الرئيسية / حوارات / مع البحاثة والمؤرخ الدكتور سّيار الجميل حول التاريخ العثماني.. العرب تميّزوا بمشروعهم النهضوي الحديث حوار اجراه الاستاذ جهاد ( جوزف ) فاضل

مع البحاثة والمؤرخ الدكتور سّيار الجميل حول التاريخ العثماني.. العرب تميّزوا بمشروعهم النهضوي الحديث حوار اجراه الاستاذ جهاد ( جوزف ) فاضل

 مجلة الحوادث اللبنانية العدد 56 في 31 يوليو 1998
سّيار الجميل : العالم الاسلامي في أزمة حضارية مع الغرب منذ قرنين
الدكتور سيار الجميل استاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت بالاردن ، معروف بدراساته المعمّقة حول التاريخ العثماني . والتاريخ العثماني كما هو معروف متداخل في حقبات كثيرة منه ، ان لم يكن في اكثر حقبه ، مع التاريخ العربي ، ومنذ استولى الترك على مقاليد الجيش العربي العباسي في عهد المعتصم ، والتاريخان يصعب فك الارتباط بينهما . ولعل الجفاء التركي – العربي المستمر منذ نهاية الحرب العالمية الاولى الى اليوم ، مرّده انفصام العرى بين الشعبين وشعور كل منهما انه أساء للاخر .
وفي دراسات الدكتور سيار الجميل المتمحورة حول التاريخ العثماني الكثير مما يلقي الضوء على العلاقات العربية – التركية وما يفّسر وثوق العرى وانفصامها في آن . فقد كتب في هذا المجال عدة دراسات ابرزها : العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث من العثمنة الى العلمنة ( مركز دراسات الوحدة العربية ) وقد اشتهر بمشروعه ” تكوين العرب الحديث ” وقد صدر في اربعة اجزاء .
الحوادث التقت بالدكتور سيّار الجميل واجرت معه حوارا حول التاريخ العثماني والصلات الوثقى التي تربط العرب بالاتراك . وقد بدا الحوار بالسؤال التالي :
· ” الحوادث ” : كيف بدأ اهتمامكم بالتاريخ العثماني وكيف تطور لاحقا ؟
د. سّيار الجميل : منذ سنوات الدراسة الاولى انتبهت الى جملة من الاسس والركائز التاريخية التي لابد من الاهتمام بها في ظل التغييرات السياسية والفكرية الصعبة التي اجتاحت عالمنا العربي بعد هزيمة 1967 . وافول الجيل العربي القديم الذي تحمّل جملة من المشاكل والتحديات على امتداد القرن العشرين ، وبروز جيل عربي جديد غابت عن ذهنه ابرز تلك الاسس والركائز التاريخية على مستوى الدولة والمجتمع العربيين . وقبل اكثر من عشرين سنة شدّتني محاضرات الاستاذ الكبير البرت حوراني في جامعة اكسفورد التي كان لها وقع كبير في مسار تخصّصي وتفكيري الذي زوّدته بقراءات ابرز العلماء الذين كتبوا بمهارة عن تكوينات الشرق الاوسط : جارلس عيساوي في التواريخ الاقتصادية وزين نور الدين في التواريخ السياسية ، وخليل انالجيك في التواريخ العثمانية ، مع تطبيقات المستشرق سارجنت في جامعة كيمبردج في المخطوطات والمستشرق بوزورث في التواريخ الكلاسيكية التركية . وكنت مع جماعة من المحصلّين لدرجة الدكتوراه ابرزهم الاصدقاء : كارل باربير وبرسي كيمب ودينا خوري وهاله فتاح وتوماس لنك وغيرهم نكتشف المزيد من الحقول التاريخية المهمة الغائبة التي تفتقد من المعالجات .. فكان لكل واحد منّا اسلوبه وطريقته ومنهجه في بناء فلسفة وتقديم مفاهيم .
لقد تطور ذلك ” الاهتمام ” الى ” وظيفة ” و ” حرفة ” باكتساب مهارات عدة في عدد من الجامعات والهيئات العلمية والمؤتمرات والندوات .. فضلا عن عدة قراءات متنوعة ، ودراسة مفاهيم عديدة ونظريات متباينة حول السيرورة العثمانية وتكويناتها التاريخية وتداعياتها على مجتمعات الشرق الاوسط سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وفكريا . وبدأت اكتسب منذ بداية الثمانينيات ، فهما جديدا بتأسيس مشروع علمي متواضع دعوته بـ ” تكوين العرب الحديث ” بثلاثة كتب واعمل على تأليف الكتاب الرابع ( تكوين العرب المعاصر 1917- 1997 ) وفيه دراسة لمؤثرات الكتاب العرب والعثمانيين معا في سيرورتنا العربية ابان القرن العشرين . وثمة دراسات وبحوث منشورة بالعربية والانكليزية في حوليات وانسكلوبيديات وكتب ومحاضر مؤتمرات حول طبيعة العلاقات العثمانية العربية والمقارنات بين العرب والاتراك في عمليات التنظيمات والاصلاحيات والتحديثات . ولا يمكنني ابدا اغفال دور الجماعة الجديدة من المؤرخين العرب والتي انتجت اصدارات ناضجة وممتازة من الاعمال العلمية في التواريخ العربية – العثمانية سواء كانوا من الاردن ام لبنان او تونس والجزائر ام مصر وغيرها . منتجات لها قيمتها الوثائقية والمنهجية والمعلوماتية .. ولكن ؟ نحتاج نحن العرب الى جيل جديد من المؤرخين المفكرين الذين يتوفرّ لديهم وازع التفكير والفلسفة وتفسير طبيعة العلاقات التاريخية وتأسيس عقل جديد في فلسفة التاريخ العربي الحديث .. بعيدا عنه النصّية والتخصّصية والمحدودية العلمية ، وقطيعة عن المرجعيات التقليدية والايديولوجية والسياسية وغيرها .
· ” الحوادث ” : ما هي حقيقة الصلات التاريخية التي تربط بين الامة العربية والاتراك ؟
د. سيّار الجميل : الصلات قديمة تاريخيا وقد تجاذبتها عوامل متباينة ومضامين معقّدة لها مواريث واسعة ، اذ كان الفرس والروم ( اقصد بالروم : الاتراك حاليا كما كان يسميّهم المؤرخون القدماء ) هم من اقرب الشعوب الى العرب تعاملا وتعايشا بحكم الجيرة الجغرافية اولا وبحكم المبادلات الاقتصادية والثقافية ثانيا ، وبحكم الوازع الديني والمقاربات السياسية ثالثا .. وعلى الرغم من قلة البحوث والدراسات العلمية العربية والتركية الحديثة التي بحثت في حقائق تلك الصلات ، الا ان ثمّة توجهات ومبادرات مشتركة في هذا الباب بدأت تنشرها جامعات ومراكز بحوث ومؤسسات . ومن خلال خبرتي المتواضعة في هذا الميدان ، الا انني أرى بأن العرب هم الاكثر اهتماما بهذا الجانب ليس من خلال الوازع التاريخي المشترك الذي يربط الامتين معا بسلبيات وايجابيات وليس من خلال العلاقات السياسية المعاصرة المتنافرة حينا والمتلاقية حينا آخر .. ولكن اعتقد انها تأتي من خلال رؤية حيادية وعلمية من اجل بناء مصالح مشتركة ازاء المستقبل .
ولابد لي من القول ان عوامل التلاقي في تاريخنا المشترك هي الاكثر وجودا ورسوخا وحقيقة من عوامل التنافر .. وعلى الرغم من التوجهات التركية منذ القدم في ان ذلك لم يمنع من البحث عن الجسور المشتركة بين الطرفين وخصوصا ، استفادة الاتراك على امتداد قرون طويلة من المواريث العربية في الفقه وآليات الحكم والوقفيات والمواريث الادارية وأدبيات العرب في الثقافة وشراكة العرب في العادات والتقاليد الاجتماعية بعيدا عن الممارسات السياسية والادارية والاقطاعية الباشوية الصعبة التي مورست ازاء العرب وغيرهم ! ومع كل هذا وذاك ، فان العرب وعلى امتداد قرون طويلة كانت لهم توجهاتهم المتباينة ازاء الاتراك في حكمهم لهم ، بين مستقل عنهم الى مهادن لهم الى متعاون معهم الى معارض لسياساتهم ومحارب ومنتفض عليهم . اما في القرن العشرين ، فان الصلات بين الطرفين كان من المرجو ان تكون افضل مما كانت عليه في الماضي ، وبحكم المصالح المشتركة ، الا ان واقع السياسات المضطربة وللدول الجديدة التي انبثقت بعد مؤتمر الصلح عام 1919 ولوزان 1920 قد أبقت على الجراح التي يدّعي كل طرف بأن الطرف الاخر هو الذي سببّها وخصوصا منذ حكم الاتحاديين .. وعلى الرغم من تطور الصلات بين الجانبين في النصف الاول من القرن العشرين ، الا انها تخلخلت بينهما في النصف الثاني منه بحكم عامل التكتلات الدولية وانقسام العالم .
· ” الحوادث ” : ولكن كيف تتصور مستقبل العلاقات بينهما ؟
د. سيار الجميل : ثمة مشاكل بين الطرفين اليوم على مستوى الازمات لا على مستوى المعضلات ، ويمكنها ان تحّل بينما بشكل متكافئ على اساس المصالح المشتركة لا على اسس اخرى .. ولقد عالجت تفصيلات ذلك وبتوسّع من اجل بناء مستقبل مشترك لاجيالنا في الفصل الاخير من كتابي الجديد ( العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث : من العثمنة الى العلمنة ) الذي نشره مركز دراسات الوحدة العربية في نهاية عام 1997 معالجا فيه : الخيارات السياسية والفكرية لكل من العرب والاتراك ، ولعل ابرز ما يمكنني تسجيله من الركائز العلمية التي يمكنها ان تحكم طبيعة مستقب العلاقة المشتركة :
1) الفهم المشترك على مستوى رسم السياسات من قبل القيادات وتفكير النخب المثقفة والقوى السياسية والفكرية .. بما هو عليه الوضع الدولي المقبل والعولمة الجديدة بكل ما يحفلان به من توجّهات وآليات وميكانيزمات وعمليات .. وموقع كل من العرب والاتراك في ظل المتغيرات المستقبلية .
2) ايجاد حلول عملية مشتركة بين الطرفين لكيفية التعامل مع مشاكل الشرق الاوسط .. وعلى رأسها الصراع العربي – الصهيوني وحاجة تركيا الى العرب قبل اسرائيل ، من خلال تعزيز تركيا لموقعها في الدائرة الاقليمية قبل استماتتها للدخول في الدائرة الاوربية دون جدوى !
3) ان كلا من الركيزتين اعلاه سينقلان تركيا لفهم جغرافيتها ومستقبلياتها الاقليمية .. لكي تراعي حقوقها وحقوق العرب في مسألة المياه المشتركة التي لا يمكنها ابدا ان تذكيها دوما بوجه العرب ( وخصوصا سورية والعراق ) خصوصا وان ذلك سيجّر الى صراع حقيقي بين العرب والاتراك لا سمح الله .
4) مراعاة كل من العرب والاتراك وخصوصا الدول المتجاورة للسياسات الداخلية ازاء القوميات والاقليات والطوائف المشتركة بين الطرفين سواء من الاكراد ام التركمان ام الارمن .. وغيرهم لابعاد شبح التدخلات الخارجية وذلك بمنح العرب والاتراك معا الحقوق الذاتية والسياسية والاجتماعية والثقافية لتلك القوميات والاقليات والجماعات من اجل ابعاد المنطقة عن واقع التمزقات الذي يجّر بالضرورة الى تفككها في المستقبل .
انه بدون الثوابت اعلاه ، فسيبقى مصير العلاقات بين الطرفين محكوما بالفشل والمزيد من التداعيات والتباينات في الشرق الاوسط الذي سيختلف حتما عن واقع مناطق اخرى في العالم تحكمها التكتلات الاقليمية ازاء كل من النظام الدولي القادم والعولمة الجديدة . واغتنم هذه المناسبة لأقول بأن ليس من مصلحة العرب ابدا خلق عدو جديد لهم في القرن الحادي والعشرين .. والاجدى لهم ولمستقبل اجيالهم ايجاد اي نوع من صيغ التفاهم والاتفاق ليس مع تركيا فحسب ، بل مع بقية الجيران وفي مقدمتهم ايران .
· ” الحوادث ” : لقد شرعت بكتابة التاريخ العربي – العثماني من جديد ، وانك القيت نظرات علمية ورؤى فلسفية جديدة عليه . فما هي الخطوط المنهجية الاساسية التي اتبعتها في ذلك ؟ والنتائج التي خلصت اليها ؟
د. سّيار الجميل : لست الوحيد الذي شرع بكتابة هذا ” التاريخ ” من جديد عربيا … فهناك عدد من العلماء والمؤرخين العرب الممتازين الذين اثروا جوانب اساسية منه وتمتع قسم منهم بمنهجيات عالية المستوى سواء على مستوى المعلومات او التوثيقات او الاستنتاجات . ومع كل ذلك ، فان حياتنا المعاصرة وتعقيداتها الواسعة بحاجة الى المزيد من الاعمال التاريخية التي يمكنها ان توظف سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا من اجل بناء المستقبل . وهذا ما اريد التوّصل اليه .. اي ان نستفيد من المعلومات التاريخية المتنوعةالتي ازدحم بها التاريخ العربي – العثماني بشكل خاص وتحويلها من معلومات ساكنة وخاملة الى حوافز حية ودافعة لمعالجة الحاضر وبناء المستقبل . أي بمعنى : توظيفها الحقيقي من خلال منهجية رؤيوية لها خطواتها العلمية وركائزها الفلسفية التي يمكنني اختزالها بالمقترحات التالية :
1) المعرفة التخصصية الدقيقة للتكوينات التاريخية ( وخصوصا الاجتماعية والاقتصادية ) التي عاشت ابان الفترات العثمانية وبيان مدى علاقتها بالواقع المعاش والتفكير السائد عصر ذاك .. وبالحياة العثمانية التي غفلت ذلك الواقع وذلك التفكير . وهنا تكمن الغاية المرجوة من هذه ” المعرفة ” التي لم يزل العرب بعيدين عنها ، نظرا للمسارب الجامدة التي تخندقوا بها ، وتشرنقوا فيها .. سواء كانت نصّية ماضوية او ايديولوجية سياسية أو تقليدية سردية .. الخ والمطلوب : منهجية رؤيوية وبنائية في المعرفة العربية التي لها القدرة في الكشف عن رواسب الماضي العثماني وبقاياه السالبة التي لم تزل تعيش حية لم تمت في اللاوعي الجماعي وبكل خطاياها المريرة سواء في المعاملات اليومية ، او التفكير الوهمي ، او التربويات الخاطئة وصولا الى الممارسات السلطوية !!
2) محاولة الكشف عن ابرز القيم والمعاني والافكار الايجابية التي زاحمتها على امتداد القرون المتأخرة جملة واسعة من التحديات القاسية في تاريخ المجتمع العربي .. ولابد من القول هنا بأن ليس هناك اية فرصة حقيقية للعرب في تقدّمهم وبناء مستقبلهم .. الا من خلال ممارساتهم لنقد تاريخهم ونقد تفكيرهم ونقد مواريثهم التي غدت جميعها بمثابة ” آيات مقدّسة ” اوصلتهم الى ما هم عليه اليوم . ان اسلوب القطيعة التاريخية بين العرب وبين مستقبلهم سيحررهم – دون شك – من سكونياتهم وتواكلياتهم وسلوكياتهم وسلطوياتهم وتكاسلاتهم وتمزقاتهم واغتراباتهم واحباطاتهم وعاطفياتهم ومخيالاتهم وتآمراتهم وانقساماتهم .. الخ
ان كل هذه المشاكل العميقة والصعبة لا يمكن حلّها ابدا دون معرفة جذورها التاريخية التي نكتشفها على امتداد القرون العثمانية المتأخرة التي تخّلف فيها المجتمع العربي كثيرا
من خلال انغلاقاته وارتعاباته وعشائرياته وارتخاءاته وشعوذاته وطرقياته وانسحاقاته .. الخ . ان ( المعرفة العربية ) حتى يومنا هذا تعّبر عن نفسها بعيدا وبعيدا جدا عن البقايا والجذور التي ذكرتها .. فنحن نلحظ بأن جملة واسعة من البحوث والدراسات العربية في التاريخ والفلسفة والاجتماع والادب والنقد .. تكون على صنفين اثنين : اما انها ماضوية التفكير ، سردية الكتابة ، تقليدية المنهج .. او انها تجديدية التفكير ، تحليلية الكتابة ، اجنبية المنهج .. وعلى الرغم من ولادة مفكرين عرب ممتازين ، الا انهم بقوا بعيدا عن اختراق نسيج الماضويات الاجتماعية وتعرية كوابحها التاريخية في الوقوف على البقايا والجذور .. وتجد تفاصيل ذلك كله في كتابي : بقايا وجذور : التكوين العربي الحديث .
· ” الحوادث ” : كيف تنظر الى تجربة تركيا المعاصرة ( اتاتورك ، العلمانية ، التغريب ) وامكانية الاستفادة منها ؟
د. سّيار الجميل : هذا سؤال كبير والاجابة عليه واسعة المسافات ، فالعالم الاسلامي بأجمعه في أزمة حضارية مع الغرب منذ قرنين . واتسعّت الازمة الى مشكلات بل ومعضلات في القرن العشرين الذي بدأ فيه كل من العرب والاتراك يبحثون فيه ، بل ويناضلون من اجل التوصّل الى غايات متنوعة : الهوية والتحرر والاستقلال والنهضة .. الخ وكان لكل من العرب والاتراك اسلوبه وآلياته وايديولوجيته في التعامل مع الغرب . واذا كانت تركيا قد وجدت لها الزعامة الكاريزمية متمثّلة بـ ” اتاتورك ” في صياغة ايديولوجية كمالية لم تزل سارية المفعول في تركيا حتى يومنا هذا .. وقد رسخّت (6) ثوابت اساسية للامة التركية متمثّلة بـ ( الجمهورية / الدولتية / العلمانية / الاستقلالية / التغريبية / الوطنية ) . فليس معنى ذلك ان العرب لم تكن لهم اية خيارات كالوطنية او العلمانية او التغريبية .. في رسم تعاملاتهم مع سياساتهم الداخلية ازاء انفسهم وسياساتهم الخارجية ازاء الاخر ! ولكن ثمة تباينات واسعة بين الطرفين سواء في الثوابت الايديولوجية ام الممارسات السياسية والفكرية ! علينا ان ندرك ونستوضح عن جذور تلك ” التباينات ” :
1) صحيح ان الاتراك قد لمّوا شعثهم في دولة قومية واحدة في ظل زعامة كاريزمية واحدة .. وخلق ايديولوجية كمالية واحدة .. لكن العرب تفرقوا في كيانات سياسية ( وليس في دول حقيقية ) متعددة في ظل زعامات متصادمة ومع ولادة ايديولوجيات سياسية مختلفة وبقي عندهم الهاجس القومي يعمل في مخيلتهم لا في واقعهم من اجل وحدة الامة الذي تحّول الى وعي عربي مزيّف وعدم ادراك بانتفاء قيمته رهين الشعارات والسياسات والممارسات المتباينة في ظل اقسى التحديات التاريخية ، وفي مقدمتها اسرائيل .. وما جرت على المنطقة العربية من ويلات وهزائم وانتكاسات !
2) ليست المشكلة الاساسية عند العرب والاتراك ( الزعامات والعلمنة والتغريب وغيرها ) ! ان المشكلات اعمق من ذلك بكثير .. ذلك لأن كلا من العرب والاتراك والايرانيين وبقية القوميات والاقليات العرقية في المنطقة يعيشون على امتداد القرن العشرين معضلات داخلية متفاقمة على مستوى الدولة وصياغتها القانونية والشرعية .. وعلى مستوى المجتمع وطبيعته وتناقضاته الواسعة .. وعلى مستوى التفكير وانقساماته الثقافية وثنائياته بين التقليديات والتجديدات .. واعتقد ان هذا سيجّر في المستقبل الى مشكلات وصدامات حقيقية تفجّر المنطقة من داخل حصونها اذ جميعنا يعلم ما تعّج به منطقتنا من اعراق وقوميات ولك ان تقرأ تواريخ الاكراد والارمن والآثوريين على سبيل المثال لا الحصر.. ناهيكم عن مستوى الانتماء بين الدين والمواطنة ، بين مواريث التاريخ والحداثة .. الخ
3) من الصعب جدا قياس حالة تجربة الاتراك على العرب والايرانيين في القرن العشرين .. ان للاتراك تاريخهم ومواريثهم القديمة في التركيز الشرقي على اوروبا ، وان للايرانيين تاريخهم ومواريثهم وخصوصياتهم القديمة في آسيا .. فليس لكّل منهما مشاكل جذرية ازاء العالم خصوصا وان الدولتين لهما من الشراسة باسم المواطنة على المجتمع .. اما العرب ، فلهم ليست مصاعبهم في التعامل مع الاخر ، بل بسبب من خواء تاريخهم وضعف تكويناتهم السياسية والاجتماعية الحديثة قد ولّد عندهم المزيد من الفراغات والانكماشات والاستلابات في عدم معرفهم اساليب الوصول الى الاهداف الحقيقية في ظل واقع صعب يزدحم بالتناقضات والانقسامات . وقد اثبتت التجارب العربية العديدة المتصادمة بأن ليس هناك اية تجربة عربية مهما كانت طبيعتها قد اوصلت ( الامة العربية ) الى الحدود الدنيا من الاهداف المعلنة سواء كانت قومية ام اقليمية ام نضالية ام ثورية ام سياسية ام اقتصادية ام اجتماعية .. الخ
4) وعليه ، فليس المطلوب من العرب ان يستفيدوا من تجربة تركيا الكمالية او تجربة السوفييت اللينينية او تجربة ايران الخمينية .. الخ من التجارب ، ولكن المطلوب هو اكثر بكثير من استنساخ تجارب الاخرين وهم لم يعرفوا ان يجانسوا بين تجاربهم التي تنطّعوا بها وتذابحوا من اجلها ثم تنصّلوا عنها . لقد رفعوا اكثر من تجربة سياسية واجتماعية واقتصادية وايديولوجية .. وحاربوا من اجل كل واحدة منها ، وباتوا اليوم وكأنهم عند نقطة الصفر ، علما بأن العرب قد تميّزوا عن الاخرين في المنطقة وعلى امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين بمشروعهم النهضوي الحديث ، وكان عليهم تأسيس ثوابت واقعية فيه ومرتكزات تاريخية له قبل غيرهم من الامم .. ولكن ؟
لقد ازدحم بالتناقضات في الرؤية والتطبيق سواء على مستوى الواقع الحقيقي والاوهام الطوباوية .. او على مستوى المواريث التقليدية او التجديدات الحديثة ، وامامنا عدد من التجارب الاساسية التي كان لابد لها ان تتلاقى وتتكامل وتتناغم بمرونة وعلمية من اجل النهضة والتقدم بدل ان تتباعد وتتشاتم وتتنازع وتتصادم وتتذابح بقسوة ومرارة وجهالة واحقاد .. وخصوصا : التجارب السياسية والحزبية والفكرية والايديولوجية باتجاهاتها كاملة : الاصلاحية والسلفية والليبرالية والاقليمية والقومية والاشتراكية والراديكالية .. وصولا الى الماضوية والاصولية اليوم !
· ” الحوادث ” : هل لنا ان نسمع كلمة اخيرة ؟
د. سّيار الجميل : اخيرا اقول بأننا نحن العرب غير ملزمين باستعارة نماذج الغير وتشويه مضامينها .. وبالتالي : تشويه تجربتنا ومشروعاتنا .. اننا بحاجة الى مجموعة واسعة من البدائل الاساسية القوية المستفيدة من تجارب الاخرين كاملة ليس بما يتناسب وواقعنا في القرن العشرين .. بل بما يتلاءم ومستقبلنا في القرن الحادي والعشرين ، واشكركم .

شاهد أيضاً

ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …