خرافية لا يمكن ان تتحقق بسرعة اندماجية .. لقد ذبحوا حناجرهم من اجل الوحدة والحرية والاشتراكية .. فماذا تحقق من ثالوث البعث مثلا ؟ وماذا تحقق من عشرات الاهداف التي دفعوا دماءهم الزكية في سبيلها .. واليوم لم يعد العراقي – اي عراقي – يتذكر ما الذي كان يريد تحقيقه بسرعة مذهلة .
انني اعتقد بأن مثل ” المكاشفات ” ستخدم التفكير العراقي المعاصر من جوانب عدة اهمها محاولة تبلور وعي جديد بالعراق وبأهمية العراق وطنا قويا موحّدا ومتطورا يقع في قلب معادلات منطقة الشرق الاوسط . نعم ، اتمنى ان تعمل هذه ” المكاشفات ” على تحديث الوعي السياسي الصعب والوعي بالمجتمع ونسيجه وثقافته . ان هذا النمط من ” التفكير والممارسة ” بحاجة الى الصدقية في الطرح والقوة في التضمين والشواهد في المعالجة والمقارنة بين النتائج ..
وأخيرا دعوني اقول بأنها مساهمات أود من خلالها ان اقدم ملاحظاتي وتأملاتي وافكاري ومعلوماتي وبعض الدروس المعّبرة عن واقع مؤقت مأزوم .. نسعى للخلاص منه مهما كلّف الثمن . انها مساهمات جادة في نقد ما اراه لا يستقيم وبناء العراق .. انها مكاشفات تقّدم فلسفة جديدة من اجل بناء العراق .. وانها مكاشفات تنبئ عن مشروعات حيوية في كل مجالات الحياة .. متمنيا ان نخّط فعلا رسوما حقيقية للاجيال المقبلة التي ستتحمل من بعدنا مسؤولية العراق .. انه حلم جميل ما زلت احلمه منذ سنين برغم كل الآفات والكوارث . دعوني ازرع شيئا جديدا من اجل العراق .
الصباح ، 18 نوفمبر 2005
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …