عندما سألني محدّثي قبل ايام في احدى القنوات الفضائية عن افكاري حول تأسيس دولة عراقية جديدة بعد دولة 1921 ودولة 1958 ، أجبته بأن الدولة العراقية السابقة قد تأسست في العام 1921 ولم تتغّير في العام 1958 ، بل تغّير نظام الحكم من ملكي الى جمهوري ، لأن كل المؤسسات العسكرية والمدنية بقيت الحياة تسري فيها ، بل وان رجال النظام الجمهوري كانوا جزءا من النظام الملكي السابق . وعليه ، فان الدولة العراقية في القرن العشرين عاشت 82 سنة ، وهو اقل بقليل من عمر الدولة الاعتيادية الذي يقّدر بثلاثة اجيال ( = 90 سنة ) وان دولة العراق الراحلة قد عجّلت بنحر نفسها كونها خرجت من مأزق ودخلت في آخر وقد انهت الحروب والحصارات قوتها ومكانتها وانقطاعها عن المجتمع الدولي . وعليه ، فقد استدعى التاريخ وضع حد لنهايتها علما بأنها لو نجحت في تغيير سياساتها واساليبها ، بل وحتى نظام حكمها لاستطاعت ان تجدد نفسها فتعيش لمدى زمني اطول بسبب قوتها الاقتصادية ، ولكن طيش قيادتها قادها الى وضع حتف لحياتها في العام 2003 .
العراق بين نظامين
اليوم ، تبدأ الحياة العراقية تاريخا جديدا وهي تعيش فراغا تاريخيا هائلا بعد انسحاب الدولة السابقة بكل ما خلفته من آثار سياسية واجتماعية وسايكلوجية وحربية مدمّرة في كل مرافق الحياة .. وكلنا نتلمس منذ سقوط النظام السابق الحالة المأساوية التي يعيشها العراق منتقلا في ظل الاحتلال من حالة الى حالة اخرى ربما يفسرها البعض دليل تحّسن وربما يفسرها البعض الاخر دليل انهيار . ولقد انتجت الاوضاع الجديدة جملة هائلة من المشكلات التي هي بأمس الحاجة الى مستلزمات اساسية كنا قد طالبنا بها ولم نزل نسعى لتحقيقها من اجل سد حاجات المجتمع العراقي الذي وجد نفسه لأول مرة متحررا من كل ضوابط النظام القديم ، ولكنه لم يزل يعيش تداعياته المريرة وآثاره الصعبة ..
ان من أسوأ ما حدث في المجتمع ، يتمثّل بالانقسامات التي خلقتها فوضى يعرف العراقيون اليوم ما هي الاسباب الحقيقية التي كانت وراء اذكاء الانقسام الوطني في البلاد اولا ويدركون ايضا عوامل صناعة الفوضى في المجتمع ثانيا . ان العوامل جد كبيرة ومعقدة يتحملها كل من اثار النظام السابق وسياسات النظام الجديد ، بحيث لم ينجح هذا ” الاخير ” في وضع حلول جذرية وخطوط حمراء لأية صراعات داخلية منذ اللحظات الاولى . ان الاحتقانات التي تزداد يوما بعد آخر لا يمكنها ان تحل من خلال مؤتمر ” مصالحة ” ينعقد في القاهرة بعيدا عن امنيات العراقيين الحقيقية . وان مشكلات العراق ومعضلاته الصعبة لا يمكن ان يحّلها اجتماع لفرقاء سياسيين من العراقيين على ارض غير عراقية وهم يتصارعون على ارض عراقية .. ولا يمكن ان ينعقد اي مؤتمر تحت لافتة ” المصالحة ” والارهاب يضرب اطنابه في العراق ، ولا يمكن ان نضحك فيه على انفسنا وعلى واقع حقيقي لنزيّفه واقعا لا اساس له من الصحة ابدا ، اذا لم يكن هناك اجماع حقيقي من قبل كل العراقيين على ان تبدأ صفحة جديدة بعيدا عن اي فتنة وعن اي مشروع للقتل وعن اي مشروع للطائفية وعن اي مشروع للتفجير والتفخيخ وعن اي مشروع للدمار .. وعن اي مشروع لقتل العراقيين . ان الضرورة تقتضي ان يجتمع كل العراقيين على مبادئ عراقية مدنية مستنيرة غير تلك التي الفوها على مدى زمني طويل ، او تلك التي تبلورت بعد سقوط الجلاد وركضوا للتصويت عليها من دون اي ادراك متبادل للعراق واسرار مشكلاته ..
مشروع المبادئ الستة
نستطيع ان نحدد بعض هذه ” المبادئ ” التي ارى انها السبيل الامثل للخروج بالعراق من ازمته والعراقيين من مخاضهم الصعب ، تلك ” المبادئ ” التي ناديت بها منذ سقوط النظام السابق حتى الان ولا من مستمع لها ، ولا من مجيب عليها :
1/ العراق فوق كل شئ ، اذ لا يمكن تسويغ وتبرير اي ظاهرة او جزئية او مسألة أو قضيّة فوق العراق . ان العمل بأي اجندة غير عراقية والتغني او التشدق بالوطنية مرفوض تماما تحت اي باب . وهذا ” المبدأ ” سيوفر الفرص يوما بعد آخر لخلق ارادة وطنية غير مثلومة ولا متحيزة .. كما وستحّرم على كل مسؤول تسّول له نفسه ينطق باسم هذا المذهب او هذا الدين او هذه الاكثرية او تلك الاقلية او تلك العشيرة او هذه الطائفة . وعلى قادة العراق اليوم وغدا ان يكونوا فوق كل الميول والاتجاهات كما علمنا تاريخ العراق .
2/ شمول الحياة السياسية الجديدة بالعراق بالسياسيين من دون اي شعارات دينية او طائفية او عرقية او جهوية وتهيئة المجال لبروز جيل سياسي جديد يؤمن بالسياسة ويعمل من خلالها. وعلى كل الاحزاب والجماعات والتكتلات العراقية ان تبدّل انظمتها الداخلية بالغائها اي مبادئ ” غير سياسية ” والاعلان للملأ عن ذلك حتى وان اقتضى الامر تبديل تسمياتها ، بحيث لا نجد في الساحة السياسية العراقية الا ساسة فقط . أشدد القول بان مبدأ القطيعة ( او : الفصل ) بين تجليات الدين الحنيف عن مستنقعات السياسة والاعيبها سيخلص كل العراق من الانهيار والعنف والصراع .
3/ الانتخابات بديلا عن الاستبداد والكفاءات بديلا عن المحاصصات والتخصصات بديلا عن التوافقات والتكنوقراط بديلا عن الجهلاء .. في تشكيل اي حكومة عراقية قادمة وفي اي مؤسسات تشريعية او وزارية تنفيذية او اي مرفق من مرافق العراق الرسمي .. اذ لا يمكن للبلاد ان تتحرّك بايدي متعبة ومتضاربة بانتماءاتها كونها جاءت باسلوب تحاصصي او حتى توافقي ، وهذا ” المبدأ ” لا يتحقق الا اذا تحقق كل من المبدأ الاول والمبدأ الثاني في اعلاه ، شريطة ان يتحقق ذلك بضمانة مجلس اعلى للمراقبة تؤلفه اطياف العراق من اعيان البلاد .
4/ ترسيخ حكم القضاء والقانون من خلال ضبط العمل في الاجهزة القضائية واحترام ارادة القضاء العراقي وسريان الاحكام من دون اي تدخلات وبسرعة من دون اي تلكؤ ، ومعرفة اختيار العناصر القضائية النزيهة والشجاعة والمتمكنة في ادائها واحكامها للقضاء على كل الجنايات.
5/ تشريع حزمة كبيرة من القوانين والتشريعات والتعليمات التي هي ضرورة اساسية للحياة العراقية وخصوصا في المسائل الحساسة التي تخدم العراق والعراقيين لتعزيز المبادئ في اعلاه ، وان يشهد العراق وكل العراقيين تأثير المتغيرات الداخلية بسرعة كبيرة بالقضاء على الفساد والانحلال ، واحلال اللامركزية الادارية في حكم المحافظات لكي تتمتع كل محافظة بشخصيتها ، وتأمين حاجات الناس فيها .
6/ اختيار مبدأ السلم في الداخل والسلم في الخارج اساسا لبناء الامن والاستقرار في الداخل مهما كان الثمن .. وخلق كل الاسباب التي تمنع اي تسلل او اختراق للعراق وان يتم ذلك جنبا الى جنب عملية التفاوض مع قوى التحالف المنتشرة في العراق على جدولة زمنية للانسحاب عن تراب العراق .
واخيرا : بماذا نطالب ؟
انني اعتقد بأن العراق الرسمي ان سار على هذا الدرب الصعب ونجح في قيادة العراق الشعبي .. بغرس كل عراقي هذه ” المبادئ ” في ضميره ووجدانه ، فسيسجل حالة فريدة من نوعها في تاريخه . وسيبدأ العراق يتحرك بالاتجاه الصحيح ، وبعكسه فستبقى الحالة تتقهقر من سيئ الى أسوأ .. فهل سيحدث كل هذا ؟ قولوا معي وصفقوا ايها العراقيون منادين : ان العراق اثمن شيئ في هذا الوجود .
الصباح البغدادية ، 14 ديسمبر 2005
الرئيسية / الشأن العراقي / مكاشفات.. العراق الاثمن في هذا الوجود : مشروع مبادئ عراقية لا يحققّه ( مؤتمر مصالحة ) !!
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …